إن أفضل ما اكتسبته
النفوس وحصلته القلوب ونال به العبد الرفعة فى الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان؛
ولهذا قرن بينهما - تعالى - في كتابه في مواضع:
منها: قوله - تعالى -: {وَقَالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ
إلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا
تَعْلَمُونَ} [الروم: 56].
قال ابن عاشور – رحمه
الله -: (جعل الله منكري البعث هدفاًً لسهام التغليط والافتضاح في وقت النشور؛
فلما سمع المؤمنون الذين أوتوا علم القرآن وأشرقت عقولهم في الحياة الدنيا
بالعقائد الصحيحة وآثار الحكمة لم يتمالكوا أن لا يردوا عليهم غلطهم ردّاً يكون
عليهم حسرات أن لا يكونوا قبلوا دعوة الحق كما قَبِلَها المؤمنون. وعطف الإيمان على
العلم والاهتمام به؛ لأن العلم بدون إيمان لا يرشد إلى العقائد الحق التي بها
الفوز في الحياة الآخرة. والمعنى: وقال لهم المؤمنون إنكاراً عليهم وتحسيراً لهم.
والظاهر أن المؤمنين
يسمعون تحاجَّ المشركين بعضهم مع بعض فيبادرون بالإنكار عليهم؛ لأن تغيير المنكر
سجيتُهم التي كانوا عليها.
وفي هذا أدب إسلامي، وهو:
أن الذي يسمع الخطأ في الدين والإيمان لا يقرُّه ولو لم يكن هو المخاطب به)[1].
وفي هذا دليل على كمال
عدل أهل العلم؛ فإن الله استشهد بهم على عباده، وذلك تعـديل منه لهـم، وفي هـذا من
الشرف وعلـوِّ المكـانة ما لا يخفى[2].
وهنا تساؤل: لماذا
قدَّم العلم على الإيمان؟
قال الفقيه الإمام القاضي
- رحمه الله -: (ذكر العلم يتضمن الإيمان ولا يصف الله بعلم من لم يعلم كل ما يوجب
الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعد ذلك تنبيهاً عليه وتشريفاً لأمره؛ فنبه على مكان
الإيمان وخصه بالذكر تشريفاً)[3].
وقال ابن عاشور – رحمه
الله -: (الذين أوتوا العلم هم المؤمنون؛ فإظهار لفظ {الَّذِينَ
آمَنُوا} في مقام ضمير {الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ} لقصد مدحهم بوصف الإيمان)[4].
وهنا تساؤل آخر: لماذا
قال: {أُوتُوا الْعِلْمَ}
ولم يقل: علموا؟
قال الشعراوي – رحمه الله
-: (كأن العلم ليس كَسْباً؛ إنما إيتاء من عَالِم منك يعطيك. فإنْ قُلتَ: أليس
للعلماء دور في الاستدلال والنَظر في الأدلة؟ نقول: نعم، لكن مَنْ نصب لهم هذه
الأدلة؟ إذن، فالعلم عطاء من الله)[5].
ومن الآيات التي قُرِن
فيها بين العلم والإيمان قوله - تعالى -: {يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: ١١]. عن ابن
عباس - رضي الله عنهما - قال: (يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين
لم يؤتوا العلم درجات)[6].
قال الرازي – رحمه الله
-: (اعلم أنه - تعالى - ذكر الدرجات لأربعة أصناف:
أولها:
للمؤمنين من أهل بدر قال: {إنَّمَا
الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
إلى قوله: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ}.
[الأنفال: 2-٤]
والثانية:
للمجاهدين: قال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْـمُجَاهِدِينَ
عَلَى الْقَاعِدِينَ} [النساء: 95].
والثالثة:
للصالحين: قال: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ
الصَّالِـحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه:
75].
الرابعة:
للعلماء: قال: {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ}. [المجادلة: ١١]
والله فضل أهل بدر على
غيرهم من المؤمنين بدرجات، وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات، وفضل الصالحين على
هؤلاء بدرجات ثم فضَّل العلماء على جميع الأصناف بدرجات، فوجب أن يكون العلماء
أفضل الناس)[7].
فالآية تعلمنا: أن الإيمان
الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع يؤديان
إلى الرفعة عند الله درجات[8].
إن رفع الدرجات
والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان:
قَالَ شَيْخُ
الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قَوْله - تَعَالَى -: {يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
[المجادلة: ١١] خَصَّ - سُبْحَانَهُ - رَفْعَهُ بِالْأَقْدَارِ وَالدَّرَجَاتِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ؛ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَشْهَدَ بِهِمْ
فِي قَوْله - تَعَالَى -: {شَهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْـمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً
بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].
وَأَخْبَرَ
أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ هُوَ الْحَقُّ
بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْـحَقَّ}
[سبأ: ٦] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الْحُجَّةِ وَالْقِيَامَ بِهَا يَرْفَعُ
دَرَجَاتِ مَنْ يَرْفَعُهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام: 83]. قَالَ
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بِالْعِلْمِ. فَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَالْأَقْدَارِ عَلَى
قَدْرِ مُعَامَلَةِ الْقُلُوبِ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ)[9].
وقال ابن القيم في فضل
أولي العلم والإيمان: (وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبُّه والمؤهلون للمراتب العالية)[10].
فالمراتب العالية لأهل
العلم والإيمان في الدنيا والآخرة.
فالأمة التي يعلوا فيها
أهل العلم والإيمان هي الأمة المؤهلة لقيادة البشرية إلى حياة طيبة، تعلو فيها
قيمة الإنسان، ويُعْرَف لكل عالِم فيها قدره ودرجته.
والأمة التي لا تعطي لأهل
العلم في جميع المجالات التقدير والدرجات أمة مؤهلة للتبعية لا للقيادة، وللذلة لا
للعزة، ولحياة الضنك وضيق العيش لا للحياة الطيبة.
اختلاف حقيقة العلم
والإيمان عند الناس:
أكثر الناس غالطون في
حقيقة مسمى العلم والإيمان اللذَين بهما السعادة والرفعة وفي حقيقتهما؛ حتى إن كل
طائفة تظن أن ما معها من العلم والإيمان هو هذا الذي به تنال السعادة وليس كذلك بل
أكثرهم ليس معهم إيمان ينجي ولا علم يرفع؛ بل قد سدُّوا على نفوسهم طرق العلم
والإيمان اللذين جاء بهما الرسول ودعا إليهما الأمة وكان عليهما هو وأصحابه من
بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم.
فكل طائفة اعتقدت
أن العلم ما معها وفرحت وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون وأكثر
ما عندهم كلام وآراء وخرص، والعلم وراء الكلام كما قال حماد بن زيد قلت لأيوب:
العلم اليوم أكثر أو في ما تقدم؟
فقال: الكلام اليوم
أكثر والعلم في ما تقدم أكثر.
ففرق هذا الراسخ
بين العلم والكلام فالكتب كثيرة جداً والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة
والعلم بمعزل عن أكثرها وهو ما جاء به الرسول عن الله.
قال - تعالى -: {فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}.
[آل عمران: 61]
وقال: {وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}.
[البقرة: 120]
وقال في القرآن {أَنزَلَهُ
بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]؛ أي: وفيه علمه.
ولما بعُد العهد
بهذا العلم آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار وسوانح الخواطر
والآراء علماً ووضعوا فيها الكتب وأنفقوا فيها الأنفاس، فضيعوا فيها الزمان وملؤوا
بها الصحف مداداً والقلوب سواداً حتى صرَّح كثير منهم أنه ليس في القرآن والسنة
علم وأن أدلتهما لفظية لا تفيد يقيناً ولا علماً، وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم
وأذَّن بها بين أظهرهم حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم فانسلخت بها القلوب من العلم
والإيمان كانسلاخ الحية من قشرها.
درجات الناس في
الإيمان:
أكثر المؤمنين إنما عندهم
إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول معرفة وعلماً وإقراراً ومحبة
ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه، فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول وهو إيمان الصديق
وحزبه.
وكثير من الناس حظهم من
الإيمان: الإقرار بوجود الصانع وأنه وحدَه الذي خلق السموات والأرض وما بينهما
وهذا لم يكن ينكره عبَّاد الأصنام من قريش ونحوهم.
وآخرون الإيمان عندهم هو
التكلم بالشهادتين؛ سواء كان معه عمل أو لم يكن، وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه.
وآخرون عندهم الإيمان
مجرد تصديق القلب بأن الله - سبحانه وتعالى - خالق السموات والأرض وأن محمداً عبده
ورسوله وإن لم يقرَّ بلسانه ولم يعمل شيئاً، بل ولو سب الله ورسوله وأتى بكل عظيمة
وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله فهو مؤمن.
وآخرون عندهم
الإيمان هو جحد صفات الرب - تبارك وتعالى -: من علوه على عرشه وتكلُّمه بكلماته
وكتبه وسمعه وبصره ومشيئته وقدرته وإرادته وحبه وبغضه وغير ذلك مما وصف به نفسه
ووصفه به رسوله فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كله وجحده والوقوف مع ما تقتضيه
آراء المتهوكين وأفكار المخرصين الذين يرد بعضهم على بعض وينقض بعضهم قول بعض
الذين هم - كما قال عمر بن الخطاب والإمام أحمد - مختلفون في الكتاب مخالفون
للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب.
وآخرون عندهم الإيمان
عبادة الله بحكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم من غير تقييد بما جاء به
الرسول.
وآخرون الإيمان
عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنا ما كان بل إيمانهم مبني
على مقدمتين:
إحداهما: أن هذا قول
أسلافنا وآبائنا.
والثانية: أن ما قالوه
فهو الحق.
وآخرون عندهم
الإيمان مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وطلاقة الوجه وإحسان الظن بكل أحد، وتخلية
الناس وغفلاتهم.
وآخرون عندهم الإيمان
التجرد من الدنيا وعلائقها وتفريغ القلب منها والزهد فيها فإذا رأوا رجلاً هكذا
جعلوه من سادات أهل الإيمان، وإن كان منسلخاً من الإيمان علماً وعملاً.
وهناك من جعل
الإيمان هو مجرد العلم؛ وإن لم يقارنه عمل.
وكل هؤلاء لم يعرفوا
حقيقة الإيمان ولا قاموا به ولا قام بهم وهم أنواع:
•
منهم من جعل الإيمان ما يضاد الإيمان.
• ومنهم
من جعل الإيمان ما لا يعتبر في الإيمان.
•
ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفى في حصوله.
•
ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه ويضاده.
•
ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه الإيمان.
والإيمان وراء ذلك كله:
وهو حقيقة مركَّبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً والتصديق
به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً
وظاهراً وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكماله في الحب في الله والبغض في
الله والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون الله وحدَه إلهه ومعبوده والطريق إليه
تجريد متابعة رسوله ظاهراً وباطناً وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله
ورسوله[11].
أولو العلم خيار
المؤمنين:
(حَيْثُ ذُكِرَ الَّذِينَ
آمَنُوا فَقَدْ دَخَلَ فِيهِمْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّهُمْ
خِيَارُهُمْ:
قال - تعالى -: {وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا
يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: ٧].
وقال - تعالى -: {لَكِنِ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْـمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا
أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْـمُقِيمِينَ الصَّلاةَ
وَالْـمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْـمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً}.
[النساء: 162]
وعنِي بِالرَّاسِخِينَ
فِي الْعِلْمِ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ قَدْ أَتْقَنُوا عِلْمَهُمْ وَوَعَوْهُ
فَحَفِظُوهُ حِفْظاً لاَ يَدْخُلُهُمْ فِي مَعْرِفَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِمَا
عَلِمُوهُ شَكٌّ وَلاَ لَبْسٌ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ رُسُوخِ الشَّيْءِ فِي
الشَّيْءِ، وَهُوَ ثُبُوتُهُ وَوُلُوجُهُ فِيهِ)[12].
وقال ابن عاشور – رحمه
الله -: (الراسخون في العلم: الذين تمكنوا في علم الكتاب ومعرفة محامله، وقام
عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله - تعالى - بحيث لا تروج عليهم الشُّبَه)[13].
وقال - تعالى - {وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 54].
وقال - تعالى - {وَقَالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّـمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صَالِـحاً وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابِرُونَ}
[القصص: 80].
اقتران
العلم والإيمان في السنة النبوية:
عَنْ يَزِيد بن
عُمَيْرَةَ، أَنَّ مُعَاذَ بن جَبَلٍ، لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْنَا لَهُ:
أَوْصِنَا. قَالَ: أَجْلِسُونِي، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ
مَكَانَهما من الْتَمَسَهُمَا وَجَدَهُمَا». قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ،
«وَاطْلُبُوا الْعِلْمَ عِنْدَ أَرْبَعَةٍ: عُوَيْمِرٍ أَبِي الدَّرْدَاء،
وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بن
سَلامٍ»[14].
شرف
الدنيا والآخرة لأهل العلم والإيمان:
إن من نال شيئاً من شرف
الدنيا والآخرة فإنما ناله بالعلم:
تأمَّل ما حصل لأدم من
تميُّزه على الملائكة واعترافهم له بتعليم الله له الأسماء كلَّها، ثم ما حصل له
من تدارُك المصيبة والتعويض عن سكنى الجنة بما هو خير له منها بعلم الكلمات التي
تلقَّاها من ربه.
وما حصل ليوسف من التمكين
في الأرض والعزة والعظمة بعلمه بتعبير تلك الرؤيا، ثم علمه بوجوه استخراج أخيه من
إخوته بمـا يقرُّون به ويحكمـون هـم به حتـى آل الأمـر إلى ما آل إليه من العز
والعاقبة الحميدة وكمال الحال التي توصَّل إليها بالعلم كما أشار إليها - سبحانه -
في قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْـمَلِكِ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}
[يوسف: 76]، جاء في تفسيرها {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ
مَّن نَّشَاءُ} كما رفعنا درجة يوسف على إخوته بالعلم.
وقال في إبراهيم صلى الله
عليه وسلم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا
إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83]، فهذه رفعة بعلم الحجة
والأول رفعة بعلم السياسة.
وكذلك ما حصل للخضر بسبب
علمه من تلمذة كليم الرحمن له وتلطُّفه معه في السؤال حتى قال: {قَالَ
لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّـمَنِ مِمَّا عُلِّـمْتَ رُشْداً}
[الكهف: ٦٦].
وكذلك ما حصل لسليمان من
علم منطق الطير حتى وصل إلى ملك سبأ وقهر ملكتهم واحتوى على سرير ملكها ودخولها
تحت طاعته: {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
عُلِّـمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذَا لَهُوَ
الْفَضْلُ الْـمُبِينُ} [النمل: 16].
وكذلك ما حصل لداود من
علمه نَسْج الدروع من الوقاية من سلاح الأعداء وعدَّد - سبحانه - هذه النعمة بهذا
العلم على عباده فقال: {وَعَلَّمْنَاهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ
شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80].
وكذلك ما حصل للمسيح من
علم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ما رفعه الله به إليه وفضَّله وكرَّمه.
وكذلك ما حصل لسيد ولد
آدم من العلم الذي ذكَّره الله به نعمة عليه فقال: {وَأَنزَلَ
اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:
٣١١][15].
فالعلم والإيمان نور في
الدنيا يرفع قدر صاحبه بين الناس، ونور في الآخرة يجتاز به صاحبه أهوال القيامة؛
ولذلك جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان بالنور وعن الجهل والكفر
بالظلمات.
العلم الراسخ والإيمان
المنير، كلاهما يقود أهله إلى الإيمان بالدين كله:
فذِكْر العلم الراسخ
بوصفه طريقاً إلى المعرفة الصحيحة كالإيمان الذي يفتح القلب للنور، لفتةٌ من
اللفتات القرآنية التي تصور واقع الحال التي كانت يومذاك كما تصور واقع النفس
البشرية في كل حين.
فالعلم السطحي كالكفر
الجاحد، هما اللذان يحولان بين القلب وبين المعرفة الصحيحة. ونحن نشهد هذا في كل زمان.
فالذين يتعمقون في العلم، ويأخذون منه بنصيب حقيقي، يجدون أنفسهم أمام دلائل
الإيمان الكونية أو على الأقل أمام علامات استفهام كونية كثيرة، لا يجيب عليها إلا
الاعتقاد أن لهذا الكون إلهاً واحداً مسيطراً مدبراً متصرفاً، وذا إرادة واحدة
وضعت ذلك الناموس الواحد. وكذلك الذين تتشوق قلوبهم للهدى (المؤمنون) يفتح الله
عليهم، وتتصل أرواحهم بالهدى.
أما الذين يتناوشون
المعلومات ويحسبون أنفسهم علماء، فهم الذين تَحُول قشور العلم بينهم وبين إدراك
دلائل الإيمان، أو لا تبرز لهم - بسبب علمهم الناقص السطحي - علامات الاستفهام.
وشأنهم شأن من لا تهفو قلوبهم للهدى ولا تشتاق. وكلاهما هو الذي لا يجد في نفسه
حاجة للبحث عن طمأنينة الإيمان[16].
فكلما أوتي المرء نصيباً
من العلم كان خليقاً أن يقوده إلى الحق والهدى، فإذا هو ينسلخ مما أوتي من العلم،
فلا ينتفع به شيئاً، ويسير في طريق الضلالة كمن لم يؤتى من العلم شيئاً. بل يصير
أنكد وأضل وأشقى بهذا العلم الذي لم تخالطه بشاشة الإيمان.
اللهم انفعني بما علمتني
و علمني ما ينفعني وارزقني علماً تنفعني به[17].
[1] التحرير
والتنوير: 21/ 81.
[2]
تيسير اللطيف المنان في تفسير الأحكام: 1/ 31.
[3]
المحرر الوجيز: 5/ 261.
[4]
التحرير والتنوير: 17/ 222.
[5]
تفسير الشعراوي، ص 7217.
[6]
الدر المنثور: 14/ 322.
[7]
تفسير الرازي: 2/ 400.
[8]
في ظلال القرآن: 6/ 3512.
[9]
مجموع الفتاوى: 16/ 49.
[10]
الفوائد، ص 107.
[11]
الفوائد، ص 107.
[12]
تفسير الطبري: 5/ 223.
[13]
التحرير والتنوير: 3/ 24.
[14]
سنن الترمذي: مناقب عبد الله بن سلام ( 3804). قال الألباني: صحيح، (المشكاة:
6231).
[15]
مفتاح دار السعادة: 174.
[16]
الظلال: 2/ 804.
[17]
المستدرك، ص 1879.