قلق امريكي من تنامي الدور التركي في المنطقة
ثمَّة تناقض غريب في ملامح السياسات الأمريكية حول العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط على نحو خاص؛ فكلما اتجهت المنطقة نحو فرز قوىً قادرةٍ على ضبط إيقاع المخاوف من توتير الأجواء وتصعيدها من قِبَل الكيان الصهيوني، أو القدرة على حلِّ المشاكل العالقة والأزمات البنيوية الخانقة بأسلوب سلميٍّ، ديمقراطي، يعود بالنفع على الجميع، أو تطوَّرت العلاقات البينية بين دول الجوار الإقليمي لمنطقتنا، توجَّهت مراكز صنع القرار واللوبيات الداعمة لمراكز القوى في واشنطن إلى تبديد أجواء السلم وعرقلة جهود القوى الإقليمية المبذولة من أجل تنفيس الاحتقانات المحتَمَلة، بل محاولة تهديد تلك القوى والدول في أمنها واستقرارها وتعطيل نشاطها نحو التقدم والازدهار.
ما تقدم بيانه يكاد ينطبق في الآونة الأخيرة على سياسة واشنطن تجاه واحدة كانت من أكبـر حلفـائها (ولا تزال) ، وهي تركيا التي تمكَّنَت من تجنيب المنطقة حرباً إقليمية - وربمـا عالميـة - جديدة من خـلال توسُّطها في الشأن النووي الإيراني، وتحقيقيها بالتعـاون مـع البـرازيل - تلـك القـوة الدوليــة الصـاعدة - نجاحاً باهـراً في توقيت قاتل وتوصُّلهمـا إلى صفقـة لتبادُل اليـورانيـوم المخصَّب على أراضيها. لقد باتت تركيا تشكِّل - من وجهة نظر بعض القائمين على صنع القرار في واشنطن - «خطراً» داهماً ومعرقلاً لتوجُّهات الولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة؛ بعد أن اتضح حجم الإرباك الواضح للموقف الأمريكي من الصفقة المعقودة.
فقد كشفت مصادر صحفيَّة تركية النقاب عن سيناريو أمريكي لإضعاف حكومة رجب طيب أردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية؛ وذكرت صحيفة «أكشام» أنه في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار في تركيا إلى ما سيسفر عنه المؤتمر الطارئ لحزب الشعب الجمهوري المعارض؛ حيث يُتوَقَّع أن يتم انتخاب (كمـال كليتـش) خَلَفاً (لدنيز بيكال) الـذي قدَّم استقالته قبل أسبوع إثر فضيحة جنسية، فإن الولايات المتحدة تولي اهتماماً خاصاً بالتطورات الحاصلة الآن على الساحة السياسية التركية.
وأضافت الصحيفة أن واشنطن باتت ترغب في وجود حزب قوي منافِس لحزب العدالة الحاكم، وأن إدارة باراك أوباما عازمة على إضعاف حكومة أردوغان لممارساتها المناوئة والمناهضة ضد «إسرائيل»، ولاقترابها في الوقت نفسه من محور (إيران - سوريا) المعادي للولايات المتحدة الأمريكية، بحسب وصف الصحيفة التركية.
وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية (هيلاري كلينتون) قد أعلنت أن الولايات المتحدة توصلت إلى اتفاق مع روسيا والصين حول مشروع قرار يفرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي؛ وذلك في أعقاب تهديد وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو بانسحاب بلاده من الاتفاق الذي جرى التوصل إليه مع إيران والبرازيل بشأن مبادلة الوقود النووي بيورانيوم عالي التخصيب على الأراضي التركية، في حالة إقدام الدول الكبرى على فرض عقوبات جديدة بحق طهران، بينما دعا أردوغان خلال قمَّة الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينيَّة في مدريد «المجتمعَ الدوليَّ إلى دعم البيان الختامي للدول الثلاث (إيران والبرازيل وتركيا) باسم السلام العالمي». وأضاف: «علينا الكفُّ عن التحدث عن عقوبات ضد إيران بعد هذا الاتفاق».
وبحسب مصادر أمريكية مطلعة، فإن إدارة أوباما «قلقة» جداً من سياسات أردوغان تجاه «إسرائيل» ومن التقرُّب التركي المتنامي مع سوريا. ونقلت صحيفة «جيروزاليم بوست» الصهيونية عن مصادر أمريكية قولها: «إن الولايات المتحدة لم تحدد بَعْدُ ما إذا كان التقارب التركي السوري هو دليل على قرار إستراتيجي تركي بإعادة توجيه السياسة التركية بعيداً عن الغرب، إلاَّ أنها تراقب السلوك التركي بقلق».
وكان اللوبي الصهيوني في الكونغرس الأمريكي قد بدأ التحرك ضد تركيا؛ وذلك في أعقاب صفعات أردوغان المتتالية لـ «إسرائيل»، وجرى عرض مسوَّدة قرار على مجلس الشيوخ الأمريكي للاعتراف بما يسمى بـ «المذبحـة العثمانية ضـد أرمن الأناضول» عام 1915م.
وكان زعماء يهود أمريكيون قد التقوا، في وقتٍ سابق، بالسفير التركي (نابي سينسوي) في واشنطن، وأعربت القيادة اليهودية عن قلقها العميق من الاتجاه الذي تسلكه تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بعد سنوات من العلاقات الوثيقة المثمرة، على حدِّ وصفها.
وكانت مصادر صحفية قد أماطت النقاب عن رفض تركيا لرسالة بعثت بها «إسرائيل» إلى أنقرة تحدثت فيها عن الخطر الذي تمثله سوريا على استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط، وضرورة الإبقاء على مسافة معيَّنة بين تركيا وسوريا، وقالت مصادر مطلعة: إن أنقرة أبلغت «تل أبيب» بأن تركيا لن تسمح لأي طرف وأية جهة مهما كانت بتحديد ورسم سياسة علاقاتها الخارجية مع السوريين أو غيرهم.
وكان رئيس الحكومة التركية (رجب طيب أردوغان) قد اعترض على الانتقادات «الإسرائيلية» والأمريكية لتركيا بسبب استبعاد «إسرائيل» من المناورات العسكرية الدورية المشتركة قائلاً: «أودُّ أن يعلم الجميع أن تركيا دولة قوية تتخذ قراراتها بنفسها، ولا تتلقى تعليمات من أيٍّ كان لاتخاذ قراراتها». وكشفت تقارير صحفية عبرية عن خوفٍ متنامٍ داخل «إسرائيل» من قيام أردوغان بما سمَّته: عمليةَ «أسلمة» للجيش التركي، ونقلت عن مصدرٍ سياسي «إسرائيلي» رفيعِ المستوى قوله: «تراودنا، وبعضَ الدول الغربية، مخاوفُ من أن يكون أردوغان يقوم بصمت وبحزم بعملية أسلمة لتركيا». وأكدت مصادر سياسية «إسرائيلية» على أن هذه المخاوف مشتركة أيضاً لعدد من الدول الغربية المهمَّة، وفي مقدِّمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا. وقال مصدر أمنيٌّ «إسرائيلي» رفيع المستوى: «إننا نشهد حركة تعيين واسعة لضباطٍ متدينين في الجيش التركي في السنوات الأخيرة، وهو توجُّه لم يكن في السابق؛ ولذلك فإن علينا أن نفكِّر مرتين في طبيعة المعدَّات التي نبيعها لتركيا».
إن نزوع تركيا التدريجي للحضور في مسرح الشرق، ولعب دورٍ فعَّال مهمٍّ على صعيد حل إشكالاته، وتعزيز علاقاتها الإقليمية مع جميع دول الجوار، العربي منهم على وجه الخصوص، لم يكن ليريح مبعث التوتر والاحتقان في المنطقة «إسرائيل»؛ فلجأت إلى تحريك العواصف وإثارة الزوابع في وجه السياسة الخارجية الجديدة لتركيا، في ظل عدم انسجامها مع أجندتها العدوانية على دول المنطقة؛ فكـان أن بدأت دوائر صُنْع القرار في الولايات المتحدة في مؤازرة الغضب الصهيوني من التصـرفات التـركية بتخبـط في التصـريحات والمواقـف، يعكسه تضارب مـراكز القـوى فـي توجُّهاتها إزاء حليـف قديـم ومهـم مثـل (تركيـا)؛ وهـو ما يعني في النهاية أن المشكلة كانت وستظل في ظل المعطيات والظروف القائمة، مشكلة أمريكية داخلية بكل المقاييس.