جعل الله -سبحانه وتعالى- للجنة أبوابًا لا يدخلها أحدٌ غير أولئك الذين تميّزوا بأعمال صالحة بعينها، وجعل لجهنم أبوابًا لا يدخلها أحد غير أولئك الذين تميّزوا بأعمال طالحة بعينها.
عندما يكون الإنسانُ مؤمِنًا وتقيًّا، سيلقى بركات الله في كل مقوّمات حياتِه،
بشكلٍ مؤكَّدٍ. ولكنَّه إذا عاش بعيدًا عن الإيمان والتقوى، سيعيش حالةً من الضَّنك
حتى لو بدا في الظاهر غير ذلك. فلا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال أن يفتح الله بركاته
على شخصٍ لا يؤمن بالله ولا يكون تَقيًّا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
فكل ما وقع من أذًى على شخصٍ تعرفه أو لا تعرفه، كان بالإمكان ألَّا يقع:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى} -الذين أصابهم ما أصابهم-: {آمَنُوا}
بِما أُنزِلَ إليهم من خلال أنبياء الله ورسله {وَاتَّقَوْا} الله وأصلَحُوا
ما بهم من اعوجاج واستقاموا، عندها وبدلًا عن كل ذلك الذي أصابهم: {لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}.
المطر الذي يحمل لهم الخير {مِنَ السَّمَاءِ} والنبات من {الأَرْضِ}.
إذن ثمة أُناس يَفتح الله عليهم {بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَـاءِ وَالأَرْضِ}،
فتراهم ينعمون ويسـتلذّون بكل مقوّمات حياتهم، يتمتّعون بصفاء الذهن، وطمأنينة
القلب، يكونون حكماء في تصرّفاتهم، يأخذون العِبْرَة من التاريخ ومن الحاضر.
واعلم أن البركات لا تقتصر على أشياء دون غيرها، ولا تقتصر على المظاهر، بل يعيش
الإنسان تفاصيلها وحقيقتها: تتفتّح أساريرُه لإشراقتها، تنتشي حواسُه لعبيرها.
ويومًا عن يوم يزداد خبرةً ونضجًا واستنارةً وامتلاءً بالحياة، فتراه ناجحًا في
مِهْنته، ناجحًا في علاقته الزوجية، ناجحًا في تربيته لأبنائه، في علاقته بأقربائه
وجواره.
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا}،
ما أصابهم كل ذاك العِقاب الذي جَلَبُوه على أنفسهم نتيجة تجاوزاتهم وتماديهم في
العصيان، بل: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}.
فحتى لو استُدرِجَ الإنسان إلى بعض المعاصي؛ فإن الله عز وجل يُمْهِله كي يتراجع
ويُؤمِن ويتَّقي، وقد بيَّن القرآن هذه الحقيقة في أمثلةٍ حيَّةٍ جرت على أرض
الواقع، ومن ذلك ما حصل لقوم يونس -عليه السلام-؛ حيث تراجعوا عن ذنوبهم، وتابوا
إلى الله قبل أن يحل عليهم العذاب: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ
فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ
عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}
[يونس: 89].
وقد آمن القوم جميعًا، وكان عددهم يزيد عن مائة ألف { وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ 147 فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ}
[الصافات: 147، 148].
فأقصى ما يمكن أن يغدق عليك أغنى أغنياء الأرض، هو أن يفتح عليك خزائنه وممتلكاته،
لكن الله بيده خزائن وممتلكات الأرض جميعًا. فإن قال بأنه يفتح للمؤمنين المتّقين
{بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، فذلك من أعظم ما يمكن للإنسان أن
يَحْظى به من نعيم، فلا شيء بوُسْعه أن ينال قيد شعرة من بركة الله في بَدَنك، أو
رزقك، أو أهلك، وشرط كل ذلك أن تكون مؤمنًا، وتقيًّا في إيمانك. ثم جاء قوله -تبارك
وتعالى-، كفاصل للجملة السابقة، {وَلَـكِنْ}، أي بدل أن يؤمنوا ويتّقوا
لنفتح {عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، {كَذَّبُوا}
بآياتنا ورسلنا، ولبثوا في عصيانهم وفسادهم، {فَأَخَذْنَاهُمْ} عاقبناهم
{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. والعبارة دقيقة، أي يكون العِقاب مِن جنس
المعصية، فلكل شيء نتاج، فإن زرعتَ وردًا، جنيتَ وردًا تنتعش به، وإن زرعتَ شوكًا،
جنيتَ شوكًا تُشاك به.
فالزاني يُعاقِبه زِناه، والفاجر يُعاقِبه فجوره، والفاسق يُعاقِبه فسوقه، والسارق
تُعاقِبه سَرِقته، والكاذِب يُعاقِبه كذبه. فتظهر أوبئة لأهل معصية ما، فيكفّوا عن
ذلك خوفًا من إصابتهم بهذا المرض، وعلى هذا النحو في سائر أنواع المعاصي، كما أن
الله -سبحانه وتعالى- يُعاقب الإنسان بالحرمان من رزقٍ رزقه به، فلم يُقدِّر هذا
الفضل، أو أسرف فيه، ومثل ذلك بعض الأوبئة التي تصيب الحيوان، فيضطر الناس إلى
التخلُّص منها تفاديًا؛ من انتقال تلك الأوبئة إلى الإنسان، فيكونوا بذلك قد
حُرِمُوا من رزقٍ وفيرٍ رزقهم الله به، ثم حرَمهم إيَّاه.
وبالمقابل فإن الثواب أيضًا يكون من جنس الطاعة، (ويُرْوَى أن أبا الطيب الطبري قد
جاوز المائة سنة وهو ممتَّع بعقله وقوته، فوثَب يومًا من سفينة كان فيها إلى الأرض
وثبةً شديدةً، فعُوتِب على ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصِّغر،
فحفظها الله علينا في الكِبَر).
وإن كان ذلك في الدنيا، فهو في الآخرة أيضًا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله
عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم :
«مَنْ
قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي
بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا. وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا
فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا
فِيهَا أَبَدًا. وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى
فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا»[1].
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«إِذَا
خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى
إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ»[2].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«مَنْ
ضَرَبَ سَوْطًا ظُلْمًا اقتُصَّ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَة»[3].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ:
«لَتُؤَدُّنَّ
الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ
الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»[4].
وقد جعل الله -سبحانه وتعالى- للجنة أبوابًا لا يدخلها أحدٌ غير أولئك الذين
تميّزوا بأعمال صالحة بعينها، وجعل لجهنم أبوابًا لا يدخلها أحد غير أولئك الذين
تميّزوا بأعمال طالحة بعينها.
وقد رأينا كيف أن بعض أزلام الطغاة الذين كانوا يُدبِّرون الاغتيالات للناس، ثم
يَدَّعون بأنهم انتحروا، أو اغتيلوا، أو ماتوا بحوادث، أو أمراض، فكانت نهايتهم على
أيدي ذات الطغاة، فتم اغتيالهم، أو أُشيع بأنهم انتحروا، أو اغتيلوا، أو ماتوا
بحوادث، أو أمراض. فذاقوا ما كانوا يُذيقونه لغيرهم، وذاقَ أهلوهم ما ذاق أهل
أولئك. فالذي يَشِي بالناس، يُوشَى به، والذي يَكْذِب، يُكذَب عليه، والذي يَنتهك
الأعراض، يُنتَهَك عِرْضه، والذي يَغْتصب، يُغتَصَب، فإن الله -سبحانه وتعالى-،
يُسلّط على الفاسدين أُناسًا من معادنهم، وقد يُؤخّر عذابهم للآخرة ولا يرون الجزء
في الدنيا.
ثم تعلّمك الآية في وجهها الآخر بأن الذي يعز نفسه، يعزه الله، والذي يتجنّب أن
يؤذي الناس، يجنّبه الله أذى الناس.
فإن أردتَ أن تكون فاسدًا، فإن الله لا يزيدك فسادًا، بل يرشدك إلى الصلاح، وإن
أردتَ أن تكون صالحًا، فإن الله يزيدك صلاحًا، ويُجنّبك الفساد. فمهما حرصتَ على
نفسك، فإن الله أحرص منك عليك، وإن مَدَدتَ خطوة إلى الصلاح، بارَكَها الله ويسّرك
إلى المزيد، وإن مَدَدتَ خطوة إلى الفساد، أعاقها الله، وعسّرك فيها حتى لا تمدّها
إلى المزيد، لعلّك تتراجع. يقول الله -عز وجل-: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن
يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف: 97].
فإن نمتَ، هل تأمن أن بأس الله لا يقع عليك وأنتَ في لفائف نومك، وكأن الآية تسألك:
كيف يأتيك نوم وأنت في كل هذا الوزر، وأنت في كل هذا الظلم، أَفَأَمِنتَ أن تنهض من
نومك.
فاترك فراشك، ولا تَعُد إليه قبل أن تُعيد للناس حقوقهم عليك، قبل أن تُصلح من شأنك
وتتوب إلى بارئك، وتستغفره عَمّا بَدَرَ منك سواء عن عَمد، أو غير عَمد، فإنه يَغفر
العَمد، وغير العَمد. فالبأس في الآية الكريمة، ما يُصيب الجسد؛ لأن النائم لا يعلم
ما الذي يُصيب جسده وهو نائم؛ فقد يحترق، قد تأتي حشرة وتلسعه، قد يدخل عليه شخص
ويقتله، قد يرى حلمًا ويضطرب، ونتيجة ذلك ترتفع نسبة أي معدّل في دمه، فيُصاب بشلل،
وما إلى ذلك مِمّا يمكن أن يصيب الإنسان وهو نائم. وهنا تنبيه بأن الله لا يُسلّط
عليك ما يؤذيك وأنت يَقِظ فحسب، بل قد يحدث ذلك عندما تكون نائمًا، فلا تأمن أن
يصيب بَدَنَكَ بأسُ الله في ظلمة سكون الليل وأنت نائم.
يقول -تبارك وتعالى- في بيانه: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم
بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 98].
وقد يأتيك بأسُ الله وأنتَ تمضي وقتًا في التسلية واللّعب مع أصحابك نهارًا، فعليك
وأنت تلعب، وقد نسيتَ نفسك في اللّعب والتسلية، ألاّ تنسى بأن الله لم يَنْسَك،
ويمكن أن يُصيبك في بَدَنِكَ وأنتَ في ذروة لعبك {ضُحًى}، في وَضَح النهار،
وهذا نظير ما جاء في الآية السابقة عند النوم. فعلى الأغلب يكون الليل وقت النوم،
وكلّما تقدّم الليل وحَلَكت العتمة، استسلم الناس للنوم أكثر. فجاء التذكير
والتنبيه لك وأنتَ نائم في سكون الليل، ثم وأنتَ يَقِظ تلعب في وضح النهار. والهمزة
في {أَوَ} استفهامية ولعلّ بينها وبين الواو العاطفة كلمة مقدرة: {أَ}
تجاهل {وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} استنادًا إلى تجاهلهم، والتجاهل هنا
غير الجهل، فالذي يجهل قد لا يعلم، لكن الذي يتجاهل، فيعلم لكنه يتجاهل ما يعلم.
يقول الله -تعالى-: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إلَّا الْقَوْمُ الْـخَاسِرُونَ} [الأعراف: ٩٩].
المكر هنا بمعنى المـُباغَتة بالحق، كالذي يمضي في طريق، فيسقط شيء ما عليه من بناء
فيجعله في عاهة، أو تصدمه سيارة عابرة، أو تصيبه طلقة طائشة، أو بغتة يرى نفسه وسط
حريق، أو بين يدَي مجرم.
والآية متعلّقة بالآيتَيْن السابقتَيْن، فقد يحدث ذلك في أي وقت من الأوقات، وفي أي
وضع تكون فيه. {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}، حتى يصولوا ويجولوا ويمردوا،
كما لو أن لا أحد بمقدوره أن يردعهم أو يوقفهم عند حدودهم. فعليك أن تضع ذلك دومًا
بالحسبان، {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ} مُباغَتة {اللَّهِ} المتوقعة وغير
المتوقعة {إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. فكل الأوقات متوقّعة لإيقاع
العِقاب على المفسدين سواء أكان ذلك متوقّعًا مِن قِبَل الناس، أو غير متوقع، فبعض
الوقائع يعجب الناس لوقوعها؛ لأنهم لم يكونوا يتخيّلون وقوعها حتى على سبيل
التخيّل. فشخص يكون قد طغا وتمكّن من البلاد والعِباد، ينتهي نهاية لم يتوقعها أحد،
ولكن الله يذل هذا الظـالم، ويجعله يخنع ويُهان على مرأى من الناس. فيتحـوّل ما لم
يكن يخطر للمخيّلة إلى واقع ملموس يراه الناس جميعًا. فإن الله لا يدع البلاد
والعِباد للطُغَم الفاسدة، بل يستخلص البلاد والعِباد من طغيانهم: {فَلاَ
يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. وتكون خسارتهم على
مقدار لا شعورهم ولا يقينهم بهذا المكر الإلهي الذي سيصيبهم بغتة، ونقيض الخسارة،
الفوز. فإن آمن الإنسان بهذا المكر، سيكون ذلك سبيله للتقوى، فيتحوّل من خاسر إلى
فائز. وعلى ذلك، آمِنُوا باحتمال وقوع عِقاب الله في أي وقت من الأوقات حتى تكونوا
من الفائزين، ولا تكونوا من الخاسرين.
وفي الآية الأخيرة التي نستشهد بِها في هذا الإرشاد القرآني السليم لإنسان كل زمانٍ
ومكانٍ، يقول الله -تبارك وتعالى-: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ
الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ
وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
الآن يبيِّن الله -تعالى- بأن هذا القصّ ليس لأُناسِ مرحلةٍ ما، أو لقومٍ ما، بل هو
قَصٌّ مُوجَّه للبشرية جمعاء في كل زمان ومكان.
{أَوَلَمْ يَهْدِ}
يتبيَّن {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ} من بعضهم لبعض في كل زمان ومكان.
والكلام مُوجَّه إلى الحاضر {يَرِثُونَ} الآن {مِن بَعْدِ أَهْلِهَا}
الذين أصبحوا في الماضي. فيا مَن ترثون {الأَرْضَ مِن بَعْدِ} أن نزعناها من
{أَهْلِهَا} {أَوَلَمْ} يتبيَّن لكم: {أَنْ لَوْ نَشَاء} لأصبناكم
بذنوبكم، كما {أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ}، {وَ} كذلك {نَطْبَعُ
عَلَى} قلوبكم، كما طبعنا على {قُلُوبِهِمْ}.
وجاءت {لاَ يَسْمَعُونَ} مُعبِّرة بدقَّة بالغة عن لُبّ المعنى، والسمع هو
للقلب، فصَمَم القلب لهو أشدّ من صَمَم الأذنَين، ذلك أن أصمّ الأذنَين يمكن له أن
يتّعظ بما يرى، أو يقرأ، لكنَّ أصمّ القلب، مهما أسمَعَته أذناه من عبارات، مهما
أَرته عيناه من آيات الله، فإن ذلك لا يُحَرِّك ساكنًا في قلبه. فهو إن سمع ثناءً،
أو سمع توبيخًا، كان ذلك سيّانَ عنده، إن قبض أجره، أو سرق، إن صدق، أو كذب، كان
ذلك سيّانَ في مذهبه، إن أتى امرأته، أو زنى، إن رأى فاحشة على أهله، ما حرّك ذلك
في قلبه ساكنًا، أي يُصبح كائنًا هَمَجيًّا مجرّدًا من المشاعر الإنسانية. فدقّق في
الآية: {أَنْ لَوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ}؛ أي نجعل بضاعتهم هي
التي تصيبهم، فيُصابون بِما اقترفوا.
ثم قال -جل شأنه-: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فهي عبارة تحـذيرية؛
لأنها لم تقع، لكنها ممكنة الوقوع وَفْق قوله: {أَنْ لَوْ نَشَاء}، وهذا
يعني بأنه لم يشأ بعدُ، وأنه {لَوْ} شاء، لَما ظَلَمَكم، بل أصابكم بذنوبكم،
وهنا فسحة كي يقلع الإنسان عن الذنوب؛ لأن عدم المشيئة هي للإمهال، وهي فرصة
يُتيحها الله -سبحانه وتعالى- للإنسان كي يتوب، فيمكن للإنسان أن يغتنم هذا
الإمهال، ويتوب، فيتجنّب أن يطبع الله على قلبه، ويتحوّل بذلك إلى كائنٍ عَدَميٍّ
بكل مقاييس وتفرّعات العَدَميَّة. ولكن كيف يطبع الله على قلب إنسان؟ ذلك أن هذا
الإنسان يَستَفحش، ويخرج عن المنظومة الإنسانية، فيستهزئ بالقِيَم، والفضائل،
والأخلاق، والشرائع. فلا يُفرِّق بين حقّ وباطل، وبين حلال وحرام، أي يُجرِّد نفسه
من كل خصلة إنسانية، وعقابًا له؛ فإن الله -تعالى- يَدَعه يلوّث سُمْعته، ويتَّسع
في فساده حتى يغلظ في طغيانه، فيصيبه الله بذنوبه، وهو في أَوْج هذا التمادي.
[1] أخرجه البخاري (٥٧٧٨)، ومسلم (١٠٩).
[2] أخرجه البخاري (2440).
[3] أخرجه البخاري في
«الأدب
المفرد»
(١٨٦)، والبزار (٩٤٤٦)، والطبراني في
«المعجم
الأوسط»
(١٤٤٥) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد رقم (١٣٧).
[4] أخرجه مسلم (٢٥٨٢).