شسيب
في الرابع من أبريل عام 2019م دعا اللواء خليفة حفتر - ولم يكن رُقِّي إلى مشير
حينها - في تسجيل صوتي القوات الموالية له للتحرك نحو العاصمة في إطار عملية عسكرية
سمَّاها (عملية تحرير طرابلس). أتى هذا التصعيد العسكري الخطير وقتها قبل نحو عشرة
أيام فقط من موعد انعقاد الحوار الوطني الليبي تحت إشراف أممي في مدينة غدامس
الواقعة بالقرب من المثلث الحدودي بين ليبيا والجزائر وتونس،
كان من المنتظر أن يشارك في الحوار ممثلون عن مختلف أطراف النزاع ليخرجوا بخريطة
طريق للمرحلة الانتقالية. بعد هجوم قوات حفتر أعرب الأمين العام للأمم المتحدة
أنطونيو غوتيريش، الذي كان يزور طرابلس وقت وقوع هجوم حفتر، عن قلقه (العميق) إزاء
التحركات العسكرية وخطر المواجهة، وأكَّد أنه
«لا
يوجد حل عسكري للأزمة الليبية، فالحوار بين الليبيين هو السبيل الوحيد لحل مشكلاتهم».
قبل هجوم حفتر بأيام وفي 26 مارس أجرى أربعة عشر سفيراً أوروبياً مباحثات مع خليفة
حفتر وممثلين عن برلمان طبرق في مدينة بنغازي شرقي البلاد. واستهدفت الزيارة
«حث
جميع الأطراف على الالتفاف وراء هذه الجهود لضمان نجاح الملتقى الوطني الليبي
الجامع».
وأوضحت البعثة أن الوفد الأوروبي حينها
«أكد
لحفتر ومجلس النواب دعم الاتحاد الأوروبي لجهود المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان
سلامة، من أجل التوصل إلى اتفاق سياسي بين أطراف النزاع لإنهاء المرحلة الانتقالية
السياسية».
هذا هو المشهد الليبي في العام 2019م. الأمين العام للأمم المتحدة في طرابلس،
تمهيداً لعقد حوار بين الأطراف الليبية بعد أيام، السفراء الأوربيون اجتمعوا مع
حفتر ونوابه البرلمانيين في لقاء هدفه التوطئة لأجواء السلام. غسان سلامة (المبعوث
الأممي) يعلن في مؤتمر صحفي التاريخ من 14 إلى 16 أبريل موعداً لانعقاد الملتقى
الوطني الجامع في غدامس، لمحاولة حل الأزمة الليبية، التي امتدت أكثر من خمس سنوات.
الجميع كان يستعد لمؤتمر سينهي حالة الانقسام في ليبيا، وفي خضم تلك الأجواء
المفعمة بالسلام إذا بحفتر يفاجئ الجميع بعملية تحرير طرابلس ويبدأ الحرب.
ما أشبه الليلة بالبارحة:
في الآونة الأخيرة ها هي اللقاءات السياسية تتسارع والتصريحات والبيانات التي تصدر
عن مختلف القوى السياسية تؤشر إلى قرب حل المسألة الليبية وإنهاء حالة الحرب
والانقسام بين الأطراف الليبيين، والجميع يبشر بأن ليبيا على أعتاب عهد جديد.
وكان الليبيون يترقبون يوم السبت الخامس من ديسمبر 2020م، الإعلان عن الآلية التي
سيتم اعتمادها لتحديد شكل السلطة التنفيذية الجديدة ولاختيار قادة بلادهم في
المرحلة المقبلة التي تنتهي بإجراء انتخابات في نهاية العام القادم، وذلك بعد نحو
شهر من مفاوضات سياسية شاقَّة غلبت عليها الخلافات، قادتها الأمم المتحدة بمشاركة
ليبية واسعة وشاملة.
وعلى مدى يومين صوَّت أعضاء ملتقى الحوار السياسي الليبي بتونس، وعددهم 75 شخصاً،
عبر الهاتف والبريد الإلكتروني، على اختيار آلية واحدة من بين 10 آليات طرحتها
البعثة الأممية لاختيار شاغلي مناصب المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة.
مستقبل الحوار الليبي:
في ظل تلك الأجواء المفعمة بالسلام وأيّاً كانت مخرجات ملتقى الحوار السياسي وما
ستتمخض عنه تلك الجولة السياسية، وأي الآليات سيختارون، إلا أن الهدف النهائي
لهجمات حفتر على طرابلس أبريل 2019م ما زالت ماثلة وموجودة.
نستطيع القول: إن وقت هجوم حفتر على طرابلس 2019م كانت جبهة شرق ليبيا شبه متماسكة
سياسياً، ورغم تفككها عسكرياً إلا أن العداء لحفتر كان يجمع الأطراف العسكريين شرق
ليبيا، وتتمتع حكومة شرق ليبيا باعتراف دولي أكسبها شرعية كبيرة وأتاح لها حرية
الحركة بالاستعانة بالأطراف الخارجية التي تمكنها من الخروج من أزمتها، وتقوية
موقفها العسكري ومنع حفر من دخول طرابلس.
لكن الحوار الليبي الأخير وكأنه جاء لتفتيت تلك الجبهة المتماسكة، والحقيقة أنه من
دون حل الميليشيات العسكرية ووجود سلطة عسكرية موحدة، وإبعاد حفتر والمرتزقة
التابعين له والميليشيات الأجنبية الداعمة خاصة قوات فاغنز الروسية، فإن الحلول
السياسية ستظل حبراً على ورق، والسؤال الآن: هل سيتخلى حفتر حقاً عن موقعه العسكري؟
وهل سيتخلى داعموه عن مكاسبهم؟
في رأي عددٍ من المراقبين فإن الهدف النهائي من تلك المحادثات - بغضِّ النظر عن
مخرجاتها السياسية - هو من سيحصل عن حقيبة المجلس الرئاسي ومن سيكون رئيساً
للحكومة؛ فإنه من المؤكد أن أطرافاً من شرق ليبيا محسوبين على حفتر سيكونون جزءاً
رئيساً من الكيان السياسي الجديد، والذي سيحظى باعتراف دولي، ومن ثَمَّ فإن أي تدخل
عسكري جديد من قبل قوات حفتر لن يقابل بالقوة والحسم نفسه الذي جوبه به من قبل؛ فمن
داخل المجلس الرئاسي ومن داخل الحكومة سنجد مَن يدافع عن زعيمه حفتر، أو مَن سيحل
محله، أو حتى يدعوه لدخول طرابلس؛ خاصة أن قوات شرق ليبيا ليست هيئة عسكرية موحدة
ومتماسكة، ويمكن استصدار قرار غربي أو أممي بوضعها على قوائم الإرهاب. ومن ثَمَّ
يصبح حفتر هو القوة العسكرية الوحيدة التي تحظى بغطاء سياسي، بعد نزع الغطاء
السياسي عن قوات شرق ليبيا، وسواء بقي حفتر بشخصه أو حل بديل آخر، فإن شبح عسكرة
الحياة السياسية في ليبيا سيظل جاثماً فوق صدور الليبيين، لأن الحقيقة أن الجالسين
على موائد المفاوضات ليسوا ممثلين عن الشعب الليبي بقدر ما يمثلون أطرافاً دولية
وإقليمية ترتهن قراراتهم دعماً لمصالحهم فيما يملكه الشعب الليبي من ثروات.
فلا أحد من المتحاورين سيخبرنا ما هو مصير القوات الروسية في غرب ليبيا ولا أحد
يستطيع تفسير التحركات العسكرية لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، حيث عاد حفتر
لحشد قواته والمرتزقة الأجانب على الجبهتين الغربية والجنوبية بمدينة سرت (450 كم
شرقي طرابلس)، في الوقت الذي تجتمع فيه لجنة (5+5) العسكرية في مقرها الدائم
للإشراف على تنفيذ اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار. لقد قالت الممثلة الخاصة للأمين
العام للأمم المتحـدة بالإنابة في ليبيا ستيفاني وليامز واضعة يدها على موضع الجرح
الحقيقي في ليبيا: إنه يوجد في ليبيا 20 ألفاً من القوات الأجنبية والمرتزقة. وعشر
قواعد عسكرية تشغلها، بشكل جزئي أو كلي، قوات أجنبية».
وإذ تقول ستيفاني ذلك فإننا نقول: أي تلك الذئاب إذن يقبل أن يتنازل عن نصيبه من
الفريسة لغريمه؛ فرنسا أم إيطاليا أم بريطانيا، أم الروس أم غيرهم من القوى
الإقليمية؟ هذا إن لم تتدخل الولايات المتحدة في ظل إدارة جديدة في البيت تسعى
لعودة الولايات المتحدة لدورها القديم، وتقسم قسمتها بين المتنافسين!
وسواء اتفق المتنازعون الكبار فوقَّع مندوبوهم الصغار على بيانات سياسية جديدة أو
ظلوا متخندقين في قواعدهم، فإن الشعب الليبي اليوم يجلس ليشاهد من البعيد من الفائز
بالقدر الأكبر من دمائه وأشلائه لأنه ظن أن القذافي كان أزمة ليبيا فثار عليه، ولم
يدر أن القذافي خلَّف ورائه العديد من القذاذفة، فأغمض عينه عنهم، وكلٌّ منهم ينتظر
دوره في الزعامة ليس آخرهم حفتر بالتأكيد. والمهم من ذلك كله ألا تنسى الشعوب دروس
الحرية لأن ثمنها لن تستطيع أن تتحمله الأجيال المقبلة.