المؤسسات الخيرية وصناعة القيمة
السعي للربح، والتنافس عليه، والنزوع إلى
التفوق في الكسب، والحرص على المضاعفة فيه؛ صفات ركيزة في الجبلّة البشرية، وهي من
أصل طبائع الإنسان وأوصافه التي (أصدقها الحارثُ وهمّام)[1]!
والمتأمِّلُ في خطاب القرآن للإنسان في حالتي الحثِّ والزجر، يلحظ هذا الاعتبار؛
ففي الحثِّ يجدُ قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى
مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْـجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ
اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: ١١١]، وقولَه
سبحانه: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:
١١]؛ وفي الزجر يقرأ قوله جلّ مِن قائل: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا
كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، وقوله
تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْـمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى
النَّارِ} [البقرة: 175]...وغيرها من بيّنات.
وفي الأسواق - أياً
كانت - تقوم عُقْدة البيع على طرفين يتراضيان في
سلعةٍ، بائعٍ ومشتري، وخلف هذين الطرفين أحداثٌ مؤثرةٌ غير ظاهرة؛ ففي طرف البائع: جهدٌ
مبذول لجلب السلعة من مصدرها إلى مكان البيع، ومفاصلة مع المورّدين، واستئجار
لمكان البيع، وضرائب، هذا إن كان المبيع سلعة مشتراة، وإن كان مُنتجاً: دخلت
تكاليف الإنتاج كلها. ومع تلك المذكورات، يضع البائع هامشاً من
الربح، ليظهر ذلك كله في ثمن البضاعة.
ومن طرف المشتري: تقديره
لجدوى السلعة، ومناسبتها، وجودتها، وخلفياته السابقة عن مثيلاتها، إلى جوار كلفة
الوقت الذي يبذله مع البائع، والمجهود البدني في الانتقال، والذهني في المقارنة
بين بدائل السلع، والكلفة النفسية في التعامل مع بائعين جدد... وغيرها،
ويكون ذلك كله خصماً لديه على قيمة البضاعة، وما بين الثمن والقيمة تدور معارك
الأسواق!
القيمة عند
المشتري
|
هامش ربح
البائع
|
التكاليف
|
إنّ المشتري لا يُقدِم
على دفع الثمن ما لم يشعر - بشكل أو بآخر - أنّ
قيمة السلعة أعلى من ثمنها، وهذا ما يحرص الباعة على إظهاره حينما يجهدون في بيان
محاسن سلعهم، ترويجاً، ودعايةً.. ومع ذلك كله، تظلّ القيمة
أمراً معنوياً يرتفع وينخفض بسرعة، ويلعب مطوّرو الخدمات والسلع في ميدانها غير
المنظور ليضيفوا بعض الإضافات في السلع لتبدو أعلى قيمة من غيرها، أو من سابقاتها.
ولأن قيمة البضاعة تتوزع بين البائع
والمشتري وفي مساحتها، يحصل التفاوض؛ فإن البائع يضغط على المشتري ليزيد هامش
ربحه، ويضغط المشتري ليزيد من القيمة بتقليل هامش ربح البائع، ويتراضيان في الختام
في منطقة وسيطة يشعر البائع فيها أنه غطى التكاليف وحصل على هامش مرضٍ، ويشعر
المشتري أن قيمة ما اشتراه أعلى مما دفعه من ثمن، وإنما البيع تراضٍ!
وبعد..!
فكانت هذه المقدّمة - الطويلة - مهمة
في تقديري لمدخل هذا الموضوع، حيث يمارس المتبرع وأصحاب المؤسسات الخيرية نمطاً من
التبايع تتداخل فيه القيَم مع الأثمان والتكاليف.
وفي هذه الحالة يمثّل المتبرع: المشتري
الذي يدفع (ثمناً) للمؤسسة
الخيرية رجاءَ الحصول على (قيمة) أعلى
مما دفعه من خلال ما ستعطيه المؤسسة الخيرية من بضاعة تتمثل في خدمتها التي
تقدمها، ووضعها أمواله في مواضعها الصحيحة. واليوم،
المتبرعون قلّة، والمؤسسات التي تتلقى الدعم كثيرة، ما يعني ضرورة أن تتفهم
المؤسسات الخيرية معادلة الثمن والقيمة آنفة الذكر لتربح!
وإن أي مشتر - بمن
في ذلك المتبرعون - ينظرون إلى حزمة من المنافع التي تشكل لهم
في نهاية الأمر قيمة أعلى للسلعة، وهي: قيمة المنتج، وقيمة
الخدمة، وقيمة المكانة الذهنية[2]،
وهذه تكاد تطّرد.
أولاً: قيمة
المنتَج
إنّ عدّة أمور تصنع للمنتَج قيمته من حيث
خصائصه المادية التي تتضمن المتانة والجمال والجودة، أو من حيث خصائصه المعنوية
المتضمنة سعره، أو إمكانية توفّره في الوقت المطلوب... وغير
ذلك، ولا تبعد حالة المنتجات الخدمية في مؤسساتنا الخيرية عن هذا الأمر كثيراً؛
فمنتجها الذي تقدّمه هو خدمة تتمثل في إيصال دعم المتبرع إلى محلّه، لكن يبرز سؤال
مهم، وهو: كيف يمكن للمؤسسة الخيرية أن تجعل لهذه
الخدمة قيمة لدى المتبرع؟ يبدو أن المؤسسة تحتاج إلى أن تعمل في اتجاهين، الأول
منهما: إبراز قيمة الإنفاق أساساً من حيث هو دافع
للمتبرّع لدفع الثمن، ولا شك في أن تحدياً جماً يبرز حينما نقارب بين طرق تسويق
هذه الفكرة مع الطرق المستخدمة في تسويق الخدمات التي جبل على حبها الإنسان
بفطرته، من سلع ومشتريات، إذن كيف سيشعر المانح بقيمة الإنفاق عندما يدفع ثمناً
حاضراً من درهم أو دينار؟ إن المتأمل في خطاب القرآن للحث على اﻹنفاق واستشعار
قيمته يجد معالم واضحة ﻹبراز القيمة في الدارين، وفي هذا حكمة بالغة تراعي حبّ
الإنسان للعاجلة، ومن هذه المعالم أنه:
يقابل الإنفاق أمنٌ واطمئنان: {الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا
مَنًّا وَلا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: ٢٦٢]،
ومن ذلك قول نبيّنا صلى الله عليه وسلم: (صنائع المعروف تقي مصارع
السوء والآفات والهلكات)[3].
يقابل الإنفاق اليسير العاجل ربح عظيم آجل،
وهذه صفقة لا يفوّتها تاجر: {مَثَلُ الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِـمَن
يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]،
{وَمَثَلُ
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً
مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ
أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]،
والمترسم لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في
التحضيض على الأنفاق والتصريح بالبديل القيّم مباشرة: (مَن
يشتري بئرَ رومةَ فيجعلَ دلوَهُ معَ دلاءِ المسلمينَ بخيرٍ لَهُ منها في الجنَّة)[4]، (من
بنى مسجِداً كمَفْحَصِ قطاةٍ أو أصغرَ بنَى اللَّهُ لهُ بَيتاً في الجنَّةِ)[5]؛
يلحظ أنها عوامل ضرورية في التحضيض والحثّ.
يختلف الإنفاق في سبيل الله عمّا يألفه
الناس في الإنفاق على مألوفاتهم التي تفنى، وسرعان ما تزول قيمتها، أما الإنفاق في
سبيل الله فمتعةٌ روحيةٌ جليلة قلما تدانيها متعة، مع ثمنٍ باقٍ مستوفىً كاملاً،
وهذا على غير معهود الإنفاق على حاجيات الدنيا: {وَمَا
تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا
تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]،
وقول الحقّ سبحانه: {قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِـمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ
فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
يكفي المنفقين شرفاً وعزاً أن الربّ سبحانه
دلل على ربوبيته وقدرته في مقابل عجز ما يُدعى من دونه بمثل من ينفق ومن لا يستطيع: {ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن
رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ
يَسْتَوُونَ الْـحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75].
وغير ذلك من شواهد ودلالات.. وإن
تعزيز هذا الاتجاه يمثّل مسؤولية أخلاقية من المؤسسات الخيريّة كلها تجاه روح
الإنفاق التي إن سرت في المجتمع تطهّر وتزكى.
والاتجاه الثاني الذي ستحتاج المؤسسة إلى
السير فيه بالتوازي مع الأوّل، هو إظهار استحقاقها دعم المانح من خلال جودة أدائها
وتفوقها، وسيمثل هذا الاتجاه باباً للتنافس على الخير فيما بينها، ومما يمكن طرحه
في هذا الاتجاه:
1 - إظهار الشراكة:
يستبدل العاملون في القطاع الربحي كلمةَ
الثمن بالاستثمار، ليُشعروا المتعامل أنّه مستثمر على الحقيقة حينما يأخذ قيمة
خدمتهم بالثمن الذي يدفع به، ومما يعظّم من شأن القيمة لدى المانح إدراكه أهمية
دور المؤسسة الخيرية في إيصال ماله إلى محلّ استحقاقه، وأنهم يُثمرونه له ويسهمون
في نمائه؛ إخلافاً في الدنيا وأجراً في الآخرة، وهو ما يجب على المؤسسة إعلاؤه
والتركيز عليه، وإشعار المانح بكل الطرق أنها تبذل من وقت وعلاقات وجهد بدنيّ
وتحمل للمخاطر في سبيل تحقيق الغايات، مثل ما يبذل هو من مال، دونما منّ ولا أذىً،
فالمؤسسة والمانح شركاء في الأجر إن شاء الله إن خلصت النوايا.
2 - تبني فلسفة الإتقان:
ويظهر هذا الأمر عملياً في تحسين المؤسسة
عملياتها التي تقدّم بها الخدمة، وظهور المهنية والاحتراف في أدائها، ما سيسهم
بالطبع في نمط مميّز للأداء، ويمكن اعتبار القضايا التالية في هذا الاتجاه:
تبني المؤسسة منهجاً من مناهج الجودة في
عملياتها، واليوم صار للمنظمات غير الربحية والخيريّة مناهج خاصّة بها[6].
مطابقة أوصاف الخدمات التي تعهدت بها
المؤسسة مع ما خطط له واتفق عليه مع المانح، كأشكال المساجد ومتانتها أو سعة
الدُّور، أو نوعية الموادّ التعليمية المقدّمة. ويا
حسنَ ما تصنعه بعض المؤسسات من توفير تقرير دوري للمانحين يظهر درجات المطابقة تلك!
إبراز رأي المستفيدين المباشرين عن المنتج
أو الخدمة التي تبرع بها المانح، ومناسبة البرامج التي قدّمها وأثرها، والتحسينات
التي أدخلتها المؤسسة على خدماتها لتلبية احتياجات مستفيديها، وغير ذلك، وإن ذلك
محرّضٌ قويٌّ لإنفاق مستمرّ.
3 - تقليل هيكل التكلفة:
من مكامن قيمة الشيء قدرتُه على أداء دوره
بكفاءة وبحسب ما يراد منه، وبأقل كلفة ممكنة، لذلك فإن أي زيادة في الوظائف أو العناصر
التي لا تحتاج إليها المؤسسة تزيد في التكلفة، ما يعني انخفاض القيمة؛ لأن المبلغ
المدفوع سيكون – عند عدم الحاجة - أعلى
من المردود. وإذا أخذنا في الحسبان أن جزءاً من المبالغ
المدفوعة للمؤسسة من المتبرع يدخل في مصروفاتها الإدارية الأساسية؛ فإن من الذكاء
أن تعمد المؤسسة الخيرية إلى تقليل هيكل التكلفة قدر المستطاع، ونعني بذلك أن
تعتمد أقل قدر ممكن من المصاريف لقاء تقديم الخدمة، ولا يجب أن يدعو هذا الأمرُ
إلى تقليل مستوى الكفاءة الجوهرية التي يختار على أساسها العاملون، والحاصل هنا أن
بعض المديرين يتضارب عنده الحسّ الخيري العاجل مع المصلحة المرتقبة الآجلة، فيعمد
إلى تعيين عددٍ من المعوزين والمحتاجين لتحتضنهم المؤسسة الخيرية، فهم أولى
بالمعروف في تقديره! غير أنه بذلك يقلل من “ربحية” المؤسسة
الخيرية على المدى الطويل، حيث ستقدم الخدمة للمانح بكلفة هيكلية عالية، ومهارة
منخفضة، فلو افترضنا مؤسسة خيرية أحد مخرجاتها: كيس
الصائم الذي يكلف 10 دولارات، وكلفة ترحيله 5 دولارات،
فعينت موظفاً للترحيل، وخصمت بالطبع راتبه من تكلفة الكيس، ووظفت ثانياً، وثالثاً،
إلى أن تصير مكونات الكيس الفعلية ثلاثة دولارات، وترحيله بخمسة دولارات، وتخسر 7 دولارات
في هيكل التكاليف، حيث كان من الممكن أن تدخل هذه التكاليف في تجويد الخدمة
الأساسية، هذا إن لم نحسب تكاليف التدريب والزمن المستغرق لتتحول هذه العمالة
الجديدة إلى عمالة ماهرة!
ثانياً: قيمة
الخدمة
إلى جوار الخدمة الأساسية التي تقدمها
المؤسسات الخيرية للمانحين، فإن هناك جملة من الخدمات المساندة التي لو استطاعت
المؤسسة توفيتها، ضمنت بإذن الله مزيداً من تدفق المتبرعين، الذين سيشعرون بقيمة
ما تقدمه المؤسسة لهم، ومن هذه الخدمات:
1
- التواصل والمعلومات:
يحتاج المتبرعون إلى توفير معلومات حول ما
يمكنهم دعمه والاستثمار فيه، مقدّمةً بلغة تجمع ما بين الدقّة في الوصف وتحريك
الهمم تجاه الحاجة قيد الطلب، والمؤسسة التي توفّر خيارات متعدّدة للمتبرع تضمن
بإذن الله إشباع حاجته. ومن جانب آخر، يحتاج
المتبرعون باستمرار إلى معرفة آثار برامجهم، وتلمّس عاجل البشرى من سدّ رمق، أو
سقي عطش، أو تعليم يتيم، وعلى المؤسسات أن تحرص على الدوام على تقديم خلاصات مع
شكرٍ للمانح، ليزداد دعمه. وتنسى بعض المؤسسات أن
تتواصل مع المتبرعين الذين قدّموا أعمالاً في فترات سابقة، وإنّ كثيراً من
المانحين يورثون جبلة الخير هذه لأبنائهم، ولعلّ تقريراً بعد سنوات عشر - على
سبيل المثال - للمتبرع أو لأبنائه، يبيّن لهم إثمار العمل
الذي غرسوه، وإلى أي درجة تحافظ المؤسسة الخيرية عليه من صيانة مستمرة وتعهّد
دائم؛ يحدث أثراً فاعلاً إن شاء الله.
2
- الحماية:
إن خدمة الحماية التي توفرها الشركات الربحيّة
لمستفيدها من حيث حفاظها على سرية المعاملات والبيانات وتقديم العميل المستمر على
غيره وخدمات الضمان الذي يحمي بالضرورة موارد العميل؛ تعدُّ خدمات متصاعدة في
التسويق، ولعل تطوير هذه الخدمة في المجال الخيري سيحدث تطوراً في العمل ككل،
ويضيف قيمةً حقيقيةً لدى المانحين، لا سيما في عصر صار الدعم الخيري فيه مدعاةً
للرقابة والتشديد. وهو ولا شك مجال يتطلب جهداً قانونياً
وتقنياً مبتكراً. إنّ أولى المطلوبات التي يجب أن تُعنى بها
المؤسسة الخيرية في هذا المجال سلامة مطلوباتها القانونيّة، واتساق دعمها الذي
تقدّمه مع احتياج المجتمع الذي تعمل فيه، ولعلّنا نشير في هذه الجزئية إلى أهمية
إعداد دراسات الجدوى وتصوّرات المشروعات باحترافية، حيثُ تتضمن بشكل تلقائيّ الأثر
التنمويّ للمشروع أو البرنامج، وهو أمرٌ تحتاج إليه الدول والحكومات كافّة لتعزيز
شراكة القطاع الخيريّ مع القطاع الحكوميّ، وهو كذلك مما يؤمّن ويحمي المانحين من
أنْ يفسّر تمويلهم خارج سياقه.
3
- الاستشارات:
من الخدمات التي تندر في مجال المؤسسات
الخيرية خدمة الاستشارات، رغم احتياج كثير من المتبرعين إليها، ويمكن أن تستفيد
المؤسسة من قاعدة بياناتها في تصدير خدمة استشارية متميزة، وإلى جوار كونها خدمة
يستفيد منها المتبرّع، فإنها تمثّل كذلك إسهاماً كبيراً في إحداث تحوّل في المجال
الخيريّ. على سبيل المثال: قد
يحتاج المتبرّع إلى مجموعة من المتطوعين لبرنامج ما، من هم المتطوعون المناسبون
لهذه المهمة، وكيف يمكنه التواصل معهم، وما متطلبات هذا العمل؟ كما يحتاج بعض
المتبرعين إلى معلوماتٍ متخصصة عن مناطق بعينها، ونسب المسلمين فيها، أو
الاحتياجات الملحة، أو حتى أوجه الخير، أيها أعظم نفعاً، وغيرها من أمور يمكن
للمؤسسات أن تقدم فيها خدمات استشارية للمانحين.
ثالثاً:
تعزيز الصورة الذهنية للمؤسسة لدى المتبرعين
ينجذبُ كلُّنا إلى الموثوقية وإلى الجهات
التي نشعر أننا فخورون حينما نتعامل معها. إنّ
المؤسسة الخيرية لا تقل في احتياجها إلى ما تتعزز به صورتها الذهنيّة الإيجابية عن
حاجة الشركات، ويمكن تعزيز الصورة الذهنية للمؤسسة الخيرية من خلال ما يلي:
1
- الشعار والرسالة الإعلانية:
رغم أنّه يُنظر إليه كأمرٍ شكليّ، إلا أن
العناية بالشعار والرسالة الإعلانية التي تظهر بها المؤسسة، مهمة جداً في تعزيز
صورةٍ ذهنية إيجابيّة للمؤسسة.
2
- الترويج:
كما يحتاج الباعة إلى الترويج لسلعهم بما
يغري المشترين، فإن المنح السخيّ يتطلب ترويجاً ذكيّاً، ويراعي في ذات الوقت طبيعة
العمل ومسؤولية شروط الواقفين، وإن التذكير المستمرّ والمؤثر بدور الدرهم والدينار
في رفع المكانة لهو هدي نبويّ: (سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ
درهمٍ)[7]، ومن أمثلة ذلك:
أن يصمم المروجون على أغلفة منشورات المشاريع
ما يبتعد عن مكرور الترويج للعمل الخيري، وإن من أجلّ ذلك استنباطها من أحاديث سيد
ولد آدم الذي أُعطي جوامع الكلم، ومن أمثلة ذلك: سابق
بدرهمك..! نمسح عنك رأس اليتيم.. درهم
منك تجد به لينَ فؤادك.. نبلّغ سعيَك.. كتب
الله لك أجر الجهاد في سبيله... وغيرها مما يمكن تأوّله
واستنباطه من كلام سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم في
مجالات الخير.
الاهتمام بالإحصاءات المصوّرة والمصممة بشكل
جذاب في منشورات المؤسسة وتقاريرها وتصوراتها، واليوم صار للبيانات التصوّرية
التفاعلية والتصاميم المعلوماتية التي يطلق عليها إنفوجرافيكس؛ دور مهمّ في إيصال
المعلومات ذات الأبعاد المتعدّدة في شكل واحد جذاب.
أن يُذكر للمانحين مَن أقدموا على دعم
مشروعات المؤسسة ممن يثق فيهم المانحون ويقدّرونهم، ويبرزون لهم تشجيعهم وإسهامهم
في الأمر، فإن من طبيعة الإنسان في مدنيته تأثرَه بمن يجلّ ويقدّر، وعندما نتأمل - من
وجهٍ - تأثيرَ الصديق رضي الله عنه في ستة من
العشرة المبشرين بالجنة، نلحظ ذلك، وهذا بُعد مهم في الترويج.
ختاماً:
ليس خافياً أن المؤسسات الخيرية تتعامل في
إطار لا يخلو من تعقيد حينما تسوّق لقيمة أعمالها، فحينما يلجأ المشتري العادي لشراء
خدمة أو سلعة ما فإنه يستصحب درجة حاجته إلى تلك السلعة، ويبدو أن المؤسسات
الخيرية ستحتاج لأن تلعب دورين في آن واحد: دورٌ
يصنع الحاجة لدى المانح ابتداءً مذكّراً إياه بالنجاح والفلاح المترتب على البذل
والإنفاق، ودورٌ يصنع القيمة للمؤسسة لتكون هي الجديرةُ بدعمه ومنحه، لا سيما في
تلك المشروعات التي لا يظهر الخير المترتب عليها ابتداءً، وهي أدوارٌ يفتقرُ
العامل فيها إلى توفيق كبير من العليّ الكبير، وإخلاص يزيلُ قواطع الطريق، ولله
الأمر كلّه.
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.
[1]
جزء من حديث أبي وهب الجشمي: «أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن،
وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة» صححه الألباني عليه رحمة الله في صحيح
الأدب المفرد برقم 625.
[2] الفكر الاستراتيجي وانعكاساته على نجاح منظمات الأعمال، د.
زكريا الدوري ود. أحمد صالح، دار اليازوري، الطبعة العربية، 2009م، ص: 212.
[3]
الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3795).
[4]
جزءٌ من حديث ثُمامةَ بنِ حزنٍ القُشَيريُّ، صحيح الترمذيّ برقم 3703، وحسنه
الألباني.
[5]
حديث جابر بن عبدالله، الخلاصة للنووي الصفحة أو الرقم: 1/303، وإسناده صحيح.
[6]
ينظر في ذلك : نظم الجودة في المنظمات غير الربحيّة.. المناهج والتطبيقات، عاصم
محمد حسن، المنظمة العربية للتنمية الإدارية، القاهرة 2014م.
[7]
جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، صحيح النسائي برقم : 2526، وحسنه الألباني.