• - الموافق2024/11/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المسلمون في الأندلس وتحديات المرحلة الانتقالية تلو الفتح

يُضاف إلى هذا أن الأندلس بلد قائم بذاته له ظروفه، التي لا تشبه ظروف أي بلد فتحه المسلمون، آنذاك، فالأندلس كانت ثغرًا لبلاد المسلمين، واعتبرتها الخلافة دار جهاد، وموطن رباط؛


ذكر بعض المؤرخين أن الخليفة عمر بن عبد العزيز، في بداية خلافته، لم يكن متحمسًا لبقاء المسلمين بالأندلس، لدرجة أنه فكَّر في إجلائهم عنها وإعادتهم إلى قواعدهم السابقة.

ومن المؤكد أن هذا التفكير لم يَصْدر من فراغ، ولم يكن نتيجة لمخاوف مطلقة، لا تستند على أساس. بل لا بد أن يكون له ما يبرّره من الأسباب المعقولة، والتحديات الجدية لدى خليفة عُرِفَ بالحرص على دماء المسلمين وسلامتهم وأمنهم. ولذا فمن المهم الإلمام بملامح هذه المرحلة وأبرز تلك التحديات.

 

أولاً: مرحلة التحول والانتقال

كان فتح الأندلس، كما هو معروف، بعد فتح المغرب، وتم على يدي طارق بن زياد وموسى بن نصير، بين سنتي 92 و95هـ، وكان آخر الفتوحات المهمة في العصر الأموي، وكان فتحًا مبينًا لا مثيل له. قال ابن حيان: «وغلبت العرب على الأندلس، فصارت أقصى فتوحهم من أرض المغرب، ومصداق موعد نبيهم # الكفيل بفتح ما بين المشرق والمغرب عليهم بوحي الله تعالى إليه، أنجزَه لهم بفتح الأندلس»؛ إشارةً إلى حديث رسول الله #، الذي رواه عنه مولاه ثوبان، وهو: «إنَّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها...»[رواه مسلم].

وعلى ذلك، فإنه في مطلع خلافة عمر بن عبد العزيز، في صفر 99هـ، لم يكن قد مضى على هذا الفتح سوى ثلاث سنوات، بل لم تكن الأندلس قد افتُتحت كلها، بل بقيت منطقة واسعة في الشمال الغربي، خارج سيطرة المسلمين. وقد كان لاستدعاء موسى وطارق أثر في عدم إتمام الفتح وتثبيته في تلك المنطقة.

ولو أننا قمنا باستعراض واقع الأندلس في بداية عهد هذا الخليفة؛ لوجدنا أن وضع المسلمين فيها لم يكن قد استقر على النحو المرغوب فيه، ولم يكن المسلمون قد ثبَّتوا أقدامهم فيها، كما يجب؛ نظرًا لحداثة الفتح الإسلامي لها، فكانت هذه الولاية، حينئذ، لا تزال تعيش مرحلة انتقالية، وتواجه تحديات ما بعد مرحلة الفتح.

والفتوحات أساسًا هي عملية ضم مناطق جديدة إلى الدولة الإسلامية، وتكوين مجتمع جديد. وكان ضمّ المناطق الجديدة هو الأساس الذي ارتكزت عليه عملية دمج هذه المناطق في مجتمع واحد رغم تعدّد أصول الجماعات التي حواها المجتمع.

فالفتح الإسلامي لإسبانيا، لم يكن مجرد احتلال عسكري، صعدت فيه الجيوش الإسلامية، إلى أقصى الشمال، ثم هبطت إلى الجنوب، بل كان حدثًا حضاريًّا مهمًّا امتزجت فيه حضارات سابقة بحضارة حديثة لاحقة، هي الحضارة الإسلامية. ونتج عن هذا المزيج حضارة أندلسية مزدهرة، وصلت إلى الفكر الأوروبي المجاور، وأثرت فيه. فالفتح الإسلامي لإسبانيا كان ختامًا لدور سابق، وبداية لدور إسلامي لاحق، تغلغل في الحياة الإسبانية، وترك فيها آثارًا عميقة، ما زالت تتراءى مظاهرها بوضوح، حتى اليوم. وكان هذا الدور الجديد، لا يزال في سنواته الأولى، والتي يمكن تسميتها بمرحلة التحول والانتقال، من عهد سيطرة القوط، إلى عهد سيادة الفتح الإسلامي، بسرعته واتساعه، والذي ما يزال يدهش المؤرخين؛ إذ لم يسبق له مثيل في التاريخ.

ومرحلة الانتقال تعني التخفيف التدريجي من نطاق جاذبية نظام، والدخول التدريجي في نطاق الجاذبية الآخر، أو الحاكمية الجديدة، أو الأطر المرجعية، التي تستهدي بها الجماعة، وتضبط حركتها، ونشاطها، وقِيَمها، وأنماط العلاقات بين أفرادها ومجموعاتهم.. فعندما يُقضى على نظام ويحل محله نظام آخر، لا يمكن أن يحدث هذا فجأة ومرة واحدة، من ناحية التكوين المؤسسي له، والضوابط الحاكمة للجماعات والأفراد، والتي تكون صدرت من الأطر المرجعية للنظام. بصفة عامة يمكن أن يسقط نظام سياسي في بضع ساعات، ولكن لا يمكن أن يتغير التكوين المؤسسي، وهياكل التشريع، والأحكام الضابطة لأوضاع الجماعات والأفراد وعلاقاتهم، بمثل تلك المباغتات؛ ذلك أن هذه التكوينات والضوابط والأحكام تمتد فيما لا يُحْصَى من التفريعات، إلى كل تفاصيل الحياة الاجتماعية.

ثانيًا: خصوصية وضع المسلمين في الأندلس

كما أننا لو قمنا باستعراض واقع الأندلس في هذه المرحلة سنجد أن ارتباط هذه الولاية إداريًّا وسياسيًّا، بالسلطة المركزية بدمشق، كان واهيًا؛ نظرًا لبُعدها الشاسع منها، وانعزالها الجغرافي عن بقية ولاياتها بما فيها ولاية إفريقية التي كانت الأندلس جزءًا منها، لدرجة أن العرب في التاريخ الوسيط، كانوا ينظرون لها على أنها البلاد التي «في أطراف الأرض وآخر عمارة العرب»، وكان بعضهم يطلق عليها بلاد «ما وراء البحر».

وذكر المؤرخ الإنجليزي نفيل ياربر أن الأندلس، كانت بالنسبة للعالم العربي بلاد ما وراء البحار. قال حسين مؤنس: «وهذا صحيح، وبلاد ما وراء البحار، لا بد أن تستطيع الاعتماد على نفسها؛ لأن البلاد الأصلية، لا تستطيع أن تُوليها بالعناية والرعاية؛ إذ هي لها مشاكلها. وكل هذا قد زاد هذه الولاية غموضًا، وجعلها تبدو شبه مستقلة منذ فتحها، متفردة في نسيجها الاجتماعي، مختلفة في نمط حياتها، ولم يكن يشبهها في هذا الوضع أي ولاية إسلامية أخرى.

يُضاف إلى هذا أن الأندلس بلد قائم بذاته له ظروفه، التي لا تشبه ظروف أي بلد فتحه المسلمون، آنذاك، فالأندلس كانت ثغرًا لبلاد المسلمين، واعتبرتها الخلافة دار جهاد، وموطن رباط؛ لأنّ البحر يفصلها عن البلاد الإسلامية، ويحيط بها من جميع جهاتها، إلا ما كان الروم فيه من جهة الشمال، فأهلها بين البحر والروم. ولهذا كان لا بدّ للمسلمين فيها من مواصلة الفتوح، فيما يليها من البلاد، ليس فقط لنشر الإسلام وهو العامل الأول للفتوحات، وإنما أيضًا لقطع دابر الشر، الذي يمكن أن يأتيهم من الأرض الكبيرة؛ حيث مملكة الفرنجة القوية، حليفة البابوية المعادية للمسلمين، والمحرِّضة ضد وجودهم، وذلك عملاً بقاعدة «الهجوم خير وسيلة للدفاع».

 وبالإضافة إلى بُعد هذه الولاية عن دمشق دار الخلافة الأموية، فقد كان هناك تَحَدٍّ آخر يواجهها، ويعرقل ضبط الأمور فيها؛ ألا وهو توزع السلطة، وتوزع مراكزها، في عدة أماكن؛ ذلك أن حكومة الأندلس، كان مرجعها القيروان، في إفريقية، وحكومة إفريقية مرجعها دمشق. فلم يكن من الممكن أن تكون سلطة موزعة إلى هذا الحد، وأن تتعدد مراكزها كل هذا التعدد، وأن يستتب بها النظام، وأن تقيم على الطاعة رجالات نشأوا في ظلال السيوف. ولتلك العوامل وغيرها، فلم تكن سيطرة دمشق على عرب الأندلس سيطرة كاملة. وقبل أن تنتقض الدولة الأموية بسنوات، كانت الأندلس تضطرب، في انتظار مصير جديد. وجاء سقوط الأمويين في المشرق ليعطيها الفرصة للانفصال عن الخلافة، وقيام إمارة خاصة بها، كان مُؤسّسها أُمويًّا هاربًا من مذبحة الشرق، وهو المعروف بعبد الرحمن الداخل. فكانت الأندلس أُولى الإمارات انفصالاً عن الخلافة. ومن حُسْن الحظ أن الأمور عندما بلغت غايتها في الاضطرابات بالأندلس صار الأمر إلى هذا الأمير الأُموي الهمام، المعدود من عباقرة الحرب والسياسة في تاريخ الإسلام، فأنقذ البلاد من الفوضى، والعرب من نتائج الاستمرار في الحرب الأهلية، واحتفظ بثمرات جهود مَن سبقه مِن الحكام القادرين فلم تضع هذه الجهود هباءً. فأحيا بها دولة بني أمية التي استمرت زهاء ثلاثمائة سنة، فلم يُوجَد في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصرًا، على أهل الشرك، ولا أجمع لخِلال الخير، وبهدمها انهدمت الأندلس.  

 

ثالثًا: تداعيات مقتل أول ولاة الأندلس

لقد جاء تولي عمر بن العزيز الخلافة بدمشق، بعد عاصفة قوية عصفت بالأندلس، في عهد سلفه سليمان وهي حادثة اغتيال عبد العزيز بن موسى بن نصير، أول حكّام الولاية الجديدة، وذلك في رجب 97هـ. وقدم برأسه على سليمان، حبيب بن أبي عبيدة الفهري. وقال ابن القوطية: «وكان قتله في آخر سنة 98». وقال الذهبي: «.. ثم ثاروا عليه فقتلوه سنة 99، لكونه خلع طاعة سليمان، قتله وهو في صلاة الفجر حبيب بن أبي عبيدة». لكنه عاد وذكر حادثة قتله في سنة 98هـ. وهذا يعني أنه عند تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، لم يكن قد مرَّ على هذه الحادثة الدموية، سوى عام ونصف، بل أقل من العام، إذا اعتمدنا رواية ابن القوطية، ولم يكن الجدل الكبير، الذي أثير حولها قد حُسِمَ بعدُ. بل إن التحقيق حولها، كان لا يزال جاريًا. وهذا يتضح من قول صاحب (أخبار مجموعة): ثم مات سليمان، فسرح والي إفريقية على الأندلس الحر الثقفي، وأمره بالنظر في شأن قتل عبد العزيز. وكان قدوم الحر الأندلس سنة 99ه. كما قال ابن عذاري. وهذا يعني أن الإيعاز بالتحقيق في هذه الجريمة، كان في خلافة عمر بن عبد العزيز نفسه، إن صحت هذه الرواية؛ لأن ابن عذاري كان قد قال: «فبقي الحر واليًا عليها ثلاث سنين»، وهذا يتناقض مع قوله أنه قدمها سنة 99هـ، لأننا نعلم أن الحر قد عُزل سنة 100هـ، بالسمح بن مالك الخولاني.

وبغض النظر عن الدافع لهذه العملية، ومتى نُفِّذت، فإن حادثة اغتيال هذا الوالي، قد أثارت إشاعات كثيرة، لدى الناس في الأندلس ودمشق، وتبعتها فترة من الفوضى، عمت الأندلس كلها، وأدت إلى تراخي قبضة المسلمين الجديدة على الأطراف الشمالية منها؛ حيث كانت بعض المناطق، لم تُفتح بعدُ، أو لم تُسكن بعدُ. ولهذا لم يكن غريبًا أن نسمع خلال هذه الفترة، عن تمرُّد أحد زعماء القوط القدامى، الذين سبق لهم أن صالحوا المسلمين واستقروا بين ظهرانيهم آمنين، والذي انتهز هذه الفرصة وحاول الانفصال بإقليم طركونة الواقع في الشمال الشرقي للأندلس، بعيدًا جدًّا عن مناطق استقرار المسلمين في الجنوب. وقد استمرت هذه الحركة إلى أن جاء السمح بن مالك الخولاني واليًا على الأندلس في رمضان سنة 100هـ، فوضع حدًّا لها، وكذلك لم يكن غريبًا أن نسمع أن هناك مدنًا وحصونًا في الشمال قد تخلفت عن الطاعة في هذه المرحلة بعد أن كان المسلمون قد فتحوها بقيادة موسى بن نصير.

ولعل هذا الاضطراب قد ولَّد خشية لدى البعض على مصير المسلمين في هذه الولاية النائية. فذكر المؤرخون: أنه في سنة 97هـ ثار حبيب بن أبي عبيدة الفهري، وزياد بن النابغة التميمي، وأصحاب لهم، بعبد العزيز بن موسى، متولي الأندلس، فقتلوه، وأمَّروا على الأندلس أيوب ابن أخت موسى. ثم الأمور ما زالت مختلفة بالأندلس، زمانا لا يجمعهم والٍ، إلى أن ولي السمح، في حدود المائة، واجتمع عليه الناس. هكذا كانت الملامح العامة للأندلس بعد مقتل أول ولاتها؛ حيث الاضطراب السياسي هو العنوان الرئيسي؛ نتيجة لتركيبة المجتمع ذات الخطوط الملتوية وغير المتجانسة.

رابعًا: المجتمع الأندلسي بعد الفتح

وإلى جانب ذلك، كان هناك أيضًا تَحدٍّ آخر يتمثل في المجتمع الأندلسي الجديد، فقد كان هذا المجتمع يزدحم بالناس من مختلف الأديان والقبائل والالسن.

فالمسلمون، فيها كانوا ينقسمون إلى: بربر وعرب، وكل قسم منهما ينقسم بدَوْره إلى قبائل تعيش كلّ منها في منطقة معينة، وتخضع لرئيسها. وكان البربر، بقيادة طارق بن زياد، أول من دخل الأندلس، واحتملوا صدمة الفتح الأولى، وأبلوا أحسن البلاء في الجهاد في سبيل الله، واتصلت هجرتهم إليه، لقرب بلادهم منه، وتشابه مناخ أوطانهم به. لذلك أصبح هؤلاء عنصرًا عظيم الشأن في الحياة الجديدة، ولم تكن أمة البربر، ضعيفة خائرة، كالإسبان الذين اصطبغوا بصبغة الرومان، ولكنهم كانوا ممتلئين حياةً وعزمًا وإقدامًا. وكان أكثر جند موسى بن نصير البربر، وهم قوم موصفون بالشهامة والشجاعة، وفيهم صدق ووفاء، ولهم همم عالية في الخير والشر».

 ومما يدل على قوة البربر بالأندلس، وتمتعهم بالأكثرية العددية على العرب، آنذاك، ما ذكره ابن القوطية، في أن تولية أيوب بن حبيب على الأندلس، بعد مقتل عبدالعزيز بن موسى قد جاءت من طريق البربر وحدهم. ولو لم يكن البربر غالبين على الأمر بالأندلس حينذاك، لما استطاعوا تولية والٍ يرضاه جميع المسلمين، وهذا يؤيد غلبة البربر على العرب أول الأمر، لا من حيث العدد فقط، بل من حيث القوة أيضًا.

وأما العرب فكان أغلبهم من القبائل الحجازية والشامية، ولم يكن كلّ منها كيانًا واحدًا أو تحت سلطة زعيم واحد، وكانت تنقسم إلى عصبيتين: اليمنية والمضرية، أو العدنانية والقحطانية، وهؤلاء دخلوا الأندلس عام 93هـ، مع موسى بن نصير. وكان عرب الحجاز، هم الأكثرية، ويذكر بعض المؤرخين، أن هؤلاء كانوا ناقمين على بني أُمية، وأنصارهم، عرب الشام، الذين دخلوا الأندلس سنة 123ه نتيجة لهزائمهم السابقة على أيديهم، في موقعتي الحرة سنة 63هـ، ومرج راهط سنة 65هـ. ولا نستطيع أن ننكر دور القبيلة في الحياة العربية، فمن قديم عرفت الجزيرة العربية: عرب الشمال، وعرب الجنوب: العدنانيين والقحطانيين. وعندما هاجروا من موطن إلى موطن، حملوا معهم روابطهم. وقد تتعايش الروابط، وقد تتصارع، وقد تصبح وحدات منظمة، تتحرك مع القيادة، إلى أهداف الإسلام. وقد تصبح قوًى ضاغطة، يستعين بها المتنافسون على السلطة، وتتحول الروابط إلى «عصبيات»، ضيقة، يتحول بها بأس المسلمين إلى التنازع. وقد حمل عرب الجزيرة هذه العصبيات حتى عبرت معهم البحر المتوسط، إلى الأندلس.. واندفعت شرقًا إلى وسط آسيا. وكان لها الأثر في سقوط دول إسلامية، وقيام أخرى.

وإلى جانب العرب والبربر، كان هناك أهالي البلاد الأصليين، من رومان وأيبيريين وقوط وغيرهم، وكانوا يشكلون الأكثرية بالبلاد، بعد الفتح، يُضاف إليهم شعوب الولايات الشمالية كالجلالقة، والبشكنس والقطلان. وكان كل شعب من هذه الشعوب، شديد الاعتزاز بجنسه ولغته، ومتعصبًا لهما أشدّ التعصب. فالأندلس، باختصار، كانت، حينذاك، مستودعًا للعصبية، بأنواعها الثلاثة الخطرة: الدينية، والقومية، والقبلية. وبالتالي، فإن عدم سياسته هذا المجتمع غير المتجانس، طبقًا لمنهج الإسلام، قد يؤدي إلى تفجّر العصبيات، بين تلك الأجناس. الأمر الذي قد يَعْصف بوحدة المجتمع، وبالتالي تهديد حضور القيم الإسلامية العظمى، التي سعى روّاد الفتح الأوائل إلى إقرارها وإشاعتها بين أبنائه.  

خامسًا: التحدي الإداري والتنظيمي

علاوةً على ما تقدم فقد كانت هذه الولاية، رغم أهميتها، وعظمتها، ووفرة غناها، ومساحتها الكبيرة جدًّا، مازالت ومنذ انتهاء عملية الفتح الإسلامي لها، وحتى ولاية السمح بن مالك الخولاني عليها سنة 10هـ لم تنلْ ما تستحقه من العناية والاهتمام من قبل الخلافة، أسوةً بغيرها من الأمصار المفتوحة، كما ذكر الدكتور حسين مؤنس في كتابه (فجر الأندلس). فالخلافة التي عُرفت بمبادراتها بتنظيم أمور المال والإدارة والقضاء في الأمصار المفتوحة، لم تتخذ إجراءات من هذا القبيل، فيما يختص بولاية الأندلس، على اعتبار أن هذا يعتبر جزءًا من عملها، والاجتهاد فيه يتم بمبادرة منها.

والخلافة أيضًا لم تبذل جهدًا كبيرًا على أرض الواقع لبسط سلطانها المؤكد عليها، ولحماية انتصارات المسلمين فيها من الضياع، وتثبيت دعائم دولة الإسلام في أرجائها، ولعل مردّ ذلك إلى اتساع رقعة الدولة الإسلامية إذ ذاك. فالخلافة، مثلاً، لم ترسل إلى الأندلس عاملاً على المال يحصي نواحيه وأهله، ويخمّس النواحي، ويقرر مقادير الخراج والجزية والجباية، ويقرر ما ينبغي أن يُنفق في البلاد وما ينبغي أن يُحمَل إلى دار الخلافة، بل تركت كل ناحية بأيدي من فتحوها واستقروا فيها من المسلمين الفاتحين، ولم تطالب بنصيبها من أمواله وجباياته، التي تحق لها وفقًا للنظم المالية والإدارية الإسلامية المعمول بها. وذلك رغم أن الأندلس كانت بلدًا زراعيًّا غنيًّا عظيم الجباية، ولم يكن ذلك بخافٍ على الخلافة.

والخلافة، كذلك، لم ترسل إلى الأندلس من أول الأمر واليًا خاصًّا بها، بل تركتها نحو تسع سنين، تحت تصرف والي إفريقية يتصرف في شؤونها، كما يريد باعتبارها جزءًا مكملاً لولاية إفريقية، وليست ولاية مستقلة تابعة للخلافة مباشرة.

ولعل لبعد الأندلس عن مركز الخلافة صلة بذلك، فكان مهما جعلها تحت إشراف والي إفريقية. وكانت مسؤولية التنظيم وإقرار الأوضاع، وتنسيق الأمور، تقع على عاتق ولاة إفريقية، ولكن المشكلة أن هؤلاء لم يكن لديهم من الوقت ما يسمح لهم بالتفرغ لحلّ مشاكل منطقتين كبيرتين كمنطقتي إفريقية والأندلس. ولهذا ترك موسى بن نصير، ابنه عبد العزيز، عليها حينما عاد إلى المشرق أواخر العام 95هـ، وأصبح أول ولاتها، فلما قتل عبد العزيز، خلفه ابن عمته، أيوب بن حبيب، ويفهم من النصوص أن البربر، كانوا أصحاب اليد الطولى في قيامه بالولاية، فلما ولي على إفريقية محمد بن يزيد، عجّل هذا فبعث الحر بن عبد الرحمن الثقفي واليًا على الأندلس، فاستصحب الحر معه أربعمائة من وجوه إفريقية ليؤيدوه، باعتباره ممثلاً للسلطة المركزية بدمشق.

وكان أول والٍ أقامته الخلافة هو السمح بن مالك الخولاني؛ أقامه عمر بن عبد العزيز في رمضان سنة 100هـ. وإن لم تستمر كذلك بعد انتهاء ولايته. وإن طريقة تولي ولاة الأندلس، على هذا النحو، غير المحتكم لقاعدة معينة، ليعطي صورة واضحة عن اضطراب نظام الولاية الذي ساد في الأندلس بعد الفتح.

وبعدُ فهذه باختصار ظروف ولاية الأندلس عشية ولاية السمح بن مالك الخولاني عليها. ومن ذلك كله يتضح مدى خطورة المسؤولية، ودقة المهمة، التي أوكلت إلى السمح بن مالك في الأندلس مِن قِبَل الحليفة عمر بن عبد العزيز، والتي لم يكن له بمثلها عهد من قبل.

سادسًا: إيجابيات المرحلة

رغم كل تلك التحديات؛ فإن حال المسلمين بالأندلس كان في إقبال إلى ذلك الحين، ولم يكن نصارى الشمال قد نهضوا لهم، ولم يكن الفكر الخارجي قد انتشر بين البربر، كما لم تكن مشاعر العداء ضدهم قد تحركت لدى النصارى القاطنين بين ظهرانيهم، وكذلك لم تكن فتن العصبية قد عصفت بهم وفرَّقتهم.

وقد غلا «دوزي» في التشديد على العصبية بين القبائل أثناء عرضه لتاريخ إسبانيا، وأقره على ذلك تلميذه «ليفي بروفنسال». إن العصبية كانت موجودة، وهي عامل يجب أن يُؤخَذ في الاعتبار في الحياة السياسية، ولكن الصعوبة تكمن في معرفة تأويلها.

ومن تلك المبالغات: تجسيم الخلاف بين القيسية واليمنية، وإعادة جذوره إلى عصر الجاهلية، والزعم بالتالي بأن الصراع الذي حدث بين العرب بالأندلس في عهد الولاة كان امتدادًا لهذا الخلاف، ففي كتاب دوزي «تاريخ مسلمي إسبانية» كلام معناه أن بُغْض قيس لليمن، وبُغْض اليمن لقيس، أشدّ من بغض العرب للأمم الأعجمية.

ومن هنا جاءت الصورة التي رسمها لعصر الولاة بالأندلس مشوهة، ولا تمثل الحقيقة التاريخية في شيء. وقد أنكر ذلك المؤرخ الأثري أحمد فكري، فذكر أن مظاهر الصراع بين القيسية واليمنية كانت قد هدأت، وأن رواسبه قد ركدت عندما قام موسى بن نصير بحملته الكبرى بالأندلس؛ لأن الجيش الذي دخل به الجزيرة، كان مكونًا من القيسيين واليمنيين. ثم أنه وفَد على الأندلس بعد ذلك كثير من الأعراب ينتمون إلى هذين الفريقين، وكان الوفاق، قائمًا بينهما دون شائبة. بل ولم تكن المشكلة القبلية، أساسًا، مطروحة آنذاك؛ لأن الجميع كانوا يقاتلون تحت راية واحدة، وهي غالبًا لا تُطرح أثناء الحرب. والحقيقة أنه كانت هناك فتن في هذه المرحلة، ولكن لم تكن الصورة على ذلك النحو القاتم، وقد شهدت هذه المرحلة إنجازات كبيرة ومتعددة بمختلف المجالات. فقد افتتحت الأندلس خلالها من أقصاها إلى أقصاها، وأُعِيدَت للبلاد وحدتها التنظيمية في خطوطها العريضة، بعد أن كانت قد تلاشت مع انهيار السلطة القوطية، وأُنشئت شبكة إدارية على أسس عسكرية مناسبة، تشمل الجزيرة كلها تقريبًا، وغدت السيطرة الفعلية التي تمارسها السلطة الإسلامية المركزية أقوى من سيطرة أواخر ملوك القوط. بجانب ذلك تمت الإصلاحات الضرورية والتنظيمات ومراقبة التَّحوُّل الاجتماعي، وما أُنجز في جوانب الحياة المختلفة، بدخول الناس في الإسلام.

وقد وضعت خلال هذه المرحلة أُسُس النظم الإدارية والمالية التي ستجري الأمور بمقتضاها حتى قيام الخلافة سنة 316هـ. كما اتسم هذا العصر بتحسن الحالة الاجتماعية والاقتصادية، والبدء في عملية غرس الحضارة الإسلامية في هذا القُطْر الواسع، واستمرار عمليات الجهاد لنشر الإسلام بالأندلس، وما وراءها من بلاد في العمق الأوروبي. ذلك أن العرب، رغم مشاغلهم الكثيرة بالأندلس، استطاعوا أن يواصلوا الفتوح في فرنسا نحو 20 سنة بعد تمام فتح الأندلس، وكسبوا خلال هذه الفترة انتصارات كبيرة تضيف صفحات كثيرة إلى سجل الفتوح الإسلامية. وظهرت خلال تلك الحقبة شخصيات استطاعت بحكمتها وإخلاصها للإسلام أن توسّع العمران وتهيئ أرضية سياسية خصبة لمن يأتي بعدها. ومن تلك الشخصيات السمح بن مالك الخولاني الذي يُعتبر أول من تصدَّى لإرساء قواعد الإدارة السليمة بالأندلس، وكانت منجزاته الإصلاحية حجر الزاوية فيما عرفته هذه الولاية، من نظم إدارية وعمرانية واقتصادية.

 


أعلى