تحدثتُ في الجزء الثاني من هذا الموضوع عن
تاريخ تحريف التوراة وبيَّنتُ – اعتماداً على ما يُعرَف في الأوساط العلمية باسم
«نظرية المصادر» – أن «العهد القديم» (أو «التوراة العبرانية») التي بين أيدينا
تحوي مصادر متعددة لُفِّقت لتؤلف نصاً واحداً؛ هذه المصادر هي «الإلوهيمي» و
«اليهويُّ» و «الكهنوتي» و «التثنوي»، وما ذكرته هناك هو ما تذهب إليه الأغلبية
الساحقة من علماء العهد القديم مع اختلافات يسيرة. لكنني أشرت كذلك إلى أن عملية
تلفيق المصادر تمَّت بدقة متناهية؛ إلا أنَّ آثار التلفيق لم يمكن إخفاؤها تماماً،
وهو ما سأمثِّل له هنا بقصة الطوفان.
تتألف قصة طوفان نوح - عليه السلام - كما يسجلها سفر
التكوين من روايتين في نسيج واحد: إحداهما الرواية «اليهوية» التي تشير إلى الرب
باسم «يهوه»، والأخرى هي الرواية «الكهنوتية». وسأورد أدناه جزءاً من قصة الطوفان
مميِّزاً النص «اليهوي» بالقلم الأسود والنص «الكهنوتي»
بالقلم الأحمر. وسيلحظ القارئ أن كل رواية منهما يمكن قراءتها على حدة دون إخلال
بالسياق. يقول النص:
«7: 21 ومات كلُّ ذي جسد كان يدبُّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش
وكل الزحَّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. 22 كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات.
23 فمحا يهوه كلَّ قائم كان على وجه الأرض، الناس والبهائم والدبَّابات وطيور
السماء. فانمَّحت من الأرض وتبقَّى نوح والذين معه في الفلك فقط. 24 وتعاظمت المياه على الأرض مئة وخمسين يوماً.
8: 1 ثم ذكر إلوهيم نوحاً وكلَّ الوحوش وكلَّ البهائم التي معه في الفلك. وأجاز
إلوهيم ريحاً على الأرض فهدأت المياه. 2 وانسدَّت ينابيع الغمر وطاقات السماء. فامتنع المطر من السماء. 3 ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً
متوالياً. وبعد مئة
وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من
الشهر على جبال أراراط. 5 وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر. وفي
العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال.
6 وحدث من بعد أربعين يوماً أن نوحاً فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها. 7 وأرسل الغراب، فخرج متردداً حتى نشفت المياه
عن الأرض. 8 وأرسل الحمامة من عنده
ليرى هل قلَّت المياه عن وجه الأرض؟. 9 فلم تجد الحمامة مقراً لرجلها، فرجعت إليه
إلى الفُلك لأن مياهاً كانت على وجه كل الأرض. فمدَّ يده وأخذها وأدخلها عنده إلى
الفلك. 10 فلبث أيضاً سبعة أيام أُخَر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك، 11 فأتت إليه
الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها، فعلم نوح أن المياه قد قلَّت
عن الأرض. 12 فلبث أيضاً سبعة أيام أُخَر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه ثانية.
13 وكان في السنة
الواحدة والست مئة في الشهر الأول في أول الشهر أنَّ المياه نشفت عن الأرض. فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. 14
وفي الشهر
الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفَّت الأرض. 15 وكلَّم إلوهيم نوحاً
قائلاً: 16 اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساءُ بنيك معك. 17 وكل الحيوانات
التي معك من كل ذي جسد الطيور والبهائم، وكل الدبابات التي تدب على الأرض أخرجها
معك. ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض. 18 فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء
بنيه معه. 19 وكل الحيوانات كل الدبابات وكل الطيور كل ما يدبُّ على الأرض
كأنواعها خرجت من الفلك. 20
وبنى نوح مذبحاً ليهوه. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد
محرقات على المذبح. 21 فتنسم يهوه رائحة الرضا. وقال يهوه في قلبه لا أعود ألعن
الأرض أيضاً من أجل الإنسان؛ لأن تصوُّر قلب الإنسان شريرٌ منذ حداثته. ولا أعود
أيضاً أميت كل حيٍّ كما فعلت. 22 مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحَرٌّ وصيف
وشتاء ونهار وليل لا تزال».
إن وجود روايتين متداخلتين في بعضهما ليس كل ما يميز هذا
النص؛ بل ثمة ميزات أخرى، منها: أن النص اليهوي يطَّرد في استعمال اسم «يهوه»
للإشارة إلى الرب، بينما يستعمل النص الكهنوتي اسم «إلوهيم» للغرض نفسه. كذلك تشير
الرواية الكهنوتية إلى طول مدة الطوفان حتى تبلغ بها مئات الأيام بينما تجعلها
الرواية اليهوية أربعين يوماً. كما نلحظ أن الطير الذي أرسله نوح - عليه السلام -
طليعةً كان وَفْقاً للرواية اليهويَّة «حمامة» بينما كان «غراباً» وَفْقاً للرواية
الكهنوتية. وأخيراً لا تتورع الرواية اليهوية عن تشبيه الخالق بخلقه؛ فالرب
وَفْقاً لهذه الرواية يتنسم رائحة القرابين ويندم على لعنه الأرض، تعالى الله عن
ذلك علواً كبيراً.
هذا الخلط بين مصادر العهد القديم نتج عنه تناقضات عدة.
منها على سبيل المثال قصة يوسف - عليه السلام - في سفر التكوين 37. فالرواية
الإلوهيمية تذكر أنه لما تآمر إخوته على التخلص منه صرفهم «رأوبين» عن فعلتهم
فانتهوا إلى إلقاء يوسف - عليه السلام - في الجب. فمرت قافلة من المديانيين فأخذته
وباعته بمصر. أما الرواية اليهوية فتنص على أن «يهوذا» هو الذي أقنع إخوته بعدم
قتل يوسف - عليه السلام - وأن القافلة التي أخذته كانت من الإسماعيليين (نسبة إلى
إسماعيل عليه السلام).
ومثل هذه التناقضات نجدها في مواضع كثيرة من الأسفار الخمسة
التي تُنسَب كتابتها إلى موسى - عليه السلام – كاسم كاهن مديان (مدين) الذي تزوج
موسى - عليه السلام - من إحدى بناته، فهو
في الرواية الإلوهيمية «يثرون» [التكوين 3: 1] وفي الرواية اليهوية «رعوئيل»
[التكوين 2: 16]، وكل محاولات الترقيع لا تجدي نفعاً؛ لأن تباين المصادر واضح
جليٌّ خصوصاً في الأصل العبري الذي تتمايز فيه أساليب اللغة كذلك. فالتوراة التي
بين أيدي اليهود والنصارى لا تقوم أمام النقد العلمي البتة ولا ينبغي القول بأنها
مجرد نسخة محرفة من الأصل الذي أنزل على موسى - عليه السلام - فالبون بينهما شاسع.
بل جلُّها مما كتبه الكهنة وزعموا أنها من عند الله ليشتروا بذلك ثمناً قليلاً.