فقر المياه .. حرب صهيو - افريقية على مصر
يقول الحق - تبارك وتعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْـمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: ٠٣], وقد ذُكِرَ الماء في سبع عشرة آية في القرآن وفي آلآف المواضع في السُّنة، وبه يكون الوضوء والطهور والاغتسال، وعليه قامت أركانٌ للإيمان، والماء يَعُدُّه العلماء أساسَ الحياة على كوكب الأرض. قال الإمام ابن القيم عنه في زاد المعاد: (إن الماء مادة الحياة، وسيد الشراب، وأحد أركان العالم، بل ركنه الأصلي؛ فإن السموات خُلِقَت من بخاره والأرض من زَبَدِه، وقد جعل الله منه كلَّ شيء حي).
وقد استُخدِم تكتيك مَنْعِ المياه عن الأعداء منذ قديم الزمان. والحرب في العصر الحديث لم تكتفِ بذلك التكتيك القديم، وإنما تطورت لتكون حرب المياه حرباً مستقلة لها تكتيكها وإستراتيجيتها.
لقد ارتفعت صيحات كثيرة تنذر بحرب المياه، ولم يكن أحد في مصر يفكر في ذلك؛ فمصر: (هبة النيل)؛ هكذا يردد المصريون منذ آلاف السنين، وقد اعتقدوا أنهم يملكون النيل، وتفاخروا بين الشعوب بذلك. والله وحدَه - سبحانه - هو مالك السموات والأرض المعطي الوهاب، ولم يطرأ على فكر مصريٍّ في يوم من الأيام أن ماء النيل من الممكن أن يَقِلَّ، أو أن ينعــدم، أو تَحْدُثَ في يوم من الأيام مشكلة أو أزمة بسببه.
وفي شهر أبريل من عام 2010م شعر المصريون بنُذُرِ شرٍّ وأزمة، أفاق بعضهم عليها عندما وجدوا وزير خارجية بوروندي في اجتماع لوزراء الري في مصر يحتج على نصيب مصر من ماء النيل، ويطالب بتخفيضه، ويهدد ويتوعد، بل ينصرف مغادراً الاجتماع، وهنا أدرك بعضهم الأزمة القادمة، وقالوا: هل كان أيٌّ من حكام مصر على مدار التاريخ يتخيل ذلك؟ ولو كان نظام الحكم قوياً وله يد قوية داخل إفريقيا لَـمَا تجرأ أحد على ذلك؛ فمنذ الخمسينيات من القرن الماضي سخَّرت مصر كلَّ إمكانياتها لدعم حركات التحرر الإفريقي، ولكن بعد غَلِّ يد مصر القوية وقَطْعِها باتفاقية كامب ديفيد، فُتِحَت أبواب إفريقيا على مصراعيها لليهود فتوغلوا فيها كيفما يشاؤون.
إن الشاهد هنا أن الأزمة استفحلت ووصلت إلى حدِّ اجتماع كلٍّ من: إثيوبيا، رواندا، تانزانيا، أوغندا، بوروندي، كينيا، والكونغو الديمقراطية في 15 مايو 2010م ليعلنوا توقيع اتفاقية توزيعٍ جديدةٍ لماء النيل منفردين عن مصر والسودان، دولتي مصب نهر النيل اللَّتين رفضتا هذه الاتفاقية وأعلنتا أنها لا تُلزِمُهما مطلقاً؛ وهو ما صعَّد من الأزمة.
لقد أدرك كثير من المصريين وجود خطر حقيقي حول نهر النيل الذي كما يجري على أرضهم فهو يجري في أجسادهم أيضاً، وهو ركن متجذر في حياة المصريين منذ آلاف السنين؛ قامت عليه حضاراتُهم وحياتُهم الزراعية والصناعية، وإستراتيجيتُهم العسكرية، وعاداتُهم وتقاليدُهم، وتفاخُرهم بين الشعوب.
وجدير بالذكر أن حوض النيل يضم عشر دول، ويبلغ طول نهر النيل 6825 كم، وتبلغ مساحة حوضه 3 ملايين كم2، وينبع النيل من مصدرين رئيسيين، هما: حوض بحيرة فيكتوريا كمصدر دائم، والهضبة الإثيوبية كمصدر متجدد. أما المنابع الإثيوبية فتشمل ثلاثة روافد، هي: نهر السوباط، والنيل الأزرق، ونهر العطبرة. وتُعَدُّ الهضبة الإثيوبية أهم منابع النيل؛ إذ تُمِدُّ النيل الرئيسي عند أسوان بـ (85 %) من متوسط الإيراد السنوي. وهذه الكمية هي التي عليها المخطط والمؤامرة؛ للضغط على مصر وابتزازها؛ إذ من المعلوم أن مصر - على الرغم من تلك الكمية - فهي تعاني من نقص مياه لاعتماد كثير من الزراعات فيها على كميات مياهٍ كبيرة، مثل الأَرُز؛ وهو محصول رئيس عند المصريين. وتقليل المياه على مصر يهدد مصر بمجاعة وخطر حقيقي رهيب. ولكن مدبري المؤامرة يعلنون أسباباً وهميَّة، منها: الاعتراض على اتفاقية عام 1929م؛ ففي مايو 1929م تبادل رئيس وزراء مصر مذكرتَين مع المندوب السامي البريطاني (وقت احتلال مصر) الذي وقَّع نيابةً عن الإدارة الاستعمارية البريطانية الحاكمة في كينيا وأوغندا وتنجانيقا (تنزانيا حالياً)، وفي هذه الاتفاقية إقرار قانوني بحصَّة مصر المكتسبة من المياه، وأن لمصر نصيباً عادلاً من كل زيادة تطرأ على موارد النهر في حال إنشاء مشروعات جديدة على النهر وروافده، وأن حصة مصـر تحددت بـ (48) مليـار متر مكعـب، وحصة السودان بـ (4) مليارات متر مكعب سنوياً.
والأحداث المعاصرة تقول: إن إثيوبيا هي التي تقود الأزمة المفتعلة؛ فقد أعلنت رفض الاتفاقية منذ عقود، ولكنها لم تتحرك مثل هذا التحرك الرافض الأخير باتفاقية 15 مايو؛ وهو الذي وصل إلى حدِّ أنها تعتزم بناء 70 سداً على روافد النيل عندها؛ على الرغم من أن إثيوبيا تعتمد في زراعتها على مياه الأمطار الوفيرة والغزيرة جداً، ولا تعتمد على النيل كما تعتمد عليه مصر التي لا تسقط عليها الأمطار إلا نادراً، وقد صرح رئيس وزرائها زيناوي في 20 مايو 2010م بقوله: إن مصر لن تستطيع أن تمنعنا من بناء السدود، ومن المعلوم أن 70 % من الماء الذي يأتي لمصر يأتي عبر النيل الأزرق وحدَه في إثيوبيا.
ومن المهم الإشارة إلى أن إثيوبيا علاقتها دائماً متوترة مع مصر والدول العربية الإسلامية منذ قرون عديدة بسبب وجود مركز للكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا، ويشكل المسلمون أكثر من 40 % من السكان، ومع ذلك هم مضطهدون لا يحصلون على مراكز عُليَا.
وقد تسبب وجود مركز مسيحي في إثيوبيا في حدوث حروب عديدة وصلت إلى محاولة غزو مكة عام 1519م، وفي عام 1916م أعلن الإمبراطور الإثيوبي إسلامه وتحوُّلَه عن النصرانية وتبعيَّته للخلافة العثمانية دينياً؛ وهو ما دفع الدول الغربية الصليبية إلى إرغامه على التنحي بالقوة، وقد قام الخديوي إسماعيل منذ أكثر من قرن بحملة عسكرية إلى الحبشة (إثيوبيا)، وما زالت إثيوبيا تحتل أقليم أوغادين الصومالي المسلم، وتتدخل بقواتها العسكرية في الصومال تبعاً للأوامر الأمريكية.
والأحداث تقول بكل وضوح: إن ما يحدث ليس بأزمة؛ ولكنه مؤامرة ظاهرها إفريقي وباطنها تحركه اليد الصهيونية؛ وقد نشرت صحيفة الوفد المصرية وثيقةً صهيونيةً تطالب بتدويل النزاع بين مصر والسودان وباقي دول حوض النيل. أعد الوثيقة تسيفي مزائيل (سفير إسرائيل السابق في مصر)، وتتضمن دراسة خطيرة تحمل المزاعم الصهيونية حول احتكار مصر لمياه النيل وحقوق دول المنابع المهدرة بسبب المواقف المصرية. واتهم «مزائيل» مصر بتجاهل المطالب الشرعية لدول المنابع.
وقد ذكر المحلل السياسي الأمريكي مايكل كيلو، في كتابه (حروب مصادر الثروة) أن (إسرائيل) لعبت دوراً كبيراً مع دول حوض النيل لنقض المعاهدة الدولية التي تنظم توزيع مياه النيل، واعتبر أن هذا الأمر يأتي في إطار الإستراتيجية الصهيونية.
ومن المعلوم أن العلاقة القوية التي تربط إثيوبيا بدولة الاحتلال الصهيونية وصلت إلى حدِّ حصول تعاون عسكري وزراعي وصناعي بينهما منذ عقود، وهي من أوائل الدول الإفريقية صاحبة العلاقة القوية بالكيان الصهيوني ولا يفوتنا أن نذكر تهجير إثيوبيا لآلافٍ من يهود الفلاشا الإثيوبيين إلى دولة الاحتلال الصهيوني.
واليهود الصهاينة رغم اتفاقيات السلام الزائفة إلا أنهم لا يَفْتُرُون عن عداوتهم للعرب والمسلمين أبداً، وهم يعانون من أزمة مياه، وقد طلب الصهاينة كميات من ماء النيل عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة مع مصر، وطلبوا مدَّ ترعة السلام؛ لتمتد إلى سيناء ومنها إلى كيان الاحتلال.
وما زال عَلَمُهم حتى الآن مرسوماً عليه خطان يمثلان نهري: النيل والفرات، ولم يتغيرا رغم احتلال العراق وتوقيع اتفاقية سلام مع مصر. وصدق الله العظيم القائل في كتابه: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا}. [البقرة: ٧١٢]
فاليهود أعداء السلام، ما زالوا رغم اتفاقيات الاستسلام مصرِّين على العداء وبذل الجهد لمحاربة المسلمين بكل الطرق. وعندما نتوقف مع تلك الأزمة المفتعلة نجد أن مجموع تلك الدول (بورندي، وراوندا، وتنزانيا، وكينيا، وأوغندا) بعدد سكانها مجتمعين لا يصل إلى عدد سكان مصر الذي وصل إلى 85 مليوناً؛ ولذلك فإن احتياجات مصر من الماء كبيرة جداً بعكس تلك الدول التي لا تحتاج إلى الماء مثل مصر بَلْهَ كونها دولاً مطيرة. وعلى الرغم من تلك الاحتياجات المائية لمصر إلا أن 75 % من أرضها صحراء؛ فهي توفر الماء للشرب، وللزراعة التي تشغل 25 % من مساحتها.
لذلك فإن المعارضة المصرية تتهم حكومتَها بضعفها وفشلها وتراخيها في التعامل مع هذه الأزمة؛ حيث ظهرت بوادر الأزمة منذ سنوات ولم تقم الحكومة بواجبها في احتوائها بالعمل على قيام مشروعات مع تلك الدول، وتعزيز الوجود المصري فيها، وتقديم مصالح مادية لتلك الدول؛ لتقطع عليهم طريق تلك المؤامرة التي يغذيها مَنْ يدفع لهم.
لقد طُرِحَ لحل تلك الأزمة المفتعلة النفط مقابل الماء؛ أي تزويد تلك الدول بالبترول مقابل توفير كميات الماء الكبيرة لمصر، وطُرِحَ أيضاً تسعير الماء وبيعُه لمصر. ومع اشتداد الأزمة وخطورتها وتصاعدها بنحو غير مسبوق في تاريخ مصر أعلنت مصر على لسان أكبر مسؤوليها أن نهر النيل مسألة حياة أو موت؛ وهو ما جعل بعض الناس يظن أن مصر ربما ستحارب من أجل ماء نهر النيل؛ وهو أمر لا يُستبعَد إذا وصلت المؤامرة إلى حدِّ الخطورة، ولكنه ليس مطروحاً الآن بصفة مستعجلة على أجندة الحكومة المصرية التي تتحرك سياسياً ودبلوماسياً وأمامَها الحل القانوني؛ وطبقاً للقانون الدولي، فإن حقوق مصر ثابِـتة بالعديد من الاتفاقيات الدولية، خاصة قانون الأنهار الدولية الذي يحمي كافة حقوق مصر في حصَّـتها، ويدعم موقِـفها القانوني، فضلاً عن مبدأ قُـدسية الحدود الموروثة عن الاستِـعمار أو ما يُـطلق عليه (مبدأ أوتي بوسيتيديس جوريس في القانون الدولي) Juris Uti Possidetis، ويطلق عليه الفِـقهُ الدولي العربي (مبدأ قدسية الحدود الموروثة عن الاستِـعمار)، أي ثبات الوضع الذي كان قبل الاستِـقلال، ومنها الموارد المائية.
وفقه القانون الدولي ينص على أن استِـقرار هذا الوضع لمدَّة طويلة، يجعلها بمثابة قاعِـدة قانونية لا يجوز مخالفتها، فضلاً عن جعلها قاعدة عامة، طِـبقاً لقانون المعاهدات الذي عَـرَّف القاعدة الآمرة في القانون الدولي في المادة (53) بأنها: (القاعدة المقبولة والـمُـعترف بها من قِـبَل المجتمع الدولي ككل، وأنها القاعدة التي لا يجوز الإخلال بها، ولا يُـمكـن تعديلهـا؛ إلا بقـاعدة لاحِـقة لهـا مـن القـواعد العـامة للقـانون الدولـي)، والقـاعدة الآمـرة فـي القـانـون الدولـي، لا يجوز الاتِّـفاق على مخالفتها.
كما نصَّـت المادة (35) من قانون المعاهدات على الآتي: (ينشأ التِـزام على الدولة الغيْـر من نصٍّ في المعاهدة، إذا قصد الأطراف فيها أن يكون هذا النصُّ وسيلة لإنشاء الالتزام وقَبِلَت الدولة الغيْـر ذلك صراحة وكتابة).
ولكني اعتقد أن السبب في الوصول إلى تلك المرحلة من الأزمة هو الإهمال الحكومي المصري لإفريقيا منذ كامب ديفيد المشؤومة؛ فقد كانت كثير من الدول الإفريقية ليس لها علاقات دبلوماسية مع كيان الاحتلال، ولكن بعدما استسلمت مصر ووقعت اتفاقية الاستسلام توغِّل الصهاينة وازداد دورهم في إفريقيا؛ حتى أصبح لهم قواعد ومصالح إستراتيجية في إفريقيا، وكل ذلك بسبب اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة.
وإذا كان للصهاينة دور في المؤامرة فبلا شك لا تغيب الولايات المتحدة الأمريكية عن تلك المؤامرة لابتزاز الحكومة المصرية في ملفات إقليمية ودولية هامة.
ولا يخفى أن مصر تعتمد بنسبة 85 % على ماء النيل؛ فهو شريان الحياة، وما حدث من دول الحوض الإفريقية إنما هو بمثابة إعلان حرب على مصر؛ فالقضية هي الأمن القومي لمصر، ولا تراجع فيها مطلقاً
إن الحرب العسكرية مع الصهاينة قد توقفت بنصر أكتوبر العاشر من رمضان عام 1973م (ثم اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة) لكن أُعلِنَت الآن حرب المياه على مصر، واتمنى أن تنتصر مصر في تلك الحرب الرهيبة التي هي أخطر من الحرب العسكرية؛ إذ تمسُّ حياة 85 مليون إنسان.
وأخيراً: فإن ما حدث من دول الحوض الإفريقية يدل على أن القوة العسكرية والسياسية تفتح لك أبواب المصالح والتفوق على الآخرين، وأن إعلان مصر انكافاءها على نفسها بعد كامب ديفيد أضعفَ من دورها الإقليمي والدولي في شتى المجالات، وهو ما فتح الباب لظهور قِوى أخرى في (الشرق الأوسط) كدولة الاحتلال الصهيوني، وأيضاً إيران التي لا يخفى صعود دورها الإقليمي والدولي، ووجودُها في إفريقيا؛ وقد سبق ظهورَ تلك المؤامرة على العلن زيارةٌ للرئيس الإيراني محمود نجاد لدول إفريقيا؛ فهل تحالفت إيران مع إسرائيل على مصر في إفريقيا، تساندهم الولايات المتحدة؛ لتحقيق توازنات سياسية في ملفات معقَّدة بينهم على حساب مصر الضعيفة؟ إن الأيام سوف تفضح مزيداً مما حدث ولا تُستَبعَد تلك المؤامرة؛ فقد عرَّف هنري كيسنجر العولمة بقوله: (إن القوة هي الحق ومن يملك القوة يفرض ما يريد). وللأسف فإن مصر بعد كامب ديفيد لم تعد تملك قوة تفرض بها ما تريد، فتوالت عليها المصائب وآخرها المؤامرة على نهر النيل، شريان الحياة في مصر.