• - الموافق2024/11/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الصين.. لم يحن الوقت بعد

شهد التاريخ عبر مسيرته تمكُّن بعض الدول من التحول إلى الحالة الإمبراطورية. وكان لكل منها أسبابه ودوافعه كما اختلفت وتنوعت الظروف التي أتاحت حدوث هذا التحول. كان حمل الدعوة الإسلامية دافعًا لبناء الإمبراطورية أو دولة الخلافة عبر مراحلها.


تغلب على النقاشات السياسية والإعلامية الجارية حول تطوُّرات الوضع الدولي، حالة تركيز متصاعدة على قضية الموقع الدولي للصين والصراع بينها والولايات المتحدة، على إدارة العالم.

وإذا كانت الفكرة الأمريكية المُصَدَّرة في كل تلك النقاشات، هي فكرة «اتهامية» للصين بمحاولة تغيير «النظام الدولي» -وهو ليس إلا نظام غربي جرى فَرْضه بقوَّة السِّلاح-، وفكره «تخويفية»، من تأثير سيطرة وسطوة الصين على الاستقرار الدولي، فهناك مَن يُصَدِّر فكرة أخرى مفادها، أن القادم هو سيطرة الصين وتحوُّلها إلى أمريكا (أو بريطانيا) جديدة؛ إذ يجري الربط بين تصاعد قوة وقدرة الصين، والتراجع المقابل للولايات المتحدة والغرب، والوصول إلى خلاصة بأن الصين ستحل محل الولايات المتحدة.

وواقع الحال، أنَّ مثل هذا التوجُّه في التَّحليل ليس إلا حالة انسياق في داخل الفكرة الأمريكية -هو الآخر- أو سير في مسار خطة شيطنة الصين. وهو توجُّه لا يُدْرَك ولا يُمْسَك، بأسس وحالة وفكرة ومقومات «القوة الدولية الإمبراطورية»، التي تتشكل وفق معطيات متكاملة؛ فكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية ونفسية وإعلامية وحضارية. وهو توجُّه لا يقوم على إدراك المعطيات والظروف الدولية التي تسمح لأي دولة بالتحوُّل إلى قوة إمبراطورية؛ إذ ليس شرطًا أن تكون الدولة الأقوى عسكريًّا واقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، دولة إمبراطورية مهيمنة على العالم، في كلّ ظرف وفي كل وقت.

فالعالم الذي نعيش فيه الآن يشهد تغيرات كلية، ويتطور وفق ملامح ومعادلات جديدة، ولا يقتصر التغيير الحادث فيه على ما يجري من تغيير في معالم قوة الولايات المتحدة إلى الضعف، وفي معالم قوة الصين إلى التصاعد.

العالم الذي نعيش يشهد حالة شاملة من التغيير في معالم قوة دول أخرى كثيرة، إلى درجة القدرة التي تُمكّنها من لعب دور في إدارة العالم بحكم مصالحها، وتلك حالة تمنع وتنهي فكرة وحالة انفراد دولة واحدة بالسيطرة على العالم، وتجعل مثل هذا الاحتمال أمرًا من زمن مضى. وذلك هو جوهر فكرة ومقولة تعدُّد الأقطاب. فإذا كان هذا النمط من التوازنات الدولية، هو ما يُطيح بانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة، فهو يمنع أيضًا أي دولة أخرى من الهيمنة، على طريقة الإمبراطوريات الأمريكية.

لقد تحققت من قبل حالة انفراد دولة واحدة -أو إمبراطورية- بالسيطرة على العالم. شهدت الإنسانية مثل تلك الظاهرة كثيرًا على مرّ تاريخها. غير أن التطور الإنساني الشامل الجاري خلال السنوات الأخيرة، لم يَعُد يسمح بإعادة إنتاج مثل تلك الظاهرة -على الأقل في القرن الحالي- بحكم نهوض وإعادة بناء القوة في العديد من الدول على أسس حضارية مختلفة وعلى أسس تنموية متقاربة في عواملها المعتمدة، بما يجعل الدول أندادًا لبعضها البعض، بحكم تقلُّص الفوارق بينها ولامتلاكها الأسلحة النووية.

وفي ذلك كان انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، حالة مؤقتة، أو كان طبيعيًّا أن يكون ذلك وضعًا مؤقتًا؛ إذ لا مكان الآن لبناء إمبراطوريات مهيمنة كالمغولية والرومانية والبريطانية وغيرها، فتلك حالة تنتهي الآن ويعود العالم إلى حالة التعدد. لقد أصبح النمو والتمدُّد محتجزًا عن حد لا يمكن تجاوزه، وإلا كانت الحرب وكان الفناء.

ولذلك، فإذا حددت وثيقة الأمن القومي الأمريكي -الصادرة مؤخرًا- الصين باعتبارها الدولة التي تملك الاقتصاد والتكنولوجيا والقوة العسكرية المتنامية والتي لديها نوايا لتغيير النظام العالمي، فذلك لا يعني أن بإمكان الصين أن تحكم العالم كما حكمته أمريكا وإدارته لتحقيق مصالحها. وهو يعني أن الصين ما يزال أمامها مشوار من التطور والنمو للوصول إلى حالة النِّدّ الكامل للولايات المتحدة.

نهاية زمن الإمبراطوريات المنفردة

يميل الإنسان عقليًّا إلى إسقاط التجربة التاريخية على واقعه، دون تفحُّص للظروف التي نشأت فيها، وبحث مدى إمكانية تكرارها في ظل الظروف التي يعيشها. وإذا كنا قد تابعنا خلال المرحلة الأخيرة، عودة العقل الإنساني إلى الحديث عن حرب باردة جديدة، للتعبير عن حالة الصراع بين روسيا والولايات المتحدة (والغرب)، فها نحن نشهد مجددًا تكرارًا للعودة لإسقاط التجارب القديمة على حالة الصراع الصيني الأمريكي هي الأخرى؛ من خلال الحديث عن احتمال هيمنة وسيطرة الصين على العالم بديلاً للهيمنة الأمريكية.

لا حرب باردة جديدة

فور عودة روسيا للنهوض وبدء تحركها العسكري، لتأمين توسعها في محيطها الحيوي، ظهرت كتابات تتحدث بدء حرب باردة جديدة. كان ذلك استدعاء للخبرة التاريخية، رغم الاختلاف الجذري بين حالتي الصراع القديمة زمن الاتحاد السوفييتي، والحالية. لقد جرت الحرب الباردة بين حلفين وأيديولوجيتين ونظامين اقتصاديين مختلفين، وكل منهما كان منغلقًا على نفسه. لكن روسيا تغيرت وأنهت علاقتها مع الاشتراكية، كما صارت مكونًا مندمجًا في الاقتصاد الغربي على صعيد الآليات، وكذا لم تَعُد تحتل دولاً أخرى في أوروبا الشرقية، وكذلك، انتهى الحلف الذي كانت تدير من خلاله وبفضل قوته صراع الحرب الباردة (حلف وارسو).

وحتى بعد وقوع أزمة أوكرانيا، وقطع الصلات مع الاقتصاد الروسي، ورغم محاولة روسيا إعادة بناء اقتصاد روسي ودولي مختلف، فالأمر لا يحدث انطلاقًا من اختلاف أيديولوجي ولا يجري بين منظومتين اقتصاديتين مختلفتي القوانين؛ فكلاهما رأسمالي، ولا يشابه الحرب الباردة أبدًا.

انتهى زمن السيطرة على الأمم الكبرى

يُسجّل العالم الآن أنماطًا جديدة من العلاقات الدولية. لن يشهد القرن الحالي ميلاد إمبراطوريات منفردة، بل حتى لن يعيش العالم تحت وطأة صراع إمبراطوريتين متناطحتين. انتهت هذه الظاهرة ولن تتكرر في القرن الحالي على الأقل.

لقد حدثت طفرة في الحياة الإنسانية. والتدافع الإنساني الذي هو قاعدة وسنة، يأخذ نمطًا جديدًا. فالعالم المعاصر يشهد إعادة انبعاث كل الحضارات الإنسانية من تحت ركام السنين دفعة واحدة. ولذا نشهد إعادة بناء «جملة من الدول القوية دفعة واحدة»، وهو ما يحول دون هيمنة وسيطرة أيّ منها على الأخرى.

وسؤال الحياة والمصير الإنساني الآن، هو سؤال مختلف عن ما مر عبر التاريخ البشري؛ إذ لم يَعُد ممكنًا أن تخضع أمة كبرى لأمة كبرى أخرى بالحرب والقتال. فالحرب الآن هي الفناء ولا منتصر ومهزوم فيها.

 كل الدول تستطيع إفناء الأخرى

شهد التاريخ عبر مسيرته تمكُّن بعض الدول من التحول إلى الحالة الإمبراطورية. وكان لكل منها أسبابه ودوافعه كما اختلفت وتنوعت الظروف التي أتاحت حدوث هذا التحول. كان حمل الدعوة الإسلامية دافعًا لبناء الإمبراطورية أو دولة الخلافة عبر مراحلها. وكان التطور التكنولوجي وابتكار الأسلحة وتحقيق فوائض سلعية والحصول على المواد الخام، دوافع لدى الدول الأوروبية في نشأة الظاهرة الاستعمارية. وشكَّل التفوق العسكري والاقتصادي وحروب الدول الأخرى مع بعضها، أرضية لظهور الولايات المتحدة بصفة الدولة الإمبراطورية. وكان الدافع الاستعماري والشعور بالخوف من الآخر والدافع الديني الأرثوذكسي والأيديولوجية الماركسية دوافع للتحرك السوفييتي وبناء الإمبراطوريات الواحدة تلو الأخرى.

إلا أن المرحلة الحالية من عمر البشرية تشهد امتلاك جميع الدول الكبرى دوافع للتنمية، وهي تملك نفس نمط أدوات القوة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية -وإن بدرجات- بما يجعل الدول الكبرى تذهب إلى وضعية الصراع-التعاون، لا وضعية القضاء على حضارات بعضها البعض.

التركيز على الصين

ينشغل المسيطر بالحفاظ على بقاء سيطرته. وفي عالم اليوم ومع توسع عدد الدول القوية والمؤثرة، لم يَعُد ممكنًا الحفاظ على السيطرة ومواجهة المنافس إلا بحَشْد الدول الأخرى، عبر تخويفها من الطرف الطامح للسيطرة أو عبر إغرائها باستمرار مصالحها وتحقيق الاستقرار ببقاء الحال على ما هو عليه.

لقد أصدرت الولايات المتحدة وثيقة الأمن القومي في عهد بايدن في الفترة الأخيرة. وإذ أشارت الوثيقة لروسيا باعتبارها دولة خطرة على الأمن القومي الأمريكي -أو على سيطرة الولايات المتحدة على العالم كقوة إمبراطورية منفردة بالسيطرة-؛ فقد توقفت طويلاً حول الصين.

 ترى الاستراتيجية الأمريكية أن حاجة العالم إلى القيادة الأمريكية كبيرة، كما لم تكن في أيّ وقت مضى، وأن الولايات المتحدة تخوض حاليًا منافسة استراتيجية كبيرة لتشكيل مستقبل النظام الدولي، وأنه لا توجد دولة في وضع أفضل للنجاح في هذه المنافسة من الولايات المتحدة.

وتصف الاستراتيجية الأمريكية الصين، بأنها المنافس الوحيد الذي لديه النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، وأنها تُواصل زيادة قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، لتحقيق هذا الهدف.

 غير أن الاستراتيجية عادت لتُحدِّد وتدقق في طبيعة ما تَصِفه بالخطر الصيني.

قالت الاستراتيجية الأمريكية: إن المنافسة مع الصين ستكون أكثر وضوحًا في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وأضافت، لكن هذه المنافسة كذلك عالمية بشكل متزايد؛ حيث يدور السباق حول العالم لتشكيل العلاقات التي تحكم الشؤون العالمية.

فلماذا التركيز على الصين، وهل تملك الصين القدرة على التفوق على الولايات المتحدة، وما الذي ينقصها، وهل يعني تفوقها أنها ستكون بديلاً لها بنفس طريقتها؟

سؤال الصين الآن

لا تزال الصين تُواصل سيرها الهادئ دون أن تظهر نواياها للعلن. ولا تزال تتحرك بمنطق رد الفعل على صعيد التصريحات والتحركات في مواجهة الضغوط والتهديدات الواقعة عليها من خصومها القلقين من تطورها. وإذ ظهر الرئيس الصيني مؤخرًا مرتديًا ملابس الجيش الصيني؛ فقد جرى التأكيد على أن المقصود هو إظهار مدى استعداد الصين للدفاع عن وحدتها الواقعة تحت التهديد، وأنها لا تُهدِّد أحدًا.

ولقد حققت الصين تطورًا ونموًّا هائلاً في وقت قياسي، والأهم أنها اعتمدت نموذج التطور الاقتصادي الإنتاجي، وأنها طوَّرت اقتصادها بشكلٍ متكاملٍ في جميع المجالات، واختارت المجالات التكنولوجية الأكثر تحديدًا للتفوق المستقبلي على الصعيد العالمي، ولم تكتفِ بالمرور بالمراحل الكلاسيكية في التطور الصناعي.

 غير أن نموّ وتطور الصين، وتحوُّلها إلى قطب دولي منافس -بل حتى متفوق على الولايات المتحدة في بعض المجالات- هو أمر مختلف عن ما يقال عن إمكانية تحولها إلى دولة إمبراطورية وحيدة ومهيمنة.

ويمكن فهم الأمر من مراجعة سيرة الولايات المتحدة، ومن إدراك طبيعة الوضع الدولي الحالي وتوازناته في المستقبل القريب.

في مسيرة صعود الولايات المتحدة؛ يجب الإشارة إلى أن الحربين العالميتين الأولى والثانية -وكلاهما لم تشارك فيهما إلا متأخرًا- هي ما هيأت للولايات المتحدة هذا الظهور الإمبراطوري. لولا تراجع قدرة روسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا واليابان، أو لولا قضاء تلك الدول على قدرات بعضها البعض، ما كان للولايات المتحدة أن تصبح قوة عالمية منفردة.

وقد كان لحلولها محل بريطانيا في مستعمراتها دور كبير في اختصار الزمن. كما كان لاعتماد اللغة الإنجليزية في بريطانيا ثم الولايات المتحدة، دوره في تسهيل الغزو الأمريكي لدول العالم؛ إذ اللغة هي ناقل للحضارة أو للقوة الناعمة. وضمن معطيات التحول الأمريكي للإمبراطورية المتفردة، فقد كان لسقوط الاتحاد السوفييتي -فيما كانت هي زعيمة التحالف الغربي- دَوْره الكبير في فتح المجال أمامها لتصبح قوة مسيطرة على الغرب.. إلخ. وقبل كل ذلك، فالولايات المتحدة انتمت -مثل بريطانيا وفرنسا- لقائمة الدول التي سيطرت ونهبت ثروات الدول الأخرى عبر الاحتلال العسكري المباشر.

وفى النظر للصين نجد أن تجربتها مختلفة في النمو والتطور واكتساب القوة، كما أن صعودها السريع يجعل منها قوة دولية ينقصها عوامل عديدة وفي اتجاهات متنوعة:

1- نموذج التجربة

لم يتوفر للصين ما كان متوفرًا للولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما. فالصين تطورت وحققت هذا الانتقال، خلال سنوات قليلة، وعبر ما يسمى بسياسة حرق المراحل، بما يجعلها بحاجة إلى زمن لترسيخ التنمية والتطور ومعالجة بعض أوجه التشوه الاقتصادي والمجتمعي.. كما أنها لم تنهب ثروات الشعوب الأخرى عبر الغزو والاحتلال، بينما الآخرون فعلوا ذلك، بما وفَّر لهم عائدًا اقتصاديًّا وماليًّا يدعم تطوير حياة مجتمعاتها وسطوتها الدولية أيضًا.

2- الصين في بداية تطوير قوتها الناعمة

تقدم الصين نفسها كنموذج جاذب على صعيد التنمية؛ بفضل تجربتها التنموية، وبتقديمها قروضًا للدول الفقيرة دون شروط تتعلق بالسياسات الداخلية للدول. كما تقدم نفسها من خلال الإنتاج الصناعي الضخم، بما يُخفِّض أسعار المنتجات المُصدَّرة، ومؤخرًا باتت تقدم نفسها كدولة متطورة تكنولوجيا على الصعيدين المدني والعسكري. غير أن قوّتها الناعمة ما تزال في بدايات تكامل مقوماتها -وهي تدخل المواجهة تحت ضغط الولايات المتحدة- إذ تعاني من عدم انتشار اللغة الصينية الحاملة لمضامين حضارتها. وهي تقدم نموذجها للتنمية بأكثر مما تقدم نفسها كنموذج قيمي وفكري؛ إذ عرّفها العالم بقدراتها التنموية والتصنيعية، أما نموذجها الفكري والسياسي فهو يبدأ من تحت الصفر، بفعل سقوط راية الشيوعية وثبات فشلها مع انهيار الاتحاد السوفييتي.

وحتى الآن لا تتمتع الصين بجهاز إعلامي -صحفي وفضائي وسينمائي- قادر على تقديمها كنموذج جاذب، بل إن قدراتها الإعلامية لا تحقق لها القدرة على الدفاع عن مصالحها بشكل يكافئ قدرة الدعايات المضادة لها. ويعود الأمر في الأغلب إلى نمط الحكم السياسي في الصين.

3- القوة العسكرية والسيطرة الخارجية

يتطلب قيام الدولة الاستعمارية بأنشطتها -والدول الإمبراطورية بصفة عامة- بناء قوة عسكرية قادرة على فرض السيطرة بعيدًا عن حدودها الجغرافية؛ إذ شرط تحولها إلى الحالة الإمبراطورية، هو سيطرتها على محاور الحركة التجارية البرية والبحرية في العالم. وهذا ما فعلته كل الإمبراطوريات وآخرها الولايات المتحدة، وبريطانيا قبلها. غير أن الصين لم تبلغ تلك المرحلة بعدُ. وإذا نظرنا للصين في الوقت الراهن نجدها في وضع القادر على تأمين محيطها بالكاد، وهي ما تزال تواجه تحديات في الحفاظ على وحدة أراضيها -تايوان- ولا يُعرَف لها قواعد في الخارج إلا في جيبوتي. وهي لا تزال بحاجة لوقتٍ طويلٍ حتى تُحوِّل نفوذها الاقتصادي إلى سياسي وعسكري.

4- تَبِعَات الموقع الجغرافي

يلعب الموقع الجغرافي دورًا مُهمًّا في تأمين قلب الدولة الإمبراطورية. لقد استفادت بريطانيا والولايات المتحدة -أكثر- من طبيعة موقعها الجغرافي الحامي لها. لقد تمتعت بريطانيا والولايات المتحدة بحماية من موقعها الجغرافي في قلب المياه. كما قللت تلك الوضعية الجغرافية من الاحتكاكات والصراعات مع دول الجوار، بما يُعطِّل حركتها الخارجية.

لكنَّ وضع الصين مختلف بحكم طبيعة موقعها الجغرافي لتوافر القوى الإقليمية المنافسة والمتصارعة معها في الجوار. فهي في جوار الهند، وفي مشكلات حدودية معها، وهي الدولة الصاعدة والمنافسة للصين حتى في عدد السكان، وهي في جوار مع اليابان التي سبقت واحتلت الصين ذاتها، ولا تزال بينهما ثارات تاريخية ومشكلات حول الجزر القريبة من كلاهما. وهي في تماسّ حدودي مع روسيا، وعلى مرمى حجر من كوريا الجنوبية المحتلة أمريكيًّا. وكل ذلك يجبر الصين على تخصيص جانب من قوتها وقدرتها لتأمين محيطها، كما يتطلب صراعًا مع النفوذ والتأثير الأمريكي في محيط الصين.

 

متى تتفوق الصين على الولايات المتحدة؟

لا تُخْفِي الولايات المتحدة قَدْر انزعاجها من قدرة الصين على التحوُّل إلى دولة قادرة على الإطاحة بها من قمة العالم اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وعسكريًّا، مرورًا بمرحلة تتساوى فيها قدرات البلدين.

وإذ عبرت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصَّادرة في عهد بايدن عن ذلك بوضوح، فقد جاءت تصريحات قائد القوات النووية الاستراتيجية الأمريكية -تشارلز ريتشارد- في ندوة رابطة الغواصات البحرية النووية الأمريكية، أشد وضوحًا، إذ تحدث عن سرعة تطور الصين عسكريًّا ونوويًّا، ووصل حد القول بأن سفينة الولايات المتحدة تغرق.

لكن كل ذلك لا يعني أن الصين ستصبح إمبراطورية تهيمن على إدارة العالم. فالتوصيف الدقيق هو أن الولايات المتحدة تخشى قدرة الصين على تغيير التوازنات في العالم، وتغيير الحالة الدولية من سيطرة الولايات المتحدة -والغرب- إلى عالم متعدّد الأقطاب.

وتعدُّد الأقطاب هو إعلان مباشر وباتّ بعدم قدرة أيّ دولة في العالم على السيطرة المنفردة.

لم يَعُد العالم مجالاً مفتوحًا كما كان الحال عليه من قبل، حين جرت التجربة الغربية الاستعمارية. فالعالم يشهد نهضةً شاملة؛ من أهم ملامحها أنَّ الدول الفقيرة وذات التاريخ في البقاء كمستعمرات لفترات طويلة، تُسجِّل نموًّا وتطوُّرًا وقوةً إلى درجة الندية مع الدول المهينة.

 


أعلى