كسوف العـقـل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: لو أن أهل الحساب والمشتغلين بالفلك والهيئة اقتصروا في تفسير كسوف الشمس أو خسوف القمر وَفْق ما يعرفونه من أسبابٍ ظاهرةٍ طبعيةٍ لهان الأمر؛ فقيمة المرء ما يحسنه، لكن أن يدَّعوا أن كسوف الشمس ليس سـببه ذنـوب العباد، ولا أثَر ولا صلة له بمعاصي بني آدم، فذاك ظن بلا علم، وتخرُّص بلا فهم، بل هو جهالة بالعلميات، وقساوة قلب بالعمليات والإرادات، كما هو مبيَّن في السطور التالية:
- مقولة الفلكيين السالفة قد تجد آذاناً صاغية في عصور غابرة، زمن الصراع بين الكنيسة والدين في أوروبا؛ فتأليه العلم التجريبي لا يتحقق إلا بمحاربة إله الكنيسة وخرافة الدين النصراني المحرَّف؛ فإن أردتَ العلم فانسلخ من تلك العبادة، وكذا العكس... وهكذا ظل الصراع قائماً بين الدين المحرَّف والعلم في بلاد الغرب. وأما دين الإسلام - وعند مذهب أهل السُّنة والجماعة على سبيل الخصوص - فتصريح المعقولات موافق لصحيح المنقولات؛ فلا عداء مفتعلاً بين العلم والدين؛ فما أثبته العلم التجريبي من حقائقَ يستحيل أن تعارض هذا الشرع التامَّ والدين الخاتم؛ فالشرع أنزله الله - تعالى - والعقل خلقه الله، عز وجل. والأدلة الشرعية والبراهين العقلية يصدق بعضها بعضاً[1].
- قررتِ الأدلة النقلية أن للكسوف أسباباً شرعية في وقوعه وارتفاعه؛ فذنوب العباد من أسباب وقوعه وانعقاده، كما أن الصلاة والصدقة والدعاء والتوبة... سبب في زواله وارتفاعه؛ فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانكسفت الشمس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجرُّ رداءه حتى دخل المسجد، فدخلنا، فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد فإذا رأيتموها فصلُّوا وادعوا حتى يُكشف ما بكم»[2]. قال الحافظ ابن حجر: «قوله (آيتان) أي علامتان، (من آيات الله)؛ أي: الدالة على وحدانية الله وعظيم قــدرته، أو على تخويف العباد من بأس الله وسطوته، ويؤيده قوله - تعالى -: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: ٩٥]» [3].
وبيَّن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بطلان مزاعم أهل الهيئة (الفلك)، فقال: «قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يخوِّف بهما عباده) فيه ردٌّ على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتقدم ولا يتأخر؛ إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف، ويصير بمنزلة الجَزْر والمدِّ في البحر، وقد ردَّ ذلك عليهم ابن العربي وغير واحد من أهل العلم بما في حديث أبي موسى الأشعري؛ حيث قال: «فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة».قالوا: إن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كــل ما ذُكِر من أنواع الطاعة يُرجَى أن يُدفَع به ما يُخشَى من أثر ذلك الكسوف»[4].
وقال العلامة العيني: «لا خلاف في مشروعية صلاة الكسوف والخسوف، وأصل مشروعيتها الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة: أما الكتاب فقوله - تعالى -: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: ٩٥]، والكسوف آية من آيات الله المخوِّفة، والله - تعالى - يخوِّف عباده ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعة الله التي فيها فوزهم»[5]. وأخرج الشيخان من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته؛ فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصَلُّوا وتصدَّقوا. ثم قال: يا أمَّة محمد! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أَمَته، يا أُمَّة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً». قال الحافظ ابن حجر: «قال الطيبي وغيره: لَـمَّا أُمِروا باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة، ناسب ردعَهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخصَّ منها الزنا؛ لأنه أعظمها في ذلك.
وفي الحديث ترجيح التخويف في الخطبة على التوسع في الترخيص؛ لِـمَا في ذكر الرخص من ملاءمة النفوس لما جُبلَت عليه من الشهوة. والطبيب الحاذق يقابل العلة بما يضادها لا بما يزيدها»[6].
- من أعظم الآفات أن يكذِّب أقوام بما لم يحيطوا بعلمه؛ فكون الكسوف والخسوف له أسباب ظاهرة طبعية قد تُعرَف بالحساب؛ فهذا لا ينفي ما سبق تقريره أن ذنوب العباد وتفريطهم من أسباب انعقاد الكسوف وحصوله؛ فلا مانع من ذلك كله، وأمَّا حصر هذه السببية فيما ادَّعاه أهل الهيئة فهذا قصور في العلم، وضيق في الأفق. فالعلماء المحققون من أهل الإسلام والسُّنة اتسعت عقولهم وأفهامهم؛ فأثبتوا السبب الطبعي والشرعي؛ فابن دقيق العيد يقول: «ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يخوِّف الله بهما عباده» وليس بشيء؛ لأن لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب؛ فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد؛ وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقَها، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقاً في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفاً لعباد الله، تعالى»[7].
وتحدث ابن القيم عن سببية الكسوف والخسوف قبل مئات السنين فأثبت السبب الطبعي المعتاد، فقال: «فأما سبب كسوف الشمس فهو توسط القمر بين جرم الشمس وبين أبصارنا، وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعاً من اكتساب النور من الشمس...»[8]. كما قرر السبب الشرعي قائلاً: «إن الله - سبحانه - يُحدِث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاءً لقوم ومصيبة لهم، ويجعل الكسوف سبباً لذلك؛ ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله والصلاة والعتاقة والصيام؛ لأن هذه الأشياء تدفع موجب الكسوف الذي جعله الله سبباً لما جعله؛ فَلَولا انعقاد سبب التخويف، لما أمر بدفع موجبه بهذه العبادات. ولله - تعالى - فـي أيـام دهـره أوقـات يُحْـدِث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء، ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قام به، أو يقلله أو يخففه؛ فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها، اندفع عنه الشر الذي جعل الله الكسوف سبباً له أو بعضه؛ ولهذا قلَّ ما يسلم أطراف الأرض؛ حيث يخفى الإيمان، وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف، وتسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة، والقيام بما جاءت به الرسل، أو يقلُّ فيها جداً»[9].
كما قرر أيضاً أنه لا تناقض بين حساب الكسوف، وبين الفزع إلى الصلاة والدعاء والصدقة، والذي هو أنفع للأمة وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وحساب الكسوف[10]. - وإذا تقرر أن للكسوف سبباً يُعرف بالحساب، وحكمةً إلهية في تخويف العباد، فلا يُظَن أن ما جاءت به السنَّة في الكسوف يعارض معرفة وقت الحساب كما حـرره ابن تيميـة بقـوله: «ومـا أخبـر به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينافي كون الكسوف لـه وقت محـدود يكون فيه؛ حيث لا يكون كسوف الشمس إلا في آخر الشهر ليلة السرار، ولا يكون خسوف القمر إلا وسط الشهر وليالي الأبدار. ومن ادَّعــى خــلاف ذلك من المتفقهة أو العامة؛ فلعدم علمه بالحساب»[11].
كما أن كسوف الشمس سبب في حوادث أرضية؛ فالكسوف سبب للشر وليس مجرد اقتران كما تقوله الجهمية ولا يسوغ أن يُدَّعى أنه لا أثر لشيء من الكواكب العُلْويَّات في السفليات مطلقاً، كما بيَّنه ابن تيمية في غير موطن[12].
وأخيراً: فإن معارضة الرسل - عليهم السلام - توجب فساداً في العقل، وسوءاً في الفهم، وكلما كان الرجل عن أتباع الرسول أبعد، كان عقله أقلَّ وأفسد[13]. فدعوى أن كسوف الشمس مجرد أمر معتاد يُعرف بالحساب، لا تنفك عن جهالة بالعلم، وفظاظة في القلب؛ فما ينشره أهل الفلك من أخبار الكسوف هذه الأيام، قد أعقب بلادةً في الوجدان، وتهويناً لشأن هذه الحوادث العظام. ولئن كسفت الشمس لحِكَم إلهية، وأسباب قدرية، فلقد اعترى عقولَ أهل الفلك نوع من الكسوف؛ لضعف الاستجابة لله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وظهور الأهواء، وكما قال الشاعر: إنارة العقل مكسوفٌ بطوعِ هوى وعقلُ عاصي الهوى يزدادُ تنويرا
[1] انظر: مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب: ص 9 - 87، والعلمانية لسفر الحوالي ص 123 - 219.
[2] أخرجه البخاري: (1048).
[3] فتح الباري: 2/528.
[4] فتح الباري: 2/537.
[5] عمدة القارئ: 6/47.
[6] فتح الباري: 2/531.
[7] فتح الباري: 2/537.
[8] مفتاح دار السعادة: 2/206، 207 = باختصار.
[9] المرجع السابق: 2/209، 210.
[10] المرجع السابق: 2/212، 213.
[11] مجموع الفتاوى: 35/175.
[12] انظر منهاج السنة النبوية: 5/442، 445، ومجموع الفتاوى: 35/168.
[13] انظر الصواعق المرسلة لابن القيم: 3/861، 864.