هل ذكر اسم " محمد " في اسفار اهل الكتاب ( 2-2)
كنتُ أوردتُ في الجزء الأول من هذا المقال نصاً من العهد
القديم للدلالة على ذكر اسم «محمد» - صلى الله عليه وسلم - صراحة في أسفار أهل
الكتاب، لكنني اكتفيت هناك بإثبات التحريف في ترجمة النص من العبرانية وعَرضـتُ
لذلك بعض النماذج، وأهمُّ ما عُنيت به إثبات أن الفِقرة المقتبسة تُقرَأ وَفْقَ
الترتيب الآتي مع مراعاة الفواصل:
ما تعسو ليوم موعِيد وليوم حج يهوه؟
كي هيني هالخو مشُّود: مِصرايم تِقبِّصِم، موف تِقَبِّرِم، مَحْمَد لِخَسْبَام،
قِمُوش يِيراشِم، حُوَح بأُهُليهم. [هوشع 9: 5 - 7]
وبيَّنت أن هذه القراءة هي الوحيدة
التي تحافظ على تَنَاظُر الجمل وجَرْسِها. لكنني في هذا الجزء سأركِّز الحديث على
معنى النص ليرى القارئ كيف أن تلاعُب المترجمين حوَّل نصاً صريحاً في نبوة المصطفى
- صلى الله عليه وسلم - إلى جُملٍ شديدة الركاكة باهتة المعاني أشبه ما تكون بسجع
الكهان.
تفسير النص:
أما قوله: (ما تَعسُو ليوم موعِيد
وليوم حج يهوه؟) فليست له علاقة بالمواسم والأعياد، وهذا ظاهر من السياق؛ إنما هو
تخويف وتذكير لبني إسرائيل الذين ابتعدوا عن منهج الله وعصوا رُسُله. فمَن ترجمهُ بقوله:
«ماذا تصنعون في يوم الموسم وفي يوم عيد الرب؟» فقد أبعد النجعة وأحال الوعيد
عيداً. فالنص العبراني يقول: (ل - يوم) ومعناها «لِـيَومِ» وليس (ب - يوم) «في
يوم». وعليه فالصحيح أن تترجَم هكذا: «ما أنتم عاملون ليوم الميعاد[1] ويوم يحشركم الرب؟» فكلمة «حَج» في
العبرانية هي كل اجتماع حاشد، وإنما استُعيرت للعيد لاجتماع الناس فيه. ومعنى
الجملة يُذكِّر بقول الله - تعالى - مخاطباً بني إسرائيل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلا
يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:
123].
وأما قوله (كي هيني هالخو مِشُّود:
مصرايم تقبصم، موف تقبرم) فتفسيره «فهاهم أولاء نجوا من البلاء: مصر تأسرهم ومنف[2] تقبرهم [أو تدفنهم]». وهو تذكير لبني
إسرائيل بما تعرضوا له من ابتلاءٍ على يد فرعون وقومه، فالنص يشير إلى النجاة من
البلاء، والاستعباد، والقتل؛ وهو معنى قريب جداً من قول الله - تعالى - في كتابه
الكريم: {وَإذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49].
لكن اضطهاد المصريين ليس كلَّ ما
تُعدِّده الفِقرة من ابتلاء لبني إسرائيل، فهي تستمر قائلة: (مَحْمَد لـخسبام)،
وهنا بيت القصيد. فقد تُرجِمَت هذه العبارة بـ «نفائس فضتهم» وهو من التحريف
الظاهر لأمرين رئيسين:
أولهما: أن إضافة «مَحْمَد» (بمعنى «نفيس») إلى «خسبام» (أي «فضتهم»
أو «مالِهم») من الركاكة بمكان، لوقوع حرف الجر «ل» بينهما؛ حتى إن «فيلهِلم
جِسنيوس» في كتابه «نحو اللغة العبرانية» Gesenius> Hebrew Grammar أورد احتمال أن
تكون العبارة في أصلها (مَحمدي خَسْبام)، وهي صيغة الإضافةِ السَويةُ في العبرية.
وثانيهما: إن سلَّمنا جدلاً بصحة الإضافة في (مَحْمَد لخسبام) «نفيسُ
فضتِهم [أو «مالِهم»]» فهي برغم ذلك ليست جملة مفيدة فهي تحوي مبتدأً يفتقر إلى
خبر، أو خبراً لمبتدأ محذوف لا نعلمه، وهو ما اضطر المترجمين إلى أن يربطوها
بـ(قيموش ييراشم) التي تليها، فقالوا: «يرث القريص نفائس فضتهم». وهي محاولة بائسة
للهروب من المأزق، لكن الجملة لا تستقيم برغم ترقيعهم هذا؛ لأننا لو ترجمنا النص
العبري حرفياً لصار «نفيسُ فضتهم القريصُ يرثهم»؛ بمعنى أن ضميـر الجمـع «هم»
سيعود على المفرد «نفيس» وهو ما لا يستقيم في اللغة العبرانية، وإنما يقال: «نفيس
فضتهم القريص يرثه»، ولو افترضنا أن الضمير يعود على «فضة» – وهو بعيد جداً –
فالاعتراض قائمٌ؛ لأنها مفرد وليست جمعاً حتى في أصلها العبري (لـ - كسف - ـم).
فدل ذلك على أنهما جملتان وليستا جملة واحدة.
فما معنى الجملة إذن؟ إن (مَحْمَد
لخسبام) عبارة وجيزة مستأنَفة معناها الحرفي «مُحمَّدٌ لِمالِهم»، فـ «محمد» اسم
عَلَم يشير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس صفة بمعنى «نفيس»، يشهد لهذا
أمران على الأقل:
أولاً: أن الجملـة بغير هذا الشـكل لا
تسـتقيم لا معنىً ولا مبنىً كما سبق بيانه.
ثانياً: لمَّا تعرَّض مترجمو النسخة
السبعونية لهذه الفِقرة كانوا يدركون أن «محمد» اسم علم، فكأنهم حاروا ما يفعلون،
فلجؤوا إلى تغيير الاسم إلى «مَحْمَس» (مدينة «مخماش»). ولعل قائلاً يقول: ألا
يمكن أن يُعتذر لهم باحتمال أن حرف الدال لم يكن بيِّناً في الأصل العبري فأشكل
على المترجمين؟ أقول:
أولاً: إن حرفي السين (سامخ) والدال
(دالِت) في العبرانية لا يتشابهان ألبتة والخلط بينهما بعيد؛ فالأول يشبه في شكله
الرقم (5) والآخر يشبه الرقم (6).
وثانياً: لو افترضنا ذلك جدلاً فإن
مدينة «مخماش» التي يريدها المترجمون هنا لا تكتب في العبرية «محمس»، وإنما «مكمش»
بكاف وشين، فالتحريف لم يقع في حرفٍ واحد فحسب، بل في حرفين اثنين.
وقد يعترض معترض فيقول: لِمَ بَدَّلتَ
«مَحْمَد» فجعلتها «مُحَمَّد»؟ والجواب: أن النص العبري ظل أكثر من ألف عام مجرداً
عن الحركات إلى أن أضافها «المَسُوريُّون» من علماء اليهود بين القرن السادس
والتاسع بعد الميلاد وَفْقَ اجتهادهم فأصابوا بعضاً وأخطؤوا بعضاً. فالكلمة قبل
تحريف المسوريين كانت «محمد» دون حركات، ولم تكن «مَحْمَد»، وهذا مما يُجمع عليه
علماء العهد القديم. فلم يبقَ إلا الإذعان بأن «محمد» عَلَم على النبي - صلى الله
عليه وسلم -.
والمراد من الفِقْرة أن محمداً - صلى
الله عليه وسلم - سيتولى تأديبهم في أموالهم، وحصل ذلك عندما أجلى بني النَّضير
إلى أذرعات من أعالي الشام وإلى خيبر حتى إن أحدهم كان ينزع باب داره وسقفها لئلا
يخلِّفها وراءه، كما جاء في سورة الحشر: {هُوَ
الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ
لأَوَّلِ الْـحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم
مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْـمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ }
[الحشر: 2] إلى قوله - تعالى -: {وَمَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6].
أما قوله: (قيموش ييراشم، حوح
بأُهُليهم) فسأعتمد فيها ترجمة النسخ العربية: «القريص يرثهم، والعوسج في منازلهم»
– تنزُّلاً لا قبولاً – حتى لا أطيل على القارئ.
ثم يعود الرب إلى تحذير بني إسرائيل
من مغبة كفرهم وأن أيام المُساءلة قد أزفت فيقول: (باؤو يمي هبجوداه، باؤو يمي
هشِّلُّوم) أي «أزفت أيام العقاب وحلـت أيام الجزاء». واسـتعمال الزمن الماضي هنا
دلالـة علـى التحقـق والوقـوع لا محالة، كقوله - تعالى -: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
ثم بيَّن السبب في هذا التهديد
والوعيد، فقال: (يِدعو يسرائيل إفيل هنَّفي، مِشُجَّع إيش هروح). وترجمتُها كما في
ترجمة «فاندايك»: «سيَعرِف إسرائيل، النبي أحمق، إنسان الروح مجنون.» وهي كما ترى
غاية في الركاكة والإبهام، والسبب في هذا أن جُلَّ الترجمات العربية والأجنبية
اعتبرت الفعل العبري «يدعو» مشتقاً من «ي - د - ع» بمعنى «عَرَف»، والصحيح أنه
مشتق من «د - ع - هـ» بمعنى «دعا». وهذا الفعل ثابت في العبرانية كما فصَّل ذلك
«جيمس بار» في كتابه «فقه اللغة المقارن ونص العهد القديم»[3]. فالجملة (يِدعو يسرائيل إفيل
هنَّفي، مِشُجَّع إيش هروح) تتألف من فعل متعدٍّ إلى مفعولين، وفاعلٍ، ومفعول به
ثانٍ مقدَّم، ومفعول به أوَّل مؤخر، ثم مفعول به ثانٍ مقدَّم مضاف، ومفعول به
أوَّل مؤخر. وعليه فالترجمة الحرفية للفقرة هي: «تدعُو إسرائيل النبيَّ أحمقَ،
ورجلَ الروح مجنوناً»، والمراد بـ «إسرائيل» هنا بنو إسرائيل. قال - تعالى -: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ
إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ
طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53].
ثم بيَّن النصُّ ما دفع اليهود إلى
هذا السباب والجحود، فقال: (عل روف عفونخا، فرباه مسطماه) «لكثرة آثامك وفرط
عدائك»[4]. فسبب تكذيب اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشتمهم إياه - بشهادة
أسفارهم – هو فرط عدائهم، وهو كما قال - تعالى -: {لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].
وفي قصة صفية بنت حيي بن أخطب - رضي
الله عنها - أنها قالت: كنتُ أَحَب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر؛ لم أَلقَهُما
قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلمَّا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- المدينة، ونزل قباءَ في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أَبي حييُّ ابن أخطب وعمي أبو
ياسر بن أخطب مغلِّسين. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا
كالَّين كسلانَين ساقطَين يمشيان الهُوَينى. قالت: فهششت إليهمـا كما كنت أصنع، فو
الله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو
يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم!
قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته واللهِ ما بقيتُ»[5].
وهنا أختم بعرض ترجمة «فاندايك» العربية
للنص أعلاه وأُتبعها بترجمتِي التي اعتمدت فيها الأصل العبري وأترك للقارئ الحكم.
ترجمة فاندايك: «ماذا تصنعون في يوم
الموسم وفي يوم عيد الرب؟ إنهم قد ذهبوا من الخراب، تجمعهم مصر، تدفنهم موف، يرث
القريص نفائس فضتهم، يكون العوسج في منازلهم. جاءت أيام العقاب. جاءت أيام الجزاء.
سيعرف إسرائيل، النبي أحمق، إنسان الروح[6] مجنون، من كثرة إثمك وكثرة الحقد.
ترجمة الباحث: «ما أنتم عاملون ليوم
الميعاد، ويوم يحشركم الرب؟ فها هم أولاء نَجَوا من البلاء: مصر تأسرهم، ومنف
تدفنهم، ومُحمَّد يغنمهم، والقريص يرثهم، والعوسج في ديارهم. أزفت أيام العقاب
وحلت أيام الجزاء، فبنو إسرائيل يدعون النبي سفيهاً وذا الوحيِ مجنوناً، من عِظَم
الإثم وفرط العداء».
{الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ
فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْـحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْـحَقُّ مِن
رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـمُمْتَرِينَ} [البقرة: 146 - 147].
[1]
«موعيد» في النص العبري.
[2] منف: مدينة مصرية
قديمة.
[3] Barr, James. Comparative Philology and the Text of
the Old Testament (Winona Lake,
Indiana: Eisenbrauns,
1987), p. 23.
[4] هنا التفات من
الغيبة إلى الخطاب؛ أي انتقال من صيغة الغائب «يدعو إسرائيلُ» إلى صيغة المخاطب
«آثامكَ» و «عدائكَ»، وفائدته البلاغية لفت المستمع أو القارئ إلى أمر ذي شأن. وقد
سبق ورود التفات آخر عند قوله «ما أنتم عاملون ... فهاهم أولاء نجوا من البلاء»
والأصل «فها أنتم أولاء نجوتم من البلاء». وهذا لا يعنينا كثيراً هنا وإنما أردت
به بيان مُراوحة الضمائر وأن ذلك لا يغيِّر من أصل معنى النص شيئاً.
[5] سيرة ابن هشام:
1/519.
[6] «إيش هروح» التي
تترجم بـ «إنسان الروح» معناها: «ذو الوحي» وهو وصف لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛
إذ سُمي القرآن الذي أنزل عليه «روحاً» في قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ
عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].