جامعة الانحرافات الفكرية المعاصرة
(هلع) و (ارتباك) و (تحفُّز) يصيب كثيراً من المؤلفين المعاصرين في موضوعات النظام السياسي حين يمرُّون على بحث (حدِّ الرِّدة) في الإسلام؛ فهــو يشكـــل لهـــم إحــــراجاً لا يطاق أمام ضغط الثقافة الغربية المعاصرة التي تضع (الحرية الدينية) في قمة هرم الحقوق والحريات المدنية التي تحتضنها، وتقاتل في سبيل التزام جميع الأمم والحضارات بها على وَفْقِ التفسير والمعيار الغربيين.
فتوالت البحوث والدراسات التي تبحث في الدلائل الشرعية عمَّا يخفف من شدة نكير الأصوات المستغرِبة؛ ليَصِلُوا بهذا الحكم الشرعي إلى (النفي) أو ( التأويل) أو (التكييف) الذي يجعله متلائماً مع الحالة المعاصرة؛ فهي وإن بحثته بطريقة النظر في دلائل الكتاب والسنَّة؛ إلا أنها تضمر في داخلها حقيقةَ أنها تسعى بأي طريقة للتخلص من هذا الحكم لضرورة الخروج بالمظهر اللائق أمام الآخر.
وهذا ما يفسر لك أن البحث في إشكالية الرِّدة وإثارة الخلاف حول حكم المرتد لم يكن له أيُّ حضور في المذاهب الفقهية السالفة؛ فمع أن الفقهاء يختلفون في كثيرٍ من المسائل، ويتنازعون حتى في المسائل التي وردت نصوص صريحة فيها؛ إلا أن حدَّ الرِّدة لم يكن مجالَ اختلاف بينهم؛ فقد أجمع عليه الفقهاء كافة، وحكى الإجماعَ عليه عشرات من الفقهاء من مختلف الأزمان[1]، بينما تجد هذا الحكم حاضراً ومُشْكِلاً في الدراسات المعاصرة؛ وهو ما يدلل على أن العامل المؤثر فيها ليس هو النظر في الاجتهاد الفقهي بِقَدْر ما هو تأثُّرٌ بروح الثقافة الغربية.
إن الملفت للانتبـاه أن (التخلص) من هـذا الحكم الشرعي لم يَسِر على طريقة واحدة؛ فلئن اتفقت كلمة كثير من المعاصرين على (ضرورة) الانفكاك من تبعات هذا الحكم، إلا أن وسيلة تنفيذ ذلك قد تعددت فيما بينهم، فاجتمعت علينا طرائق عديدة نستخلص من كل واحدة منها مَنْزِعاً من منازع الانحراف الفكري، المتباينة في ما بينها تبايناً كبيراً؛ إلا أنها تجتمع في حالة (إشكالية الرَّدة):
فبعضهم: ينكر هذا الحكم لعدم ذِكْره في القرآن الكريم، وينظر في الآيات القرآنية التي تخاطب الكفار وتحكي مقولاتهم، فلا يجد فيها أي عقوبة لهم في الدنيا؛ وهو ما يعني أن الشريعة لا تُرتِّب أي عقابٍ دنيوي على من يمارس حريته الدينية في الدنيا، وهذا التفسير يستبطن الانحراف القائم على (إنكار) سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورَفْضِ الإيمان بها؛ لأن حدَّ الرِّدة لم يثبت إلا في سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فالمطالبة بأن يُذكر الحكم في القرآن يعني أن السُّنة غيرُ كافية في هذا الباب.
ولا يصل الأمر بآخرين إلى هذا الحد؛ فهم يثبتون السُّنة النبوية، لكنهم يحكمون على حديث: «مَنْ بدَّل دينه فاقتلوه» بأنه من قَبِيل أحاديث (الآحاد)، ولا يستقيم العمل بها؛ لأنها ظنية؛ وهذا انحراف في إنكار شيء من سُنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشكِّل عامة أحاديثه - صلى الله عليه وسلم -.
وثمة آخرون: لا ينكرون العمل بخبر الآحاد لكنهم لا يرون العمل به في المجالات المهمة كمجال التشريع، وهذا انحراف في وضع شرائطَ معاصرة حاكمة على السُّنة النبوية؛ وكأن موضوعات التشريع هي المهمة دون موضوعات العبــادة أو الاعتقاد أو الأخلاق.
في تقسـيم السُّـنة إلى (سُنة تشريعية) و (سُنة غير تشريعية)، وعلى سوء فهمهم لهذا التقسيم، إلا أن الإشكال الأبرز هنا أن المعيار لمعرفة (التشريعي) في السُّنة من (غير التشريعي) معيار مضطرب وغير محدَّد، وإنما يُستَخدَم عند كثيرين؛ لإزاحة بعض الأحكام.
ويأتي بعضهم بذريعة (الخلاف الفقهي)؛ ليزيح حضور هذا الحكم عن طريقه، مع أن المسألة ليس فيها خلاف أصلاً[2]، ولو كان ثَمَّ خلاف بين الفقهاء في أي حكم شرعي؛ فالخلاف لا يلغي العمل، وليس من شرط العمل بالأحكام الشرعية أن يتم الاتفاق عليها.
وسادس هذه الانحرافات: من يفسِّر حدَّ الرِّدة بأنه (الخروج) على الدولة ونظامها؛ وهو ما يطلَق عليه في النُّظم المعاصرة: (الخيانة العظمى) وهي تبيح التعامل معه بالقتل: وهذا التفسير جميل، متلائم مع الفكر الغربي المعاصر، لكنه بعيد عن دلائل الشريعة وكلام الفقهاء؛ وهو من قبيل تطويع الشريعة لتستقيم مع الوضعية المعاصرة، ويبدو مقنعاً لكثيرٍ من الغربيين والمستغربين لكن أصحاب هذا التفسير سيقعون في (ورطة) مع عقلاء الغربيين وأتباعهم الذين يدركون حقيقة هذا الحكم الشرعي، وسيكون مثل هذا التفسير سبيلاً للاستطالة على الشريعة؛ من جهة أن هذا التفسير يتضمن (اعترافاً) من أصحابه بأن الحكم الشرعي على أساس التفسير الفقهي المعروف مرفوض عقلاً.
وسابع الانحرافات: الاستمساك بالمصلحة في كافة صورها لتعطيل العمل بالنص: وموضع الانحراف هنا ليس في ترك العمل بالحكم الشرعي في حال وجود مصلحة معيَّنة معتبرة، أو ضرورة أو حاجة ماسَّة، بل هذا اجتهاد شرعي وإن حصل اختلاف في تطبيقاته؛ وإنما الإشكال أن يعطَّل الحكم بكليَّته بدعوى المصلحة، وأن تكون المصلحة حاضرة عند النظر في ثبوت الحكم الشرعي ابتداءً؛ فبدلاً من تقرير ثبوت هذا (الحكم) مع عدم إمكانية تطبيقه أو وجود ضرر أو غياب مصلحة عند العمل به، يأتي (صاحب المصلحة) لينفي هذا الحكم من أساسه بدعوى المصلحة، وهذا خلل؛ لأن المصلحة (بشروطها) قد تُوقِف العمل بالحكم الشرعي، غير أنها لا تزيل وصف الشرعية عن الحكم تماماً.
من يتحدث عن ضرورة تقديم صورة حسنة للغربيين، وأن الحديث عن حدٍّ للمرتد في زمان شيوع ثقافة الحريات الدينية وقيام النظم السياسية الغربية على حمايتها، يقدم صورة مشوَّهة عن الإسلام... إلخ. هذا هو الكلام الذي يقال في كثيرٍ من أحكامنا الشرعية، ومع ذلك ما تزال دعوة الإسلام تنتشر في الأوساط الغربية بشكل مذهل؛ وهو ما يعني أن وَهْمَ التشويه الذي يتحدث عنه هؤلاء الناس محض خيالٍ علمي، وهو قائم على تصوُّر غارقٍ في الوهم؛ بأن تحسين صورة الإسلام؛ ولو بإخفاء وتغيير الحقيقة سيوقف خصوم الإسلام عن مواصلة التشويه.
والتاسع: يشيع (الرعب) و (الذعر) من أن تقرير مثل هذا (الحكم) سيكون سبباً لاستغلال بعض النظم السياسية له في سبيل القضاء على مخالفيهم وخصوماتهم: فحين يأتي بعض الناس فيسيء تطبيق حكمٍ شرعيٍّ مَّا، فالحل في هذا النظر العقلي أن يُلغَى الحكم الشرعي كله.
ويأتي بعضهم: فينفي هذا الحكم لمعارضته لأصلٍ قطعي مُحكَم هو (الحريات)، وهذا الانحراف مركَّب من وجهين:
الأوَّل: أنه يضرب بالأصول الكلية على هامَة الأحكام الفرعية، مع أن الأصول إنما تثبت من خلال اجتماع الفروع؛ وإلا فعلى هذه العقلية من التفكير يمكن أن ننفي حكم الربا؛ لأنه معارض لأصل قطعي هو (حِلُّ البيع)، وننفي حكم شرب الخمر والميتة ولحم الخنزير؛ لأنه معارض لأصل قطعي هو (حِلُّ الطعام).
والثاني: أنه جاء بمفهوم غربي معاصر هو (الحريات) ليجعلَه أصلاً شرعياً، قطعياً أيضاً.
تلك عَشْرَة كاملة، هي أبرز وسائل البحوث المعاصرة (للتخلُّص) من هذا الحكم الشرعي، قد اجتمعت فيها منابت الانحراف المعاصرة من جذورِ بقاعٍ شتى، حضر فيها (منكِر) السُّنة، و (مضيِّق) العمل بها، و (مقطِّع أوصالها)، ومن يعطل الأحكام الشرعية بدعوى (الخلاف) أو (المصلحة)، ومن يعارض الأحكام الشرعية بأصول فكرية محدَثَة، ومن (يخاف) من الحكم الشرعي أو (يخاف عليه)؛ فأصبح النظر إلى هذا الحكم (جامعاً) للانحرافات الفكرية المعاصرة، وحين يأتي المسلم فيقرر هذا الحكم كما جاء في النصوص الشرعية وبما نقله كافة الفقهاء، فإنه يسجل شهادة خير لنفسه، ليحمد الله عليها لسلامته وبُعْدِه عن مثل هذه الانحرافات التي عم بها البلاء.
[1] منهم - على سبيل المثال -: ابن المنذر في الإجماع (ص76)، والبغوي في شرح السُّنة: 5/431، والنووي في شرح صحيح مسلم: 12/208، وابن قدامة في المغني: 12/264، وابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع: 1/355، والسُّبكي في السيف المسلول: (ص119)، وغيرهم.
[2] ينسب كثيرون إلى الفقيهين الكبيرين ( إبراهيم النخعي) و ( سفيان الثوري) – رحمهما الله - أنهما ينكران حدَّ الرِّدة، والحقيقة أن خلاف هذين الإمامين إنما هو في (استتابة) المرتد وليس في حكم قتله؛ فقد كانا يقولان: يستتاب أبداً، كما رواه عبد الرزاق في مصنفه، (10/166) وقولها هذا إنما هو في مَعرِض حكم الاستتابة وليس في محلِّ الحكم الأصلي، وقد روى عبد الرزاق في مصنفه، (6/105) عن الثوري: أن المرتد إذا قُتِل فماله لورثته، وذكر عنه أيضاً في (9/418): أن من قُتِل مرتداً قبل أن يرفع إلى السلطان فليس على قاتله شيء، وهو ما يدل على أن حكم الثوري لا يخالف في هذه المسألة؛ وهذا ما فهمه الفقهاء في كتب المذاهب؛ حيث يذكرون كلام هذين الإمامين في خلاف الفقهاء في حكم (الاستتابة) وليس في عقوبة المرتد. انظر على - سبيل المثال -: المغني لابن قدامة: (10/72) ومغني المحتاج للشربيني: (4/140). وعلى التسليم بأن النخعي والثوري ينكران حدَّ الرِّدة؛ فإنهما يطالِبان بالاستتابة الدائمة، وليس بالحرية الدينية للمرتد؛ وبناءً على ذلك فالإشكال الذي يلاحق حدَّ الرِّدة سيأتي هنا، فإذا كان القتل مرفوضاً في الحرية الدينية المعاصرة، فالملاحقة والاستتابة والسجن مرفوضة كذلك.