إن الذي حمل أدعياء السلفية على هذا الصنيع - وهو مناصرة النصارى والملحدين على المسلمين وتمكينهم من بلادهم - هو ما ذكرناه آنفاً من حجة قتال الخوارج - حسب زعمهم - واستئصال شأفتهم، والخوارج عند هؤلاء الغلاة هم مَن خرج عن مذهبهم! وخالف شيخهم، ولهذا قلنا عنهم غ
إنَّ عداوة ملل الكفر والشرك للمسلمين وإرادة استئصالهم حقيقة كعين الشمس لا يجحدها
إلا مكابر، وهي عداوة باقية ما بقي الإسلام والمسلمون على هذه الأرض، قال تعالى:
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}
[البقرة: 120].
ومَن سبر كتب التاريخ وتأمل العاديات التي عصفت بأمتنا الإسلامية رأى أنها إنما
أُتيت من قِبَل أبنائها العاقين أصحاب الآراء المنحرفة والأهواء الهدَّامة، ورأى أن
عامل الهزيمة ليس هو ضعف العدد وقلة الزاد والعوز المادي بقدر ما هو رواج البدع
وتمكُّن أصحابها من بلاد المسلمين، وذلك عقوبة من الله للمسلمين بما ضيعوا من
الأنوار النبوية والشرائع المرضية، بل الأمر لا يقتصر على كونه عقوبة ربانية، بل
خطر المبتدعة والباطنية يكمن في كونهم أداة من أدوات العدو التي يضرب بها ويبطش،
وبيان ذلك أنَّ الأمة سرعان ما تصحوا من غفلتها وتنهض بعد كبوتها إن كانت سليمة
العقيدة لم يمازجها كدر البدع وشؤم أهلها، فإن تمكَّنت البدع وراجت أقعدها ذلك عن
الفلاح والنجاح، وحال دون نهوضها وتحررها.
وأستعرضُ لكم الآن مثالين، وكلاهما في طرابلس الغرب يشهدان بما قررناه آنفاً:
الأول: ما وقع من غلاة المتصوفة في طرابلس الغرب عندما غزت أساطيل روما المدينة
وزحفت بجحافلها تقتل الآمنين وتسبي النساء وتستعبد الأحرار، وذلك في شوَّال سنة
١٣٢٩هـ الموافق لأكتوبر ١٩١١م.
فما كان من غلاة المتصوفة إلا أن خذَّلوا الأمة عن قتال المعتدين، واتَّهموا كلَّ
مَن صمد في وجههم بأنهم قطاع طرق ومفسدون في الأرض، وأوهموا الأمة أنَّ الغزو إنما
هو قضاء وقدر من الله لحكمة أرادها، وليس القتال إلا رفض لأمر الله واستنقاص لذات
الباري وحكمته.
وكان غلاة المتصوِّفة في ذلك الوقت يحظون بالمكانة العالية الرفيعة عند الولاة
العثمانيين، ورغم هذا الجاه العريض الذي مدَّهم به الولاة فإنَّهم لم ينالوا الطاعة
ولا التَّبجيل والإذعان من أكثر الأهالي حضراً وبدواً، وذلك لعاملين اثنين:
أولهما: ما جُبل عليه زعماء البلد وشيوخ القبائل من الأنفة والكبرياء، حتَّى آثروا
الفناء على أن يخضعوا للغازي الذي لا يقاسمهم عِرقاً ولا لغةً ولا ديناً.
ثانيهما: الصراع الذي كان بين غلاة المتصوفة وبين علماء البلد من أتباع مدرسة أحمد
زروق، وابن غلبون، وأخيراً محمد بن علي السنوسي، وغيرهم، ممن انبروا لتمحيص عقائد
المتصوِّفة وتفنيد ما يخالف العقل والنقل، وكان أكثر الأهالي يعظِّمون هؤلاء
العلماء ويقتدون بهم.
نعود قليلاً إلى بيان موقف هؤلاء المتصوِّفة من الغزو، فقد أورد المؤرخ الطاهر
الزاوي مفتي ليبيا سابقاً في كتابه: جهاد الأبطال في طرابلس الغرب (ص٩٠) رسالة
مشهورةً كتبت على لسان: (كارلو كنيفا) قائد العساكر الإيطالية، موجَّهة إلى
الأهالي، وهي بقلم أحد المتصوفة ممن كان يدرس بالأزهر، وممَّا جاء فيها من التخذيل
والتدليس وتوهين الأمة عن دفع الغُزاة المعتدين:
«فإرادة
الله ومشيئته سبحانه قَضَتَا أن تحتلَّ إيطاليا هذه البلاد لأنه لا يجري في حكمه
إلا ما يريد، فهو مالك الملك وهو على كل شيء قدير. فمن أراد أن يُظهِر في الكون غير
ما أظهره مالك الملك رب العالمين، المنفرد بتصرُّفاته في ملكه الذي لا شريك له فيه،
فقد جمع الجهل بأنواعه! وكان من الممترين! وبناءً عليه يلزم على كل مؤمن أن يرضى
ويسلِّم بما تعلَّقت به الإرادة الربانية وأبرزته القدرة الإلهية، فالْـمُلك له
سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء».
وبالمناسبة فهذا عين ما فعله المتصوِّفة في الجزائر، بل في سائر المغرب الإسلامي،
فبهم توطَّدت أقدام العدو ورسخت، حتى قال أحد ألمع من عاصر تلك الحقبة، ألا وهو
محمد رشيد رضا:
«استطاعت
دولة فرنسا إفساد بأس جميع الطرائق المتصوفة في إفريقية، واستمالة شيوخها بالرشوة،
إلا الطريقة السنوسية»[1].
وإنما حملهم على ذلك بعد إيثارهم للسلامة، وكنزهم الذهب والفضة، مذهبهم الفاسد في
القضاء والقدر الذي ورثوه عن أسلافهم، وهو عين ما احتجُّوا به عندما غزتْ المغول
الشام، وفي ذلك يقول ابن تيمية في كتابه: العبودية (ص١٠٧):
«وهذا
مقامٌ عظيمٌ غلط فيه الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتَّى زلق فيه من
أكابر الشيوخ المدَّعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيهم إلا اللهُ الذي
يعلم السرَّ والإعلان. وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر رحمه الله فيما ذُكر عنه
[أنَّه قال] والرَّجل من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر».
ويقول في موضعٍ آخر
«فالشرُّ
تارةً يكون قد انعقد سببه وخيف فيدفع وصوله، فيدفع الكفار إذا قصدوا بلاد الإسلام،
وتارةً يكون قد وجد فيزال وتبدَّل السيِّئات بالحسنات، وكل هذا من باب دفع ما قدِّر
من الشر بما قدِّر من الخير... والمقصود من ذلك أنَّ كثيراً من أهل السلوك والإرادة
يشهدون ربوبية الرب، وما قدَّره من الأمور التي ينهى عنها فيقفون عند شهود هذه
الحقيقة الكونية، ويظنون أنَّ هذا من باب الرِّضا بالقضاء والتسليم، وهذا جهل وضلال
قد يؤدي إلى الكفر والانسلاخ من الدين؛ فإنَّ الله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من
الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده... والله تعالى قد قال:
{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: ٧]»[2].
وليس المقام الآن لتفنيد هذه الشبهة وبيان عوارها، وإنما لبيان شؤم البدعة وكيف
تعدَّتْ الجانب النظري حتَّى تمكَّن الصليبيون الغُزاة من الاستفادة منها في توطيد
ملكهم في بلاد المسلمين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:
«وإن
كلُّ بدعةٍ ضلالة»[3].
المثال الثاني: ما وقع من أدعياء السلفية، غلاةِ الجرح والنقد والتبديع في أحداث
العدوان على العاصمة طرابلس سنة ٢٠١٩م، إذ انضمُّوا إلى المعتدين في حربهم على
العاصمة بَدَلَ أن يكونوا دُعاة صُلحٍ وسلام، وأوغلوا في سفك الدماء المعصومة ولم
يرجعوا عن موقفهم هذا حتى عندما استغاث حلفاؤهم بمرتزقة الفاغنر[4]؛
بل استمرُّوا في عنادهم وظلمهم حتَّى مات كثير منهم تحت راية الصليب التي يبغضونها،
وضمن جحافل قومٍ لا يوافقونهم في دينٍ ولا لغةٍ ولا عِرقٍ بحجَّة قتال الخوارج،
ونصر السنَّة!
فإنَّه ما تمكَّن الجيش الذي غزا طرابلس والذي استعان بهؤلاء المرتزقة إلَّا بفضل
دعم أدعياء السلفية إيَّاه لسنواتٍ وسنوات، بدل أن ينأوا بأنفسهم عن هذه الفتن
والمحن امتثالاً لأمر الله ورسوله، فكانت النتيجة آلاف القتلى منذ سنة ٢٠١٤م وحتى
٢٠٢١م.
بالإضافة إلى سيطرة المرتزقة الروس أخيراً على مدينة الجفرة وسرت التي تبعد عن
العاصمة ٥٠٠ كم شرقاً، إثر هزيمتهم في جنوب طرابلس شهر مايو/ يونيو ٢٠٢٠م. وكذا
سيطرتهم على عدَّة حقول نفطيَّة في صحراء البلاد في يوليو ٢٠٢٠م، وَفْقَ تقرير
المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، ووفق ما أوردته كبرى وكالات الأنباء العالمية.
وهكذا مكَّنوا المرتزقة الروس من ثروات بلادهم، وجعلوا من وطنهم مسرحاً لصراع القوى
الكبرى المناوئة لروسيا.
إن الذي حمل أدعياء السلفية على هذا الصنيع - وهو مناصرة النصارى والملحدين على
المسلمين وتمكينهم من بلادهم - هو ما ذكرناه آنفاً من حجة قتال الخوارج - حسب زعمهم
- واستئصال شأفتهم، والخوارج عند هؤلاء الغلاة هم مَن خرج عن مذهبهم! وخالف شيخهم،
ولهذا قلنا عنهم غلاة تبديع؛ فإنَّ هذه الفرقة لا تقلُّ خطورتها عن الخوارج، فأولئك
غلاة تفسيق ثم تكفير، وهؤلاء غلاة تبديع ثم تكفير.
وهذا المسلك الجائر في التعامل مع مَن خالفهم من المسلمين قد تلقَّفوه وورثوه عن
مشايخهم المعاصرين الذين عُرفوا بشدَّة النقد والغلو في التجريح والتبديع، وإن كان
مشايخهم لم يربُّوهم على تكفير المخالفين فضلاً عن الاستعانة بالكافرين على قتالهم،
إلا أنَّه - كما قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى وغفر له -:
«فالبدع
تكون في أولها شبراً، ثم تكثر في الأتباع حتَّى تصير أذرعاً، وأميالاً، وفراسخَ»[5].
وقال:
«وإذا
كان الغلط شبراً، صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً، حتَّى آل هذا المآل»[6].
وبعدُ، فإن الواجب على الدعاة والفقهاء أن يبيِّنوا للناس عوار هاتين الفرقتين، وأن
يرسِّخوا في عقول وأفئدة الناشئة العقيدة الصحيحة التي جاءت بها الشريعة موافقة
للفطرة، وإن كانت الفرقة الأخيرة (الغلاة) أخطر وأكثر رواجاً وانتشاراً في زماننا،
فهذا لا يحملنا على غضِّ الطرف عن هرطقة المتصوِّفة وخزعبلاتهم لضمور مذهبهم وأفول
نجمهم، فإنَّ ما حكاه عنهم الطاهر الزاوي قبل مائة عامٍ في طرابلس الغرب، قد حكاه
عن أسلافهم ابن تيمية قبل ثمانية قرون في الشام، والتاريخ يعيد نفسه.
وختاماً: فإنَّ الأمم لا تنهض وترتقي سبل المجد إلا بعزيمة أبنائها، ولا عزيمة إلا
بعقيدة، ولا عقيدة للعرب ترفعهم وتعزُّهم غير عقيدة الإسلام النَّقي الخالص من
البدع والمحدثات.
وإذا كان ذلك كذلك فلْيتخيَّر الدعاة أقوم السُّبل لنصرة دينهم، ولا يشتغلوا بالفرع
عن الأصل، وليأتوا البيوت من أبوابها لا من ظهورها، والله من وراء القصد، وهو حسبنا
ونعم الوكيل.
[1] تاريخ الحركة السنوسية، ص١١٨.
[2] مجموع الفتاوى: ٨/٥٤8 - 549.
[3] رواه أبو داود وابن ماجة وصححه شعيب الأرناؤوط.
[4] فاغنر: شركة أمنية روسية مُقربة من بوتين.
[5] مجموع الفتاوى: 18/ 425.
[6] بغية المرتاد، ص٤٥١.