يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في أحد لقاءاته الصحفية: «إن نهاية دول اليهود حتمية لا مفر منها»
تعددت وصفات نصر الفلسطينيين الأخير على الصهاينة وصوره، وجميعُها بدت واضحة؛ فقد
بادت صفقة القرن في مهدها، وخجل المطبِّعون من خنوعهم، وانهزم لامِزُو المقاومة
ومشنِّعوها، وازدادت المقـاومة قوة وإصراراً، وأصبحت واقعاً يرى الجميعُ أَثَره
ويعرف قَدْره، وبدت علامات الخيبة على أقوى جيوش المنطقة وقد قَبِل بوقف إطلاقِ
نارٍ متزامنٍ؛ وكأن الكفتين متعادلتان في ميزان القوى العسكرية. لكن ذروة سنام هذا
الانتصار - رغم تعدد مجالاته السابقة - هو شعور الفلسطينيين - سواء في غزة أم في
الضفة أم في داخل الكيان الصهيوني أم في الشتات - بأنهم لحمة واحدة، ينتابهم إيمان
بأن دولتهـم ما زالت حية وتستحق الدفاع من أجْلِها، وبقرب تحرُّر المسجد الأقصى من
الصهاينة. هذا هو النصر الحقيقي؛ أن عودة فلسطين أمل قاب قوسين أو أدنى أن يتحقق.
إسرائيل وحتمية النهاية:
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في أحد لقاءاته الصحفية:
«إن
نهاية دول اليهود حتمية لا مفر منها».
بنى الدكتور المسيري رؤيته على مركزية فكرة المقاومة وبقائها، فلا يجود في التاريخ
البشري الحديث احتلال استيطاني نجح في البقاء والاستمرار ما دام الشعب صاحب الأرض
باقياً على أرضه ويحاول المدافعة.
فالغرب لم ينجح في الاحتلال الاستيطاني لأمريكا إلا بإبادة أهلها، وكذلك فعل في
أستراليا. وكذلك لم تنجح فرنسا في احتلالها الاستيطاني للجزائر رغم بقائها ما يقارب
مائة وثلاثين عاماً، لأن شعبها بقي يقاوم.
لا يحتاج الشعب الفلسطيني إلى من يأتي إليه من الخارج ليحرر أرضه، نعم! هو يستحق
الدعم، وأرضه والمسجد الأقصى يستحقان الفداء من كل قلب ينبض بحب الله ورسوله. لكنَّ
رأس الحربة في بوتقة هذا الصراع هو الشعب الفلسطيني. تلك حقيقةٌ وعاها الاحتلال
تماماً، لذلك كانت إستراتيجيته هي الإبادة كما فعل من قبل أستاذته ومنشئوه، إنها
إبادة من نوع جديد.
نهاية الفلسطيني الجديد:
في محيط عربي وإسلامي صَعُب على الصهاينة أن يتبنوا حرب الإبادة الجسدية فيفنوا
العرب والفلسطينيين جميعاً على بَكرة أبيهم، لكنهم سلكوا طريقاً آخر أقلَّ تبعة
وأبطأ مساراً لكنه أوفرُ حظاً وأبعدُ أثراً. ففي خطاب في معهد واشنطن لسياسات الشرق
الأوسط عام 2009م وقف الجنرال كيث دايتون (المنسق الأمني الأمريكي بين إسرائيل
والسلطة الوطنية الفلسطينية) يستعرض نتائج مهمته بقوله:
«ما
فعلناه هو بناء رجال جدد وجيلٍ لا يمكن أن يكون مبعث تهديد لـ (إسرائيل)».
كانت خطته هي إبعاد الفلسطيني عن قضيته وتحويله إلى مسخ منفصل عن تاريخه وواقعه
وقيمه ومصالحه الوطنية ويتحول - في أحسن الأحوال - إلى مجرد مستهلك للسلع والمفاهيم
الصهيونية.
تلك هي الوصفة الصهيونية: إبادة الانتماء القيمي لدى الإنسان الفلسطيني، فصار هناك
فلسطينيو غزة بهمومهم وإشكالياتهم ومعاناتهم، وهؤلاء غير فلسطينيي الضفة الذين
يعانون من جنود الاحتلال والمستوطنين وأجهزة التعاون الأمني الفلسطينية، وهناك
فلسطينيو الداخل بأحزابهم ورموزهم وقضاياهم، سعى الاحتلال إلى أن يحصر كلَّ فريق في
إطاره، منكفئٍ على جزئيات حياتية يومية بعيداً عن قضاياه المصيرية وهكذا ظن
الاحتلال أنه اقترب من تحقيق أمانيه فتوغل في جنبات القدس أكثر وصارت تحرشات
المتطرفين بالمسجد الأقصى واقتحاماتهم له أعنف وأكبر جمعاً.
بالطبع كان الفلسطيني الجديد هو حجر الزاوية، لكن كان العربي الجديد هو أيضاً أحدَ
ملامح إستراتيجية الإبادة من أجل البقاء. العربي الجديد الذي لديه القابلية للتطبيع
مع هذا الكيان الغاصب المحتل، الذي زرعت بداخل رأسه قناعات مهترئة نحو أن الفلسطيني
هو من باع أرضه، وأن اليهودي هو ولد العم يحسن التعايش معه، للولوج سريعاً لمرحلة
السلام الدافئ مع الشعوب، مع أن أطراف اليهود قد تجمدت من اتفاقية السلام التي
وُقِّعت مع مصر والأردن قديماً.
فشل تلك المعادلات جميعاً هو النصر الذي يحق لنا أن نَسْعَد به، ونهاية إسرائيل
باتت وشيكة؛ ذلك أن عودة فلسطين وقضية المسجد الأقصى لتكون قضية الأمة وبوصلتها،
أثبتت أن الأمة ما زالت مادة الحياة تسري في أوصالها، وأنه رغم المكر والتضييق
والتطبيع، لا أحد يستطيع أن يطفئ نور الله في القلوب، وأرض فلسطين وقدسها وأقصاها
ليست تراباً فقط بل هي عقدية وإيمان.
لقد أسقط انتصار الفلسطينيين تلك المعادلة ولم يعد هناك ما يسمى الفلسطيني الجديد،
ولا العربي الجديد، من بقي منهم أذناب لا يستحقون الذكر. لقد أحيا النصر الجديد
نفوساً أظلمت قلوبَها بواعثُ اليأس من التغيير.
وهنا بيت القصيد: فأمريكا والاتحاد الأوروبي من ورائها يسعون لتجزئة الجسد
الفلسطيني الممدد فوق ترابه وتمزيق أشلائه: فهذا معتدل وهذا إرهابي، وهؤلاء داخل
الخط الأخضر وآخرون خارجه، يدعون هؤلاء للحوار وهؤلاء خارجون عن هذا الإطار يجب
شطبهم أو تهميشهم... وهنا لحظة الحقيقة إن لم يغتنمها الفلسطينيون فستظل قضيتهم
معلَّقة إلى أن تحين ساعة أخرى. وكأن نداء فلسطين اليوم لأبنائها رغم جراحها ووطأة
الاحتلال عليها: إن عدتم عدتُ ولملمتُ أشلائي، وإن تفرقتم تجزأتُ وذهب وطنكم، فلم
تعودوا بَعْدُ أبنائي.