ولذلك وجب على المؤمن - وهو مشتغل بتزكية نفسه - أنْ يعرف عدوه إبليس وأنْ يعلم تاريخه ومسالكه وحبائله
في خضم التعقيبات القرآنية على غزوة أحد وما حملته تلك التعقيبات من توجيهات وتربية
وتحليل وتقويم، التفت القرآن إلى أمر قد يخفى على المسلمين؛ وهو الأثر السلبي
للشيطان في الصراع بين أهل الإسلام وعدوهم، وذلك حين قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْـجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:
155]
قال ابن عاشور:
«استئنافٌ
لبيان سبب الهزيمة الخفي، وهي استزلال الشيطان إياهم، واستزلهم بمعنى أزلهم أي
جعلهم زالين، والمراد بالزلل الانهزام، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات
القدم على ضده وهو النصر، والباء في {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} للسببية، وأريد ببعض
ما كسبوا: مفارقة موقفهم، وعصيان أمر الرسول، والتنازع، والتعجيل إلى الغنيمة.
والمعنى: أنَّ ما أصابهم كان من آثار الشيطان، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم»[1].
فتأمل حضور الشيطان في المواقف المهمة والأحداث الكبرى، وبذلَه كلَّ طاقته ووسعه في
استزلال المؤمنين وهزيمتهم وإيقاعهم، ووقوفه الدائم في صف المشركين وأعداء الله
تعالى؛ فهو حليفهم ووليهم ومرشدهم. هذا هو دأب الشيطان وبذلُه، وهذه عداوته للذين
آمنوا.
ولذلك وجب على المؤمن - وهو مشتغل بتزكية نفسه - أنْ يعرف عدوه إبليس وأنْ يعلم
تاريخه ومسالكه وحبائله، قال أبو الدرداء رضي الله عنـه:
«إنَّ
مِن فقه العبد أنْ يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه»[2].
وقد لاحظ ابن القيم رحمه الله اعتناء المتأخرين من فقهاء التربية بمعالجة مسائل
النفس أكثر من اعتنائهم بمعالجة مسائل الشيطان، وسجل هذه الملاحظة في كتابه الفريد
(إغاثة اللهفان) فقال في باب علاج مرض القلب بالشيطان:
«هذا
الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به
اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها، فإنهم توسعوا في ذلك، وقصروا في هذا الباب.
ومَن تأمل القرآن والسنة وجدَ اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر
النفس، فإنَّ النفس المذمومة ذكرت في قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ
النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ
رَّحِيمٌ} [يوسف:
53]،
واللوامة في قوله: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: ٢]، وذكرت
النفس المذمومة في قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:
40].
وأما الشيطان فذُكر في عدة مواضع، وأفردت له سورة تامة. فتحذير الرب تعالى لعباده
منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذي لا ينبغي غيره، فإنَّ شر النفس
وفسادها ينشأ من وسوسته، فهي مَرْكِبه وموضع شرِّه ومحل طاعته، وقد أمر الله سبحانه
بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه، ولم
يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرِّها في خطبة
الحاجة»[3].
إعلان الصراع:
لم تكن عداوة الشيطان بسبب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وليست مما أحدثه الزمان
في أواخر عمر الدنيا؛ وإنما هي قَدَر بدأ منذ بدء الخليقة، منذ خَلْق أبينا آدمَ
عليه السلام، وبعد أنْ قضى الله تعالى أنْ يكون هو وذريته خلفاء الأرض وبعد أنْ
علَّمه الله تعالى الأسماء كلها وأسجد له الملائكة تشريفاً وتكريماً.
لقد كانت تلك الساعة موعداً لإطلاق أكبر حملة عداوة عرفها التاريخ؛ إذ أعلن إبليس
عداوته الحقيقية لآدم وذريته جميعاً إلى قيام الساعة، العداوة التي سيُسخِّر فيها
كلَّ أدواته وجنوده وذريته، فهو العدو الأول، قال تعالى: {وَإذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ
لِـمَنْ خَلَقْتَ طِينًا
61
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:
61
-
62].
ومعنى لأحتنكن: لأستوليَن عليهم، ولأستأصلنهم، ولأستميلنهم[4].
وقد ثنَّى القرآن ذكر هذه الحادثة في عدد من السور وعدد من السياقات، للتأكيد على
أهمية العلم بعداوة الشيطان لبني آدم وأسبابها ونتائجها، وليكون الناس على بيِّنة
من الوظيفة التي اتخذها الشيطان لنفسه وذريته في هذه الدنيا، حتى لا ينخدعوا
بألاعيبه ولا ينقادوا لوسواسه ولا يتخذوه ولياً من دون الله تعالى، قال الله عز
وجل: {وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ
كَانَ مِنَ الْـجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِـمِينَ بَدَلًا} [الكهف:
50].
قال ابن القيم:
«فتأمل
ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقاباً وجلالة وتهديداً، كيف صدَّره
بإخبارنا أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا، فأبى ذلك، فطرده ولعنه وعاداه من أجل إبائه
عن السجود لأبينا، ثم أنتم توالونه من دوني وقد لعنته وطردته إذ لم يسجد لأبيكم،
وجعلته عدواً لكم ولأبيكم، فواليتموه وتركتموني؛ أفليس هذا من أعظم الغبن وأشد
الحسرة عليكم»[5].
ثم إنَّ آدم عليه السلام بعد أنْ نزل إلى الأرض هو وزوجه حواء نشأت ذريته على توحيد
الله وعبادته واتقاء سخطه وحرماته، ولم يتمكن الشيطان من إيقاعهم في حبائل الشرك
بالله، لكنه استطاع أنْ يوقعهم في التحريش والقتل، فوقعت حادثة القربان بين ابنَي
آدم قابيل وهابيل، فأغرى الشيطان قابيل بقتل أخيه فقتله، فكانت أوَّلَ حادثة قتل في
بني آدم، قال الله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ
فَأَصْبَحَ مِنَ الْـخَاسِرِينَ} [المائدة: ٠٣]. قال ابن جريج:
«ابن
آدم الذي قتل صاحبه لم يدرِ كيف يقتله، فتمثل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيراً
فقصع رأسه، ثم وضعه بين حجرين فشدخ رأسه، فعلَّمه القتل»[6].
وعاش الناس بعد آدم على توحيد الله بالعبادة عشرة قرون، حتى جاء الشيطان بحيلة
ليصرف الناس عن عبادة الله وحده إلى عبادة ما سواه، وقد ذكر لنا القرآن أسماء هذه
المعبودات، وهي تماثيل صورت على هيئة عدد من الصلحاء والعُباد، وذكر لنا تواصي
القوم بعبادتها والعكوف عليها والدفاع عنها وعدم تركها وذلك حين أرسل إليهم نوحاً
عليه السلام ليردهم عنها إلى عبادة الله وحده، فقال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ
آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْرًا} [نوح:
23].
قال محمد بن كعب:
«هذه
أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح، فلما ماتوا كان لهـم أتباع يقتدون بهم
ويأخـذون بعدهم بأخذهم في العبادة، فجاءهم إبليس وقال لهم: لو صورتم صورهم كان أنشط
لكم وأشوق إلى العبادة. ففعلوا، ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إنَّ الذين من
قبلكم كانوا يعبدونهم. فعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك»[7].
هكذا بدأ الصراع بين الرسل والشيطان، بين ما جاءت به الرسل من الحق وما جاءت به
الشياطين من الباطل، واستمر هذا الصراع مخترقاً حُجُب التاريخ ومتخطياً حواجز
الزمان والمكان، ولن يقف هذا الصراع إلا حين يقضي الله بين الخلائق يوم القيامة،
وحينها تكون للشيطان آخر كلمة يقولها لأتباعه وجنده، كما أخبرنا المولى سبحانه في
قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَـمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ
وَعْدَ الْـحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن
سُلْطَانٍ إلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ
بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظَّالِـمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[إبراهيم: ٢٢].
ثم إنَّ الله تعالى أذن - وهو الحكيم الخبير - أنْ يكون لكل إنسان شيطان يلازمه،
ليصده عن دين الله، في سياق العداوة والصراع بين الشيطان وبني آدم، ليتم قَدَر الله
كما أراد سبحانه، وليبتلي الله الناس جميعاً بعدوهم الحقيقي؛ فعن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«ما
منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن»
قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال:
«وإياي،
إلا أنَّ الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير»[8]،
فالإنسان معرَّض لخطر الشيطان إنْ لم يتنبه ويكن على حذر من عدوه، قال ابن كثير في
الوسواس الخناس:
«هو
الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزيِّن له
الفواحش، ولا يألوه جهداً في الخبال، والمعصوم من عصم الله»[9].
فتأمل - أيها المبارك - كيف يسخِّر هذا العدو الملاصق لنا حياته وجهده وقوَّته
وذريته في تدمير الإنسان وإيمان هذا الإنسان وحياة هذا الإنسان.
المسالك الشيطانية:
والقرآن الذي جعله الله تعالى هداية لنا في كل شيء بصَّرنا بالطرق والمسالك التي
يتخذها إبليس وذريته وجنوده في عداوة الناس، وبيَّنت السنة تفصيل ذلك، واجتهد
العلماء في شرح ذلك، ليكون الناس على حذر منه، فإنه عدوهم الأول والأبدي، ومن ذلك:
أولاً:
الوسوسة
والوسوسة حديثٌ يلقيه الشيطان في قلب الإنسان[10].
قال ابن عطية:
«الوسوسة
الحديث في اختفاء همساً وسراراً من الصوت، والوسواس صوت الحلي فشبه الهمس به، وسمي
إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة إذ هي أبلغ السرار وأخفاه؛ هذا حال الشيطان
معنا الآن، وأما مع آدم فممكن أنْ تكون وسوسة بمجاورة خفية أو بإلقاء في نفس، ومن
ذلك قول رؤبة: وسوس يدعو جاهراً رب الفلق»[11].
وهذا الحديث الشيطاني يلقيه الشيطان في قلوب بني آدم على شكل خاطرة أو فكرة ثم
يتحول بعد معالجات نفسية إلى عمل لا يرضي الله تعالى، وقد رصد فقهاء التربية
الإسلامية تلك المعالجات ومراحل تطوُّرها، قال ابن القيم:
«مبدأ
كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو
إلى الإيرادات، والإيرادات تقتضي وقوع الفعـل، وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه
المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها»[12].
ولهذا أمرنا الله تعالى بالاستعاذة به من شر هذه الخواطر والأفكار التي يلقيها
الشيطان في قلوبنا ويحدِّث بها نفوسنا، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ
1
مَلِكِ النَّاسِ
2
إلَهِ النَّاسِ
3
مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْـخَنَّاسِ
4
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ
5
مِنَ الْـجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: ١ - ٦].
لكن الوسوسة الشيطانية ليست في اتجاهٍ واحد، بل تتعدد اتجاهاتها، وتتنوع أغراضها،
وإنَّ على المسلم أنْ يعلمها - كما نبه على ذلك أبو الدرداء رضي الله عنه - ليكون
على حذر منها، فمن تلك الوسوسة:
إلقاء الشُّبَه المفضية إلى الكفر:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله! إنَّ أحدنا يجد في نفسه، يُعرِّضُ بالشيء لأنْ يكون حُمَمَةً أحب إليه
من أنْ يتكلم به. فقال:
«الله
أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»[13].
بل يصل الشيطان في تسلسل هذه الأفكار إلى السؤال عن الخالق سبحانه، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم :
«يأتي
الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَك؟ فإذا بلغه
فليستعذ بالله ولينته»[14].
قال ابن رجب:
«ومما
يدخل في النهي عن التعمق والبحث عنه: أمور الغيب الخبرية التي أمر بالإيمان بها ولم
يبين كيفيتها، وبعضها قد لا يكون له شاهد في هذا العالم المحسوس، فالبحث عن كيفية
ذلك هو مما لا يعني، وهو مما ينهى عنه، وقد يوجب الحيرة والشك، ويرتقي إلى التكذيب»[15].
إفساد عبادات الناس وأورادهم:
كإلهائهم عن الخشوع في الصلاة، فقد أتى عثمان بن أبي العاص إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: يا رسول الله! إنَّ الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها
عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«ذاك
شيطان يقال له خِنزَب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً».
قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني[16].
قال النووي:
«ومعنى
يلبسها أي يخلطها ويشككني فيها، ومعنى حال بيني وبينها أي نكدني فيها ومنعني
لذَّتها والفراغ للخشوع فيها».
وهذا ليس في الصلاة فقط، بل في جميع العبادات كقراءة القـرآن وذكـر الله تعالى في
مختلف مواضع الذكر والدعاء.
إلهاء العبد عن واجباته الشرعية:
وذلك بالنسيان أو حثه على ما يشغله عنها أو بما هو أقلُّ منها أجراً، وذلك أنَّ
الشيطان يوسوس للإنسان حتى يوقعه في حبائل الدنيا حتى ينسى الله تعالى، قال ابن
رجب:
«اعلم
أنَّ الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه
بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجِّيه الشيطان بالتوبة في آخر
عمره، فإذا تيقن الموت وأيس من الحياة، أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذٍ
على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحاً، فلا
يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت»[17].
بل إنَّ الشيطان يحاول إفساد عبادة المرء بإشغال فِكره وتلهيته عن روحه، عن أبي
هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إذا
نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل،
حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه؛
يقول: اذكر كذا، اذكر كذا؛ لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى»[18].
فهو يعلم فضائل الأعمال وأجورها، فلذلك لا يريد للعبد أنْ يتحصل عليها ولا يريد له
رفعة في الدرجات، فيقوم بهذه الأدوار الخبيثة لأجل تفويت الأجر على العبد.
فإنْ لم يفلح الشيطان في ذلك فإنه يسعى جاهداً ليصرف الإنسان عن فواضل الأعمال إلى
مفضولها، وقد قال ابن القيم:
«فإنْ
أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظاً لوقته شحيحاً به نقله إلى المرتبة السادسة،
وهو أنْ يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب
العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسِّنه له إذا تضمن ترك ما
هو أفضل وأعلى منه، وقلَّ من يتنبه لهذا من الناس! فإنه إذا رأى فيه داعياً قوياً
ومحركاً إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة؛ فإنه لا يكاد يقول إنَّ هذا
الداعي من الشيطان فإنَّ الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أنَّ هذا خير، فيقول: هذا
الداعي من الله. وهو معذور، ولم يصل علمه إلى أنَّ الشيطان يأمر بسبعين باباً من
أبواب الخير؛ إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر؛ وإما ليفوت بها خيراً أعظم من
تلك السبعين باباً وأجلَّ وأفضل»[19].
دفعه إلى الغلو والتنطع في العبادات:
ذكر ابن القيم في مكايد الشيطان ما يفعله كثير من الموسوسين في باب الطهارة والوضوء
بعد البول من السلت والفطر والنحنحة والمشي والقفز والحبل والتفقد والجور والحشو
والعصابة والدرجة باعتبارها أمثلة على التنطع في العبادات على سبيل التحوط
والاهتمام[20]
كما يعتقد الموسوسون، بينما هي من خديعة الشيطان، كما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
«إنَّ
أحدكم إذا كان في الصلاة جاء الشيطان، فأَبَسَ به كما يأْبِس الرجل بدابته، فإذا
سكن له أضرط بين أليتيه ليفتنه عن صلاته، فإذا وجد أحدكم شيئاً من ذلك، فلا ينصرف
حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً لا يشك فيه»[21].
تزيين السيئ من الأعمال والأفكار في نظر العبد: وقد أشار القرآن إلى هذا مراراً،
قال تعالى: {فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:
43].
وقال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} [النحل:
63].
قال ابن القيم:
«فالبلاء
مركَّب من تزيين الشيطان وجهل النفس، فإنه يزين لها السيئات ويريها أنها في صور
المنافع واللذات والطيبات، ويُغفلها عن مطالعتها لمضرتها، فتولَد من بين هذا
التزيين وهذا الإغفال والإنساء لها إرادة وشهوة، ثم يمدها بأنواع التزيين، فلا يزال
يقوى حتى يصير عزماً جازماً يقترن به الفعل، كما زين للأبوين الأكل من الشجرة
وأغفلهما عن مطالعة مضرة المعصية»[22].
التحريش بين الناس وزرع الفرقة بينهم:
قال الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ
الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوًّا
مُّبيِنًا} [الإسراء:
53].
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنَّ
الشيطان قد أيس أنْ يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»،
وفي الحديث الآخر عنه:
«إنَّ
عرش إبليس على البحر، فيبعث سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة»[23].
وهذا التحريش يصنع العداوات والخصومات في الأمة المسلمة، فتضعف قوَّتها، ويطمع فيها
أعداؤها، وتكون أقرب إلى الضلالة والانحراف منها حين تكون مجتمعة متآلفة، ذلك أنَّ
قوة الأمة وتماسكها طريق إلى الاستقامة العامة، وهذا ما يسعى الشيطان إلى ضده.
وسواء كان هذا التحريش بين الدول أم المجتمعات أم العشائر أم بين طلبة العلم
والدعاة والمصلحين أم كان بين أهل الصنائع والتجارة أم كان بين أهل البيت من والدين
وأبناء وأزواج.
ولذلك فإنَّ مِن أحبِّ أعمال جنود إبليس إليه: التفريق بين الزوجين، لِـمَا له من
أثر بالغ في ضعف الأمة، فإنَّ انهيار البيوت الزوجية يفضي إلى الضعف العام في
الأمة، إضافة إلى ما يورثه من انخفاض مستوى التدين في الناس، عن جابر بن عبد الله
قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنَّ
إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء
أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما
تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت. قال الأعمش:
أراه قال: فيلتزمه»[24].
وكثير من المشكلات الزوجية تنشأ من صغائر الأمور، فيوقد الشيطان تحتها حتى تنضَج
وتتحول إلى فُرقة.
تخويف المؤمنين من تكاليف الإيمان:
ومن ذلك الإيعاد بالشرور كما قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:
268].
قال ابن عباس:
«يقول:
لا تنفق مالك، وأمسكه عليك، فإنك تحتاج إليه»[25].
إنَّ كثيراً من المبررات التي يوردها الناس في سبيل ترك الطاعات واقتراف المآثم هي
من إيعاد الشيطان وتخويفه، فتارة يخوف من الفقر وقلة المال فيكفُّ الناس عن البذل
والصدقة، وتارة يخوف من القتل فيكفون عن قول الحق وإنكار المنكرات ومجاهدة العدو،
وتارة يخوف من تعرض الذرية للمخاطر فيكفُّ الناس عن التفاؤل والإقدام، وغير ذلك من
دروب التخويف الشيطانية كالتخويف من فوات دنيا أو ضيـاع منصب أو تشويه سمعة. وقد
أخبرنا القرآن عن التخويف من العدو، قال الله تعالى: {إنَّمَا ذَلِكُمُ
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:
175].
إعانة المرء على التحايل على أحكام الشريعة:
قال ابن القيم:
«ومن
مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل والمكر والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم
الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف
على ذمه»[26].
فبالحيل تسقط المجتمعات في ارتكاب المحرمات والانحراف عن دين الله تعالى على إثر
فتوى تجيز ذلك، وبها يستسهل الفرد مقارفة الخطايا، وقد كان هذا مذهباً في بني
إسرائيل، وتبعهم في هذه الأمة من تبعهم، تحقيقاً لرغبات الشيطان.
[1] التحرير والتنوير: 4/139 (بتصرف).
[2] السنة لأبي بكر الخلال، حـ 1585.
[3] إغاثة اللهفان: 1/90.
[4] تفسير الطبري: 14/ 654.
[5] بدائع الفوائد: 2/ 213.
[6] تفسير الطبري: 8/ 338.
[7] معالم التنزيل: 8/ 232.
[8] أخرجه مسلم، حـ 2814.
[9] تفسير ابن كثير: 8/ 539.
[10] تفسير البغوي: 3/ 219.
[11] المحرر الوجيز: 2/384.
[12] الفوائد، ص173.
[13] أخرجه أبو داود، حـ 5112.
[14] أخرجه البخاري، حـ 3276.
[15] جامع العلوم والحكم: 2/172.
[16] أخرجه مسلم، حـ 2203.
[17] لطائف المعارف، ص338.
[18] أخرجه البخاري، حـ 608.
[19] بدائع الفوائد: 2/261.
[20] إغاثة اللهفان: 1/143.
[21] أخرجه أحمد، حـ 8369، وأصله في الصحيحين.
[22] شفاء العليل: 1/171.
[23] أخرجهما مسلم، حـ 2812 - 2813.
[24] أخرجه مسلم، حـ 2814.
[25] تفسير الطبري: 5/ 5.
[26] إغاثة اللهفان: 1/338.