حقيقة زيف الخلاف الأمريكي الصهيوني حول القدس
انشغلت الأوساط: الفلسطينية والعربية والدولية خلال الأسابيع القليلة الماضية، بما قيل: إنه خلاف أمريكي صهيوني وصل حد «الأزمة» في علاقات الجانبين، بسبب إعلان حكومة «بنيامين نتنياهو» عن خططٍ استيطانيةٍ جديدة في قلب القدس المحتلة. ولما كانت العلاقات السياسية والإستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب ليست كباقي العلاقات بين أي دولتين في العالم، فقد ركَّز الإعلام الصهيوني على حقيقة هذه العلاقات من جهة، و «ضآلة» تلك الأزمة التي تحدَّث عنها كثيرٌ من المحللين والمراقبين. الشريان الاقتصادي: تتعدد أوجه الدعم الأمريكي للصهاينة في مختلف مجالات الحياة، ولعل من أبرزها المجال الاقتصادي؛ حيث تحدَّث المحلل الاقتصادي البارز «سيفر بلوتسكر» قائلاً في صحيفة «هآرتس»: بدون الدعم الأمريكي لن يكون بوسع تل أبيب التفرغ لتنمية اقتصادها، وستضطر إلى شدِّ الحزام بألم شديد، في ضـوء أن الحكـومة السـابقة بزعامة «إيهود أولمرت» تلقَّت من الرئيس الأمريكي السابق «جورج بوش الابن» وعداً بزيادة المساعدات العسكرية تصل إلى الربع؛ بمعدل ثلاثة مليارات دولار في السنة على مدى عقد من الزمان، من 2008 - 2018، وبناءً على ذلك ارتفعت المساعدات السنوية إلى 2.8 مليار دولار، وستستمر في الارتفاع في السنوات القادمة؛ ومن ثَمَّ فإن أي أزمة حقيقية - وليست مفتعلة - بين واشنطن وتل أبيب، ستتطلب من الأخيرة القيام بعدد من الإجراءات القاسية، ومنها: تقليص المخصصات، الامتناع عن الاستثمار في البنى التحتية، تقليص الدعم للبحث والتطوير، كبح جماح الأجور. ويخرج الباحث بخلاصة مفادها: أن الاقتصاد الإسرائيلي دون «المساعدات الأمريكية» سينمو بوتيرة أبطأ بكثير، ومستوى المعيشة فيها سيتوقف عن الارتفاع. وفي المقابل، ركزت الدوريات الاقتصادية الصهيونية الصادرة مؤخراً - ومنها مجلة «غلوبس» - على أن الولايات المتحدة هي المشتري الأكبر للصادرات الإسرائيلية؛ حيث صدَّرت السنة الماضية للسوق الأمريكية منتجات بقيمة 17 مليار دولار، واستوردت منها بضائع بقيمة 6 مليار دولار. وقد أشارت الكاتبة «أورلي أزولاي» إلى أهمية المساعدات العسكرية المقدَّمة من واشنطن إلى تل أبيب؛ حيث تبلغ سنوياً 2.75 مليار دولار، مخصصة لشراء وسائلَ قتالية متطورة من إنتاج أمريكي. كما أن الجيش الإسرائيلي مبنـيٌّ معظمـه - إن لم يكن كله - على الوسائل المتطورة من إنتاجٍ أمريكي؛ فالطائرات القتالية (إف 16 وإف 15)، والمروحيات القتالية من طراز (أباتشي وكوبرا)، وطائرة النقل من طراز كرانف، ومروحيات (بلاك هوك ويسعور)، وقطع الغيار، والقذائف الذكية، والأسلحة الأساسية، ووسائل الإنذار المبكر المتطورة، وأجهزة مضادات الطائرات، ومشروع حيتس الإسرائيلي؛ كل ذلك بتمويل من المساعدات الأمريكية. وذلك طبعاً إلى جانب حصول تل أبيب على منظومة الأقمار الصناعية الأمريكية وعلى الإنذارات المبكرة بإطلاق الصواريخ، والتعاون الاستخباري مع الأمريكيين، وتقاسمهما المعلومات الحرجة، مع وجود اتفاق أنه في وقت الحرب تبعث واشنطن قطاراً جوياً بقطع الغيار والمعدات العسكرية والذخيرة إلى تل أبيب. كما أن القدرات التكنولوجية العليا لتل أبيب في المجال العسكري: كالمنظومات الاستخبارية، والقتال الإلكتروني، والتشفير، والجساسات... وما شابه، ما كان لها أن تصل لها بالصدفة، بل بفضل العلاقة الحميمة مع الصناعات الأمريكية، والاطلاع على التكنولوجيات العليا لديها. نقد الاستيطان وبناؤه: أثار الكاتب «شمعون شيفر» أبرزُ المحللين الصهاينة تساؤلاً غريباً يتضمن انتقاداً للازدواجية الأمريكية في نقدها لبناء المستوطنات، وفي الوقت ذاته تمويلها لإقامة هذه المشاريع الاستيطانية، فقال: بالإضافة لحيوية الدعم السياسي الأمريكي لوجود إسرائيل، فإن المستوطنات التي يعتقد الأمريكيون أنه يجب إخلاؤها، قد بُنِيَت بالمساعدة التي هم أنفسهم منحوها لإسرائيل. ويستذكر الكاتب ما حصل معه في بداية الثمانينيات، حين سأله دبلوماسي أمريكي قرأ عن خطةٍ لإقامة كتلة من المستوطنات في منطقة نابلس: من أين بالضبط ستأتون بالمال؛ فحكومتكم تتحدث عن ضائقة اقتصادية؟ أجابه: سيأتي منكم، أنتم الأمريكيين! وثمة كاتب آخر هو «أليكس فيشمان» ذو الصلات الوثيقة مع المؤسسة الأمنية استبعد حقيقة أن هناك خلافاً حقيقياً مع الإدارة الأمريكية، مطالباً بأن تكون مجرد «سحابة صيف» سرعان ما تنقشع. وأشار إلى أن السند الإستراتيجي الأمريكي هو الذخر الأمني الأكبر والأهم لدى تل أبيب اليوم، وبفضل هذا الذخر يمكنها أن تبقى على مدى الزمن برفاهيةٍ في ظروف المواجهة المتواصلة. ويثير الكاتب تساؤلاً يحمل إجابته في مضمونه بقوله: لنقل: إن حكومة تل أبيب يمكنها أن تُطلِق ابتداءً من يوم غدٍ، طائرات سلاح الجو لقصف بعض العواصم المجاورة دون أن تُبْلغ الإدارة الأمريكية أو تنسِّق معها، ولنقل: إن سلاح الجو جاهز لتنفيذ مهمات بعيدة المدى من هذا النوع، وإن في وِسْعِه أن يقدِّم إنجازات دراماتيكية؛ إذن ماذا؟ ماذا سيحصل بعد دقيقة من عودة الطائرات للبلاد؟ ماذا سيحصل بعد أن تتبدد سُحُب الدخان من فوق الأهداف؟ هل تل أبيب قادرة على ترجمة هذا الإنجاز العسكري إلى إنجاز سياسي، دون الظهير الأمريكي؟ ويواصل أليكس فيشمان: هذا السند الإستراتيجي مبنيٌّ على سلسلة طويلة جداً من التفاهمات والاتفاقات الأمنية التي وقعت على مدى السنين، ولا يدور الحديث فقط عن اتفاقات مكتوبة فقط؛ حيث توجد تقاليد بعيدة السنين، وعلاقات شخصية بين الزعماء، ومصالح اقتصادية أمنية. ولذلك شهدت عشرات السنين الماضية نشوبَ خلافات صهيونية مع واشنطن، وهو شيء لا يُمنَع بين أفضل الأصدقاء والحلفاء، لكن الجديد ربما هو أنه لم يجرِ التعبير عن هذه الخلافات علناً على مدى عام، بل بُحثت بسرية بين ممثليهما. سر العداوة: لا بد أن نذكر هنا استطلاعاً للرأي أجراه معهد «غالوب» عن مكانة الكيان الصهيوني في الرأي العام الأمريكي، وكان التأييد آخذاً في الازدياد، وهو ما جعل الرئيس أوباما ومساعديه اليهوديين، أن يحلموا فقط بالضغط على تل أبيب؛ لأنهم أسرى رأيٍ عامٍّ مفرطٍ في المناصرة. وبعد مرور أسابيع قليلة - كما يذكـر «بن درور يميني» - بدأت الأروقـة الجـامعيـة الأمـريكيـة تعـج بظـاهرة معاداة الكيان الصهيوني، كما أن عدد النشرات المعادية للصهاينة بلغت حداً لم يسبق له مثيل من قَبْل، ولم تعد عداوتهم محصورةً في النخب المثقفة... وهكذا لا يوجد أي تناقض بين استطلاع الرأي عن موالاة الكيان ومعاداته في الدوائر الجامعية والإدارة الأمريكية. أخيراً: إن ما حصل من أزمةٍ وجدت طريقها إلى وسائل الإعلام بين إدارتَي: «أوباما ونتنياهو» تتجاوز الرجلين بكثير؛ لأن ما يجمع الكيانَين أكثر مما يفرقهما، والمصلحة الأساسية بينهما تتمثل في الإطاحة بأي مشروع إسلامي في المنطقة، وهو الأمر الذي يجعلهما يقفزان على أي خلاف.