البلد الطيب ... وأرض الدماء
خلاصة
الفلسفة الأمريكية السياسية والفكرية الطبقية تقوم على فكرة: (الاستعمار القذر)
الذي يقوم على سرقة الأرض وطرد أصحابها الأصليين أو قتلهم أو تهميشهم؛ بحيث لا يملكون
من خيار سوى القبول بالتنازل للمستعمر.
دعونا نفكر في أصحاب هذه الأسماء التي
عانت في مكة ما عانت، وعانت في البحث عن الحقيقة وفي الالتزام بها أكثر مما عانته
من تعذيب واضطهاد، من قريش وغيرها.
فهذا النبي العظيم الذي عانى من أهل
مكة والطائف أشد المعاناة لدرجة بلغت به حدَّ اللجوء إلى الله خالقه يشكو إليه ضعف
قوَّته وقلَّة حيلته وهوانه على الناس، ويقول لله: «يا أرحم الراحمين! أنت ربي ورب
المستضعفين... إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدوٍ ملَّكته أمري... إن لم
يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي... ولكن عافيتك هي أوسع لي»[1].
إن هذه الكلمات تعكس الحالة الصعبة
التي وصل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مـوت الســــيدة خديجة - رضي
الله عنها - وعمِّه أبي طالب؛ فأصبح أهل مكة يتحكمون فيه وفي أتباعه
ويذيقونهم صنوف العذاب في كل يوم. فلما لجأ إلى الطائف وجد منهم شرَّ استقبال
وشرَّ معاملة؛ إذ سلطوا عليه سفهاءهم يرمونه بالحجارة.
كان هذا ما انتهى إليه أمر الرسول صلى
الله عليه وسلم حتى بدأت بشائر الفَرَج في بيعَتَي العقبة: الأولى والثانية، وجاءت
الهجرة، فهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مهدَّد بالقتل، تلاحقه قريش وترصد
الجوائز من أجل الإمساك به حيّاً أو ميتاً.
هذا النبي المعذَّب من قِبَل قومه،
والمطارَد في هجرته بعيداً عنهم، واللاجئ إلى أهل يثرب، وهؤلاء العظماء الذين
استقبلوه في يثرب أروع استقبال... هذا النبي صلى الله عليه وسلم سوف يؤسس في
المدينة التي هاجر إليها دولة (عقيدة وفكرة) وسيراسل من هذه المدينة الصغيرة ملوك
العالم عارضاً عليهم الإسلام؛ مع أن الفرق بينه وبينهم في القوة المادية فرق عظيم
وكبير.
وهذا صهيب الرومي الذي هاجر من مكة
فطارده أهلها؛ ليمنعوه من الهجرة، وقالوا له: جئتنا صعلوكاً فقيراً والآن تهاجر
بمالك، فساوَمَهم على أن يدلَّهم على ماله، ويتركوه يهاجر، فصدَّقوه؛ لأنهم يعلمون
أن أصحاب محمد لا يكذبون، كما أن إمام المتقين محمداً كانت عنده أمانات لأعدائه
فأمر علي بن أبي طالب أن يرد الأمانات إلى أهلها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعثه
الله ليتمم مكارم الأخلاق... فهكذا كانت هجرة الرسول، وهكذا كانت هجرة صاحبه صهيب
الــرومي الــذي ترك لهم كل ماله ودخل المدينة بلا مال، فاستقـــبله الرســول صلى
الله عليه وسلم، وقال له: «يا أبا يحيى! ربح البيع»[2]؛ لأنـه آثر الصـدق واشترى دينه بكل
ماله.
أما صاحبنا (بلال الحبشي) الذي كان
عبــداً وحـــرره أبو بكر، ونال من التعذيب قدراً أرهق حتى الذين يعذِّبونه ففرحوا
عندما عرض أبو بكـر أن يشتريه. هذا العبد الحبشي الذي كان يُلقـى على رمـال
الصحـراء الحارة ويوضع الحجر على بطنه، ويسـاوَم علـى دينه، فيقول: «أحدٌ أحد فردٌ
صمد» حتى يئس معذِّبوه منه وتعبوا فباعوه. هذا العبد الذي أعتقه أبو بكر سيصبح
واحداً من هؤلاء الذين يصنعون الدولة والحضارة في (يثرب)، تلك التي أصبحت (مدينة)
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وقل مثل ذلك في زيد بن حارثة الذي
دخل مكة عبداً وأعتقه الرسول صلى الله عليه وسلم وتبنَّاه (وذلك قبل إلغاء
التبنِّي إسلامياً) بعد أن رفض العودة لوالده وعمه، وقال للرسول: (أنت الوالد
والعم) هذا الصحابي سيصبح أيضاً واحداً من بُنَاة دولة الإسلام في المدينة.
- وكذلك (مصعب بن عمير) الذي آثر
الفقر على ثراء أمه، والذي أصبح أشهر داعية، وسفيراً للإسلام، غدا واحداً من
العظماء الذين قامت على أكتافهم دولة الإسلام في المدينة.
- وأما صاحبنا (سلمان الفارسي) الذي
ظل يبحث عن الدين الحق، وينتقل من بلدٍ إلـى بلد حتى دلَّه أحد الرهبان على يثرب،
وقال له: إن نبياً من بني إسماعيل سيظهر في هذه المـدينة قد حان وقتـه، فجاء
إليهـا ينتظـر لقـاء هذا النبي لينضـم إلى بُنَاة هذه المدينة، قاعدة الحضارة
الإسلامية العالمية.
سـرعان ما يصبـح سـلمان الفارسي -
مَثَله مَثَل بلال الحبشي، وصهيب الرومي - واحداً من بُنَاة الدولة والحضارة
الإسلامية في المدينة.
لقد خرج المهاجرون من مكة في جُنْح
الليل خوفاً من الملاحقة تاركين دُورهم وعقاراتهم لأعدائهم المتربصين بهم في مكة
وجاؤوا إلى إخوانهم (أهل المدينة) من الأوس والخزرج وهم الأنصار، لا يدرون كيف
سيستقبلونهم وهم على هذه الحالة من الفقر والضعف، لكنهم فوجئوا بموقف إخوانهم
الأنصار (أوسهم وخزرجهم) الذين صارت قلوبهم ملائكية بالإيمان؛ فأصبحوا أزكى
قلوباً، وأبعد الناس عن الأَثَرة والأنانية والعنصرية: {يُحِبُّونَ
مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
وعقد الرسول صلى الله عليه وسلم بين
المهاجرين الفقراء الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله
ورضواناً وينصرون الله ورسوله، وبين إخوانهم الأنصار عَقْد (المؤاخاة) التي جعلتهم
في المدينة نسيجاً واحداً يقوم على الحب والتكافل والإخلاص لله ولرسوله، ومن هؤلاء
المهاجرين وأولئك الأنصار ظهرت دولة العقيدة الناشئة التي ستمتد بأغصانها وفروعها
إلى كل بلاد العالم.
إنها دولة تقوم على الدفاع لا على الهجوم،
وكل ما تطمح إليه أن يفتح الناس أبوابهم وبلادهم للتعرف عليها، وبعد ذلك من حقِّهم
أن يرفضوها أو يقبلوها؛ لأنه من أصول الدين الذي أرسله الله إليهم: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ} [البقرة: 256]، {فَمَن شَاءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}. [الكهف: 29]
وهي دولة تسعى إلى السلام دائماً ولو كان فيه بعض الإجحاف، كما فعلت في صلح
الحديبية.
- ولم تلبث هذه القلة المؤمنة التي
ساحت في الأرض وهي تحمل أخلاق الإسلام وقيَمه وعقيدته السمحة ورسالته الإنسانية،
وتنشر العدل والحب والسلام، لم تلبث أن نجحت - بالمبادئ التي قدَّمتها للإنسانية -
في أن تجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً عن رضا واقتناع وحب، ولم تلبث هذه
القلة أن مكَّن الله لها في الأرض؛ لتقيم الصلاة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر
وتفرض العدل، وتنشر الإيمان بالله ورسوله عبر كل بلاد العالم.
الإمبراطورية
الأمريكية: الميلاد والمسيرة:
تلك هي قصة قيام الدولة الإسلامية
والحضارة الإسلامية؛ فكيف كانت قصة (قيام الإمبراطورية الأمريكية) التي ما جنى
العالم منها خيراً قط؟ حتى التكنولوجيا التي تفوَّقت فيها، جعلتها بلاءً على
العالم، وأبادت بها شعوباً وكانت أول قوة في التاريخ تستعمل القنابل الذرية.
لقد قامت أمريكا منذ بدايتها ونشأتها
على هجرة مجرمين: من خريجي السجون وقُطَّاع الطرق والمحكوم عليهم بأحكام قضائية في
بريطانيا وغيرها، فضلاً عن الطامحين الباحثين عن الثروة والمال؛ حتى لو كان ذلك بأسوأ
الطرق.
وإذا كنا قد أشرنا - بكثير من الإيجاز
- إلى ظروف نشأة الدولة الإسلامية، وإلى العناصر التي قامت عليها: من أحرارٍ
ضحَّوْا بكل شيء، وهم المهاجرون، ومن عبيدٍ ذاقوا الأمرَّين حتى وجدوا مدينة
الكرامة والحرية والعبودية لله وحده، ومن أنصار أحبُّوا مَنْ هاجر إليهم وآثروهم
وعقدوا معهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (عقد المؤاخاة)، وكانوا يلتقون
جميعاً خمس مرات في كل يوم، يصلون لله وحده في المسجد الذي أقامه الرسول دعامةً
أساسيةً من دعائم الدولة.
إذا كنا - كما ذكرت - قد أشرنا إلى
هذه البداية لدولة الإسلام في المدينة، فمن الضروري أن نتحدث بشيء من التفصيل عن
بداية مسيرة الإمبراطورية الأمريكية التي تعاني منها البشرية أشدَّ المعاناة منذ
نشأت وقامت وحتى اليوم.
بدأ ميلاد أمريكا وظهورها على مسرح
التاريخ عندما نجح البرتغاليون في ميادين الكشوف الجغرافية؛ فتمكن الملاَّح
البرتغالي (أمريكو فيسبوتشي) عام 1497م من القيام برحلات عديدة أوصلته إلى
البرازيل في أمريكا الجنوبية.
وخلال الفترة من عام 1492 إلى عام
1504 اكتشف (كولمبس) في رحلاته الأربع جزر البهاما، وجزر هايتي، وكوبا، وجامايكا،
والساحل الشرقي لأمريكا الوسطى، والساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية.
وبقي كولمبس طول حياته (ومعاصروه
كذلك) يجهلون أنهم اكتشفوا عالماً جديداً. هو: أمريكا.
اسم أمريكا:
مهما يكن من أمر؛ فإن اسم (أمريكا)
أُطلِق على هذا العالم الجديد؛ نسبة إلى العالِم (أمريكو فيسبوتشي) الذي استطاع أن
يكتشف ساحل البرازيل، وأخذ بعد عودته إلى أوروبا ينشر أخبار سفره بالكتابة عنها
حتى طغت شهرته على شهرة كولمبس.
الطبقات:
كانت طبقة رجال الأعمال هي الصفوة في
مجتمع قِوامه التملك، ولم تستطع أن تتحداها طبقة أخرى.
وكانت الأرستقراطية الصناعية الأمريكية من أعنف الأرستقراطيات التي ظهرت في
العالم، ولكنها في الوقت نفسه من أشدِّها انطواءً على الذات، وفي الإمكان التنبؤ
بأن هذا يسيء للديمقراطية في المستقبل وقد يقضي عليها.
وفي مقابل الطبقة الأرستقراطية ثمَّة
تناقض مشابه يسود طغمة الغوغاء الصغيرة بالرغم من أنهم يعتبرون أنفسهم جزءاً من
الأغلبية الأمريكية، لكنهم يتحدثون ويتصرفون كما لو كانوا هم أنفسهم الأقلية
الضحية؛ وذلك بهدف السيطرة على الحياة الأمريكية كلها: مصارفها، ونقاباتها
العمالية، وحكومتها، وكلياتها، ونظامها المدرسي، ووسائل الإعلام الكبيرة فيها،
وهيئتها القضائية، بل حتى محكمتها العليا.
لقد عاشت أمريكا بيتاً منقسماً على
نفسه؛ إذ طالما منعت الأقليات من الوصول بالطرق العادية إلى الكثير من فرص
الاختيار، وكان يحال بينهم وبين عمليات الاختصاص العادية.
وصفحة أمريكا الطبقية السوداء كانت
مفتوحة ومستمرة؛ فالزنوج المخطوفون من إفريقيا والهنود الحمر الذين يخطَّط لإبادتهم،
بقيت سياسة حية مستمرة.
والزنوج مجموعة سلالية هي أوضح في
معالمها عن الأمريكان أنفسهم؛ لأنها منعزلة كالقبيلة الإفريقية التي جاءت منها.
والمأساة الكبرى في أمريكا تتمثل في طبقة الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر).
وخلاصة الفلسفة الأمريكية السياسية
والفكرية الطبقية تقوم على فكرة: (الاستعمار القذر) والاستعمار القذر، هو:
الاستعمار الذي يقوم على سرقة الأرض وطرد أصحابها الأصليين أو قَتْلهم أو تهميشهم؛
بحيث لا يملكون من خِيار سوى القبول بالتنازل للمستعمر والرضى ببقايا الطعام
والشراب؛ فالأرض تُسرَق أو تؤخذ منهم بالقوة، ولذلك أباد البيض في مستعمرتهم
الجديدة نحو عشرين مليون هندي دون أن تطرف لهم عين أو يعانوا من وخزٍ للضمير، ولم
تتوقف فلسفة الإبادة الجماعية الأمريكية؛ تلك التي قضت - تقريباً - على وجود
الهنود الحمر كشعب قائم متمتع بالسيادة على أرضه؛ فهي إذاً فلسفة تتعامل بها
أمريكا من أيامها تلك.
وأمريكا إلى اليوم لم تعترف مطلقاً
بعدد الهنود الحمر الذين تعرَّضوا للإبادات الجماعية والجرائم الإنسانية في
أمريكا. وتمتلئ المقررات الدراسية التي يدرسها الطلاب في المدارس الابتدائية
الأمريكية بآلاف المغالطات التاريخية، وحشدٍ من الأكاذيب التي برعوا في تأليفها عن
حقيقة الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين قبل مجيء الإنسان الأبيض للقارة... وهناك
شهادة لهوارد سيمبون في مقدمة كتابه: (دور الأمراض في التاريخ الأمريكي) يقول
فيها: إن المستعمرين الإنجليز لم يجتاحوا أمريكا بفضل عبقريتهم العصرية، بل كانوا
ينشرون الأوبئة الفتاكة بقصد الإبادة الجماعية؛ حيث برعوا في سياسة العمل بالسخرة
التي طُبِّقت على البقية القليلة الباقية من الهنود الحمر الذين نجوا من تلك
الإبادات، وعلى الزنوج الذين كانوا يسرقونهم بالجملة من قلب إفريقيا، وطبَّقوا
الأساليب غير الإنسانية والمروعة في حق هؤلاء، ومارسوا ضدهم التجويع الإجباري
والترحيل الجماعي، وشتى أساليب تقويض المعنويات. وكان نظام السخرة من أفتك أسلحة
الأوبئة التي نشروها وسط الهنود الحمر.
وذات يوم تحرك الضمير الأمريكي وأراد
إنصاف طبقة العبيد... فرفضت الولايات الجنوبية ذلك، وقامت الحرب الأهلية بين
الشمال والجنوب.
لقد حاولت الولايات الجنوبية الانفصال
عندما أعلن الشماليون رَفْضَهم للرقيق؛ لبشاعة نظام الرق في أمريكا، وهو النظام
القائم على خطف الأفارقة واستعبادهم، فضلاً عن الزنوج والهنود الحمر في أمريكا.
وفي 4 مارس 1861م أعلن الرئيس
الأمريكي (لينكولن) رَفْضَه الاعتراف بالانفصال معتبراً إياه باطلاً من الناحية
القانونية، ولم يقبل الجنوبيون كل المرونة التي أبداها الرئيس (لينكولن)، ومن
ثَمَّ بدأت الحرب الأهلية؛ فعيَّن الرئيس لينكولن (جرانت) قائداً عاماً لقوات
الشمال.
واستطاع القائد الميداني الشمالي
(جرانت) أن يخترق صفوف الجنوبيين ويقضي على كل المقاومة الجنوبية من جورجيا إلى
الأطلسي.
ومن ثَمَّ بدأت مفاوضات الاستسلام،
وانتهت الحرب الأهلية في مايو 1865م. وقَبْلها بقليل قُتل الرئيس لنكولن على يد
ممثل معتوه وهو يشاهد تمثيلية في مسرح بواشنطن. وبذلك قُضِي من الناحية القانونية
على نظام الرق؛ وإن كانت آثاره قد امتدت اجتماعياً وأخلاقياً وتمييزاً عنصرياً حتى
عصر قريب.
استقلال أمريكا:
ولأسباب استفزازية كثيرة من جانب
بريطانيا التي كانت أمريكا تابعة لها اندلعت الحرب بين بريطانيا والولايات الأمريكية
عام 1775م وهي ما تسمى بـ: (حرب الاستقلال).وفي العاشر من مايو من ذلك العام اجتمع
الكونجرس الأمريكي وقرر إنشاء جيش أمريكي موحَّد من كل الولايات التي اشتركت في
المؤتمر.
وفي 4 يوليو 1776م صدر إعلان
(الاستقلال) عن بريطانيا الذي دبَّجه قلم (توماس جيفرسون) موقَّعاً عليه من
الولايات الإثنتي عشرة الحاضرة، وقامت حروب بين الطرفين انتهت بهزيمة بريطانيا
وانتصار أمريكا.
ومن ثَمَّ بدأت المفاوضات مع بريطانيا على أساس الاعتراف باستقلال أمريكا من غير
قيد أو شرط، وتَبِع ذلك مفاوضات الحدود ومصائد الأسماك، والديون الإنجليزية، ثم
وُقِّعت الهدنة بين أمريكا وإنجلترا في 20 يناير 1782م، وبعد الظفر بالاستقلال
وضعت أمريكا أنظمة جديدة لأمة مستقلة ذات حكومة مركزية.
وكان دليل العمل يقُوم على (مبدأ
مونرو) الذي يقضي بتفرُّغ الولايات المتحدة للنَّظر في قضاياها الداخلية، وعدم
السماح لأحد بالتدخل في شؤونها، وكذلك عدم تدخُّلها في شؤون الآخرين.
أمريكا والحضارة
الحديثة:
عندما نُطِل على العشرينيات من القرن
الماضي، سنجد أن أمريكا لم تعد الدولة المنعزلة؛ فقد انتهت مبادئ (مونرو) وبدأت
أمريكا تبرز كقوة أولى؛ وبعد أن كانت تابعة لبريطانيا، أصبحـت بريطـانيا تقف في
الظـل خلـف أمريكا، بل أصبحت أوروبا كلها مـا عدا ألمـانيا في حاجة إلى أمريكا،
مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
وبما أن أمريكا لا تعرف العواطف؛ فقد
ساعدت هذه الدول على حساب الاستعمار القديم، وعلى رأسه الاستعمار البريطاني
والفرنسي والإسباني... وغيرهم، وبدأت أمريكا تشعر بقوَّتها العالمية، وبأنها فوق
الجميع.
ولِمَ لا؛ وهي النصير الأكبر لأوروبا
في الحربين العالميتين:الأولى والثانية؟
ولئن كانت قد دخلت الحرب الأولى في
نهايتها بعد عِلْمها بتحريض الألمان للمكسيك بمهاجمة أمريكا، وكانت نتائج الحرب
بين قتيل وجريح تقترب من عشرين مليوناً. أما الحرب الثانية، فكانت نتائجها 62
مليون قتيل، وتكلفت تريليون دولار أمريكي، بمشاركة نحو مليون جندي.
- ولأول مرة، وبدون أية أسباب
معقولة، استعملت القنابل الذرية في تدمير (هيروشيما ونكازاكي)؛ مع أن اليابان كانت
قد استسلمت.
- وكانت البضائع والصناعات
الأمريكية قد أصبحت الأكثر انتشاراً في العالم، ولم يكن هناك منافس لأمريكا في
الازدهار الصناعي والزراعي والتجاري؛ فهي الأغلى والأعلى والأَرْوَج.
ومع نهاية الحرب، كانت أمريكا قد بدأت
سياسة جديدة، وهي: سياسة السيطرة على العالم، والدخول في معارك ضارية؛ من
أَبْرَزها معاركها في فيتنام التي قتلت فيها أمريكا مليوني فيتنامي، وكذلك الحرب
الكورية، وأيضاً الفلبين عندما طردت الإسبان منها... وأخيراً أفغانستان والعراق،
وفلسطين من خلال اليهود، والصومال من خلال الأحباش.
مما لا شك فيه أن أمريكا كانت السباقة
- ما عدا جاجارين الروسي - والأقدر في استغلال الفضاء، كما أنها رزأت البشرية
بأبشع وسائل الإبادة، وكانت سباقة فيها بطريقة جنونية. ولم تترك أمريكا شيئاً إلا
أبدعت فيه، لكن الميزان اختل في يدها؛ فقد اعتمدت ميزان القوة وتركت ميزان الحق
والعدل والرحمة؛ حتى وهي تنادي بحقوق الإنسان ومحكمة العدل والجنايات ومقاومة
الإرهاب، كانت تتاجر بهذه الشعارات.
إن حضـــارة أمريكا المعاصرة موصولة
بحضارتها القديمة، بعصـــر إبادة الهنود الحمر وعشرة ملايين إفريقي زنجي وإبادة
مليونـــي فيتنـــامي، ثم إبادة ثلاثة ملايين إنسان في العراق وأفغانستان
بقيـــادة مجــرم واحـــد اسمه: بوش.
أمريكا شؤم في البداية
وشؤم في النهاية:
قبل أن نبدأ في الحديث عن نهاية
أمريكا، نُذكِّر بما قلناه عن الدولة والحضارة الإسلامية، وكيف أنها قامت على الحب
والرحمة والتكافل بين العبيد والأحرار، والمهاجرين والأنصار، وكيف كانت أستاذاً
وقدوة للبشرية في الأخلاق والعفو والتسامح، حتى دخل الناس خلال القرون أفواجاً في
الإسلام.
فهي أمة الرحمة التي وصف الله النبي
المرسل إليها بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
لكن أمريكا قامت على أشلاء أكثر من
عشرين مليوناً من الهنود الحمر الذين تعرَّضوا للإبادة بوحشية، وعلى أشلاء عشرين
مليون إفريقي مات نصفهم في المحيطات، ووصل النصف كعبيد؛ بعد أن خُطفوا من إفريقيا
السوداء.
وقد دخل الأمريكان الجدد الهاربون من
بريطانيا وأوروبا مع وطنهم الأصلي (بريطانيا) في حرب ضارية انتهت باستقلالهم، ثم
دخلوا في حرب دامية بين شمالهم وجنوبهم من أجل تحرير الرقيق الذين فاق ظلمهم كل
الحدود.
وبعد خروج أمريكا من مرحلة العُزلةَ
التي فرضتها مبادئ «مونرو» دخلت الحربين العالميتين: الأولى والثانية.وظلت تعربد
في العالم إلى أن ظهر (بوش الابن)؛ فكان أحطَّ رئيس أمريكي في القرن العشرين،
وبلغت وحشيَّته عندما اخترع بالتعاون مع اليهود ومع بعض أجنحة المخابرات حادث
الحادي عشر من سبتمبر 2001م ليعلن بعده - من غير أي تحقيق - حرباً صليبية على كل
المسلمين؛ فصار كل مسلم إرهابياً؛ حتى في داخل أمريكا وظهرت عشرات الكتب باللغات
الأجنبية تكشف (لعبة سبتمبر القـذرة)، والأهم أنه بعد هذه (اللعبة القذرة) استطاع
(بوش الابن) أن يقتل ثلاثة ملايين مسلم في أفغانستان والعراق.
لقد قام الطيران الأمريكي والبريطاني
في أفغانستان بأكثر من (4700) طلعة أسقط خلالها (12000) قنبلة تحتوي على
اليورانيوم المنضَّب الذي كان سبباً في حدوث تلوُّث هائل في أفغانستان، وتم قتل
أكثر من (10.000 مقاتل) وتشريد ستة ملايين مدني خارج أفغانستان، يتعرضون للموت
والجوع، وتشريد (مليون مدني) داخل أفغانستان، وتم قتل الأسرى بالجملة؛ فقد قُتِل (600)
أسير في قلعة جانجي في يوم واحد، وحُمِل معتقلون كثيرون من المسلمين إلى قواعد
عسكرية أمريكية خارج أمريكا وحُرِموا من كل الحقوق الإنسانية؛ حتى من حق الدفاع عن
أنفسهم بواسطة محامين... وقد سُجِّلت (60.000) ألف حادثة عنف ضد المسلمين في
أمريكا خلال السنة التالية لأسطورة سبتمبـــر أو لعبة سبتمبر القذرة.
وما جرى لأفغانستان جرى مثله -
تقريباً - في العراق وقد سكتت أمريكا عن قَتْل مائة ألف قتيل في البوسنة والهرسك
وعن (مائة ألف) مُعتَقَل ظلماً وعن (أربعين ألف) معتقلة اغتُصِبَت الكثيرات منهن،
وعن (400.000) أصبحوا بلا مأوى يعيشون في درجة برودة تصل إلى 30 درجة تحت الصفر،
ومليون ونصف مليون مشرَّد.
واستمـــر ذلك حتى رضيت البوسنة
بأقلِّ ما يمكن من الحقـــوق، وكـــان الصرب المغـــرورون قـــد بالغوا كل
المبالغة وتحدَّوا أمريكـــا وأوروبا، بل العالــم كلـــه؛ فتحركت أمريكـــا وأمرتهم
بالتوقف بعد أن تركت لهـــم فرصة ارتكاب كل تلك الجـــرائم التـــي كانت تجري تحت
سمعها وبصرها.
لكن ربك لأمريكا ولكل القوى الظالمة
بالمرصاد.
وكما كانت البداية تعيسة دموية فها هي
أمريكا (التي لم تتراجع يوماً عن هذه السياسة) تبدأ في السقوط، وكما يقول المؤلفان
(هاري فيجي، وجيرالد سوانسون) في كتابهما: «سقوط أمريكا قادم... فمن يوقفه؟»: إن
أمريكا انتهت فعلاً؛ فمنذ سنة 1995م وصلت ديونها إلى أكثر من 56.6 تريليون دولار؛
أي: تسعة أضعاف واردات الضرائب وستصل فوائد الديون إلى 619 مليار دولار... وقد عرض
المؤلفان لبعض مراحل الانهيار الأمريكي؛ فَفي عهد الرئيس جونسون (1964 - 1968م)
بلغ العجز الكلي للسنوات الخمس 44.8 بليون دولار، وفي عهد نيكسـون (1969 - 1974م)
بلـغ العجز الكلي للسنوات الست 67 بليون دولار، وفي عهد (ريغان) (1981 - 1988م)
بلغ العجز الكلي للسنوات الثماني (34.1) تريليون دولار، وفي عهد (بوش الأب) والد
الرئيس الدموي (بوش الابن)، والذي حكم من 1989 - 1992م بلغ العجز الكلي للسنوات
الأربع 40.1 تريليون دولار.
وقد ذكر محمد حسنين هيكل من مصادره
التي ينقل عنها: أن الناتج القومي الأمريكي كله لن يكفي لسداد الفوائد فضلاً عن
الديون في عام (2020م)؛ أي أن الدخل الأمريكي كله في عام (2020م) (أي: بعد عشر
سنوات) سيكون مُلْكاً للدائنين لأمريكا؛ فكأن أمريكا لن تصبح مُلْكاً للأمريكان في
هذا التاريخ.
ومع ذلك فإن أمريكا لا تزال تعالج
الأخطاء بالأخطاء؛ فتركبها الصهيونية وهي تخضع لها، وتعتمد على القوة وحدها، وليس
لديها مساحة للعدل أو الحق أو الرحمة، بل إنها تزداد سرقة ونهباً لثروات شعوب
الأرض، ولا سيما النفط أو المعادن الأخرى، معتمدة على قوَّتها العسكرية، وما زالت
تبدِّد أموالها في حروب لا نهاية لها؛ فقد أعلنت زيادة الميزانية العسكرية في بداية
حربها على أفغانستان؛ فأصبحت (300) مليار دولار سنوياً، مع أن ميزانية الصين
العسكرية - على ضخامتها - تبلغ (40) مليار، وميزانية اليابان العسكرية أيضاً تبلغ
(40) مليار. والصين واليابان دائنتان لأمريكا بمبلغ لا يقل عن 1200 مليار دولار.
لكنه جنون العظمة العسكرية الأمريكية
التي تدفعها - بقيادة الصهيونية لها - إلى الهاوية، وبمساعدة رؤساء مجرمين من
أمثال (بوش الابن) الذي استراح ضميره عندما أعلن الحرب الصليبية على المسلمين وقتل
ثلاثة ملايين مسلم.
أخيراً:
إن التاريخ يعيد نفسه في أمريكا بين
البداية التعيسة حين قامت على أنقاض الهنود الحمر والزنوج المخطوفين، وبين النهاية
الدموية القذرة في الحرب الصليبية المستمرة والظلم الدولي الذي يمارَس على
المسلمين في فلسطين وفي السودان وفي كل مكان؛ حتى في داخل أمريكا.
ورضي الله عن أبطال (دولة المدينة):
من العبيد والأحرار، والمهاجرين والأنصار؛ إنها البلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن
ربه.
أما أمريكا (البلد الذي خَبُث والأرض
التي ازدهرت بالدماء) فنسأل الله لها الهداية، أو الانتقام الشديد، كما انتقم من
عاد وثمود، وما ذلك على الله ببعيد.
وصدق ربنا في قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ
رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}. [الأعراف: 58]
وفي قوله: {وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ} [الأنبياء: 105].
فهيا أيها العباد الصالحون! يا أحفاد (دولة المدينة المنورة)! تهيؤوا لقيادة الأرض
وإنقاذ سفينة الإنسانية.
[1] مجمع الزوائد
للهيثمي.
[2] المعجم الكبير
للطبراني.