ذُكر الحب في القرآن الكريم كدعامة أساس في التركيبة الأسرية، سواء في تأسيس العلاقة بين الزوجين، أم كرابط أساس في علاقة الآباء بأبنائهم، وعلاقة الأبناء بآبائهم
للحبِّ في القرآن دلالات عظيمة تجعل منه قيمة إنسانية وكونية، تشترك فيها كل ذرَّة
من ذرات الكون بدءاً بمبدعه وواهب سرِّه سبحانه، وانتهاء بالموجودات الكونية التي
تتفاعل معه؛ إذ تطالعنا آيات القرآن الكريم بذكْرٍ صريح لهذه القيمة في مواطن شتى
وبصيغ مختلفة.
يرتقي الحبُّ أعلى مراتبه حين يقترن بمبدعه، ويصدر عن خالقه وواهب أنواره وخفقات
نبضه في قلوب العباد، فيغدو المحبوب نجماً من الأنجم المتلألئة وهو يبصر الإله
العظيم يحبُّه، ويميِّزه عن سائر خلقه، وقد أثبتت آيات القرآن إثباتاً صريحاً لا
مجال فيه للتأويل وقوع الحب من الله لعباده، ولكن ليس كل عباده، بل صفوة عباده
الذين اتَّصفوا بصفات الصلاح والفلاح، فكانت أقوالهم وأفعالهم منسجمة مع الشرع
الربَّاني، فلم يكن الحبُّ لذواتٍ من الخلق بعينها، بل لعموم العباد الربانيين
الذين تخلقوا بصفات عظيمة من إحسان، وتقوى، وعدل، وإنابة، وصبر، وتوكل على الله،
وجهاد في سبيله، فالله {يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ} [البقرة:
195]،
و {يُحِبُّ الْـمُتَّقِينَ} [آل عمران:
76]،
و {وَيُحِبُّ الْـمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: ٢٢٢]، و {يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ} [البقرة: ٢٢٢]، و {يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: ٨]،
و {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:
146]،
و {يُحِبُّ الْـمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:
159]،
و {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ
مَّرْصُوصٌ} [الصف: ٤].
على أن هذا لا ينفي إثبات حب الله لذوات بعينها خاصة حبه لأنبيائه ورسله الذين
اصطفى عليهم السلام، ألم يقل ربُّنا عن كليمه موسى عليه السلام: {وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه:
39]
«قال
الآلوسي: وكلمة (مني) متعلقة بمحذوف وقع صفة لمحذوف، مؤكدة لما في تنكيرها من
الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، أي وألقيتُ عليك محبة عظيمة كائنة مني - لا من
غيري - قد زرعتها في القلوب، فكل من رآك أحبَّك.
ولقد كان من آثار هذه المحبة: عطف امرأة فرعون عليه، وطلبها منه عدم قتله، وطلبها
منه كذلك أن يتَّخذه ولداً. وكان من آثار هذه المحبة أن يعيش موسى في صغره معزَّزاً
مكرَّماً في بيت فرعون مع أنه في المستقبل سيكون عدوّاً له. وهكذا رعاية الله تعالى
ومحبته لموسى جعلته يعيش بين قوة الشر والطغيان آمناً مطمئنّاً. قال ابن عباس:
أحبَّ الله تعالى موسى، وحبَّبه إلى خلقه»[1].
وبالمقابل كشفت آيات الذكر الحكيم عن صفات يُبغضها الخالق سبحانه، وستمرُّ بنا في
القادم من المباحث صلة الحبِّ بالبغض، وهي في مجملها صفات تتنافى مع قيم ديننا
الحنيف وشرع ربِّنا الحكيم؛ مِن كفرٍ وظلمٍ واعتداءٍ وخيانةٍ وفسادٍ وإفساد وكِبْر؛
فالله {لا يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ} [البقرة:
190]،
و {لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:
205]،
و {لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:
276]،
و {لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:
32]،
و {لا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ} [آل عمران:
57]،
و {لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: ٦٣]، و {لا
يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء:
107]،
و {لا يُحِبُّ الْـخَائِنِينَ} [الأنفال:
58].
وفي إثبات حبِّ الله للعبد أو بغضه له رُوي عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :
«إِنَّ
اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَاناً
فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ
فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبُّـوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ
السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ. وَإِذَا أَبْغَضَ
عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَاناً فَأَبْغِضْهُ، قَالَ
فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ
يُبْغِضُ فُلَاناً فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ
الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ»[2].
ولأنه خالق الحُبِّ وقلوب عباده بين يديه، فلا غرابة أن يحبَّه عباده، وأن يكون
{الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} [البقرة:
165]،
فهم من عرفوه حقَّ المعرفة، وهم من ذاقوا حلاوة قربه، واستمتعوا بعظيم فضله، وجميل
عفوه، وسعة رحمته، فالمؤمنون
«لا
يحبون شيئاً حبهم لله، لا أنفسهم ولا سواهم، لا أشخاصاً ولا اعتبارات ولا شارات ولا
قيماً من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ
حُبًّا لِّلَّهِ}، أشد حباً لله، حباً مطلقاً من كل موازنة، ومن كل قيد. أشد
حباً لله من كل حبٍّ يتجهون به إلى سواه. والتعبير هنا بالحبِّ تعبير جميل، فوق أنه
تعبير صادق. فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب. صلة الوشيجة القلبية،
والتجاذب الروحي. صلة المودة والقربى. صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق
الودود[3]».
كما ذُكر الحب في القرآن الكريم كدعامة أساس في التركيبة الأسرية، سواء في تأسيس
العلاقة بين الزوجين، أم كرابط أساس في علاقة الآباء بأبنائهم، وعلاقة الأبناء
بآبائهم.
ففي العلاقة بين الزوجين قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ
بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:
21]،
فهنا إشارات جميلة جليلة للحب العظيم بين الرجل والمرأة، فهي منه {مِّنْ
أَنفُسِكُمْ}، وهي سكن له {لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا}، وروح المودة
والرحمة تسري بينهما {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}؛ والمودة
كما مر بنا هي المحبة، بل هي خالص الحب وألطفه وأرقُّه.
هنا لبنات متينة في مؤسسة الزواج الناجحة التي لا تنافر بين قطبيها ولا تباغض، بل
وئام وصفاء، وفرحة عظيمة بالظفر بشطر النفس الغائب في متاهات الحياة الدنيا؛ فغاية
الارتباط أن يجتمع الشطران المتباعدان لتكون لغة الحب الباعثة على التجانس والرحمة
هي محور هذه العلاقة، ولهذا قال سعيد بنِ المسيَّب لزوج ابنته:
«أما
إني - علِمَ اللهُ - ما زوَّجتُ ابنتي رجلاً أعرفُه فقيراً أو غنيّاً، بل رجلاً
أعرفُه بَطَلاً مِن أبطالِ الحياة، يملِكُ أقوى أسلحتِه مِن الدينِ والفضيلة. وقد
أَيْقنتُ حين زوجتُها منه أنها ستعرفُ بفضيلةِ نفسِها فضيلَةَ نفسِه، فيتجانسُ
الطَّبعُ والطبع، ولا مهْنأَ لرجلٍ وامرأةٍ إلا أن يُجانِسَ طبعُه طبعَها، وقد
علِمتُ وعلِمَ الناسُ أنْ ليسَ في مالِ الدنيا ما يَشتري هذه المُجانَسَة، وأنَّها
لا تكونُ إلا هديَّةَ قلبٍ لقلبٍ يأْتلِفان ويَتحابَّان».
وهذه المحبة هي التي سمَّاها الأصفهاني
«محبة
اللذة كمحبة الرجل للمرأة»[4].
كما نجد في آيات القرآن إشارات لطيفة للحب الأبوي الآخذ بمجامع قلب الوالد كما تجلى
ذلك في حب يعقوب ليوسف عليهما السلام وأخيه بنيامين: {إذْ قَالُوا لَيُوسُفُ
وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} [يوسف: ٨]، وهو حب له ما يبرِّره لِـمَا اتَّصف به يوسف عليه
السلام من صفات جميلة خَلقاً وخُلقاً، ولِـمَا رآه يعقوب في ابنه من سير على نهج
الأنبياء والرسل، فكان ميله إليه ميلاً طبيعياً، وتعلق قلبه به تعلقاً لا شبهة فيه.
وللأمومة حظ ونصيب في شواهد الحب وتجلِّياته في القرآن؛ فها هو فؤاد أم موسى يذوب
كمداً لفراق وليدها الصغير {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي
الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ
لَّهُ} [طه:
39]،
وها هي تتوجس خيفة عليه وهو بين يدي عدوِّه {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى
فَارِغاً} [القصص:
10]،
وها هي الرحمة الإلهية تنزل على ذاك الفؤاد لتحيطه بكل حب وعناية، ليُحفظ من سينشأ
تحت عين الله ويُصنع صنعاً ربانيّاً فينال حظه من حب ربه وحب خلقه.
وكما تحدث القرآن عن الحب في إطاره الشرعي، ذاك الحب الذي يخلق السكينة، ويقوي رابط
المودة والرحمة بين المتحابين؛ فقـد تحدث كذلك عن الحب خارج مؤسسة الزواج، ذاك الحب
الذي يغدو نقمة لا نعمة، عاطفة تهب بكل العواصف القلبية فتثير الفساد في النفس وفي
الأرض، كحال امرأة العزيز التي شغفها يوسف حبّاً، فكان التحرُّش {وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ
هَيْتَ لَكَ} [يوسف:
23]،
وكانت الفضائح المجتمعيـة {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْـمَدِينَةِ امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إنَّا
لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [يوسف:
30]،
وكان الظلم والاعتداء على المحبوب انتقاماً لعدم الخضوع {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ
مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:
32].
في القرآن كذلك ملمح مهمٌّ تحذيري لبعض جوانب الحب المؤذي، وهو حب الإنسان لما يجلب
له السوء والضرر في دينه ودنياه، قال سبحانه: {وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً
وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة:
216]،
فكم تتعلَّق القلوب بما يفتنها وتلحُّ في تقفِّي أثره، وهي لا تعلم أن الشرَّ كلُّ
الشرِّ في الظفر به، لهذا حذَّر الله تعالى من هذا الحبِّ الذي لا خير فيه، ونبَّه
إلى ضرورة الرضا بقدر الله تعالى فهو أعلم بما يُصلح عباده.
ومن صور المحبة كذلك في القرآن (محبة النفع: كمحبة شيء يُنتفع به) وهو أمر يسري على
كل ما يحبه الإنسان أو يُحبَّبُ إليه من أمور الدين والدنيا، وأعظم ما حُبِّبَ إليه
الإيمان {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي
قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ٧]، وأشدُّها على النفس بلاءً وابتلاءً حبُّ الشهوات
وما في الحياة الدنيا من مُتع كالنساء والأولاد والأموال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْـمُقَنطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْـخَيْلِ الْـمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ
وَالْـحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:
14]،
{وَتُحِبُّونَ الْـمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:
20]،
{وَآتَى الْـمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْـمَسَاكِينَ} [البقرة:
177]،
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}
[الإنسان: ٨]، {فَقَالَ إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْـخَيْرِ عَن ذِكْرِ
رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْـحِجَابِ} [ص:
32]،
{وَإنَّهُ لِـحُبِّ الْـخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: ٨]، على أنَّ هذا
الحبَّ يبقى فطرياً في الإنسان، جُبلت النَّفس الإنسانية على الميل إليه، لكن أسلوب
التعامل معه هو الذي قد يجعله نعمة أو نقمة على المحب.
من صور الحب كذلك في القرآن (محبةٌ للفضل: كمحبة أهل العلم بعضهم بعضاً لأجل
العلم)، ولعلَّ ما يناسبها في هذا المقام محبة الأنصار لإخوانهم المهاجرين، محبة
تجلَّت قولاً وعملاً، فآثروهم على أنفسهم واحتضنوهم في قلوبهم قبل بيوتهم، قال الله
تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:
٩].
في القرآن الكريم أيضاً استعمالات لبعض ألقاب المحبة التي مرَّت بنا كالودِّ، قال
الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ سَيَجْعَلُ
لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:
96]،
والودُّ كما جاء في جلِّ كتب التفسير المحبة. قال القرطبي:
«إذا
كان محبوباً في الدنيا، فهو كذلك في الآخرة؛ فإنَّ الله تعالى لا يحب إلا مؤمناً
تقيّاً، ولا يرضى إلا خالصاً نقيّاً، جعلنا الله تعالى منهم بمنِّه وكرمه»[5].
وقال السعدي:
«هذا
من نعمه على عباده، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح؛ أنْ وعدهم أنه يجعل لهم
ودّاً، أي: محبة ووِداداً في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في
القلوب ودٌّ تيسر لهم كثير من أمورهم وحصل لهم من الخيرات والدعوات والإرشاد
والقبول»[6].
كما ورد ذكر الشَّغف في تعلُّق امرأة العزيز بيوسف عليه السلام {قَدْ شَغَفَهَا
حُبًّا}، قال السعدي:
«وصل
حبُّه إلى شغاف قلبها، وهو باطنه وسويداؤه، وهذا أعظم ما يكون من الحب».
وقال الطنطاوي في الوسيط:
«حبها
إياه قد شقَّ شغاف قلبها. وتمكن منه تمكناً لا مزيد عليه».
أما لفظ الخُلَّة فقد ورد في النصوص القرآنية بصيغ مختلفة منها (خليلاً - خُلَّة -
خِلال - الأخلاَّء) كما في قوله تعالى: {وَإذاً لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}
[الإسراء:
73]،
{... مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا
شَفَاعَةٌ} [البقرة:
254]،
{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم:
31]،
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: ٥٢١]. قال السعدي في
تأويل الآية الأخيرة:
«والخُلة
أعلى أنواع المحبة، وهذه المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة
والسلام، وأما المحبة من الله فهي لعموم المؤمنين، وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلاً
لأنه وفَّى بما أُمر به وقام بما ابْتُلي به، فجعله الله إماماً للناس، واتخذه
خليلاً، ونوَّه بذكره في العالمين»[7].
وجاء في الوسيط:
«والخليل
في كلام العرب: هو الصاحب الملازم الذي لا يخفى عليه شيء من أمور صاحبه. مشتق من
الخلة وهي صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار. قال الآلوسى: والخليل
مشتق من الخُلة (بضم الخاء) وهي إما من الخِلال (بكسر الخاء) فإنها مودة تتخلل
النفس وتخالطها مخالطة معنوية. فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة»[8].
وقال القرطبي:
«إنما
سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلَّل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته... وخليل
فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل: هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى
المحبوب، وإبراهيم كان محبّاً لله وكان محبوباً لله.
قال الزجاج: ومعنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل؛ فجائز أن يكون سمي خليلاً لله
بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة»[9].
وقال ابن عاشور:
«والخليل
في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه، مشتقٌّ من
الخِلال، وهو النواحي المتخلِّلة للمكان {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ
خِلالِهِ} [النور:
43]،
{وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} [الكهف: ٣٣]. هذا أظهر الوجوه في اشتقاق
الخليل. ويقال: خِلٌّ وخُلٌّ بكسر الخاء وضمِّها ومؤنَّثهُ: خُلَّة بضمِّ الخاء،
ولا يقال بكسر الخاء، قال كعب: أكرم بها خُلَّةً لو أنَّها صدقت. وجمعها خلائل.
وتطلق الخُلَّة بضمِّ الخاء على الصحبة الخالصة {لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ
وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:
254]،
وجمعها خِلال {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}
[إبراهيم:
31][10].
وأراد قوم بالمحبة في القرآن الإرادة، قال الراغب الأصفهاني:
«وربما
فسرت المحبة بالإرادة كما في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن
يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:
108]،
وليس كذلك فإنَّ المحبة أبلغ من الإرادة، فكل محبة إرادة، وليس كل إرادة محبة»[11].
[1] التفسير الوسيط للقرآن الكريم، لمحمد سيد طنطاوي: 9/ 103.
[2] رواه الإمام مسلم في صحيحه (2637).
[3] في ظلال القرآن: 1/ 154 سيد قطب.
[4] مفردات ألفاظ القرآن، ص214 .
[5] تفسير القرطبي، سورة مريم، الآية 96 (النسخة الإلكترونية).
[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.
[7] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، سورة النساء الآية، 125 (النسخة
الإلكترونية).
[8] التفسير الوسيط للقرآن الكريم محمد سيد طنطاوي، سورة النساء، الآية 125.
[9] تفسير القرطبي، سورة النساء، الآية 125.
[10] تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، سورة النساء، الآية 125.
[11] مفردات القرآن للأصفهاني، ص215.