الجغرافيا العسكرية لغزة وأثرها في تطور المقاومة الفلسطينية
الجغرافيا العسكرية.. لمحة عامة
ثمَّة علاقة
جدلية تكاملية بين الجغرافيا والعمل العسكري، أو الجغرافيا العسكرية والعمل
العسكري؛ فالحروب والاعتداءات العسكرية والاجتياحات والاقتحامات، كلها ترتبط إلى حدٍّ
كبيرٍ بالجغرافيا العسكرية وتتوقف على مدى صلاحية المكان المستهدف أو ملاءمته
العمل العسكري.
والجغرافيا
العسكرية، أو جغرافيا الحروب، هي أحد فروع الجغرافيا السياسية، وتهتم أساساً
بالدور الحيوي الذي تلعبه العوامل المكانية والجغرافية في الحروب والنزاعات المسلحة.
وتهتم
الجغرافيا العسكرية بمسائل جيوبولتيكية؛ كخطط المعارك، والتحليل الأرضي
والجيوستراتيجي، والمعدات الحربية والإمكانيات التسليحية.
وتأخذ
الجغرافيا العسكرية في الحسبان عدداً من العوامل هي حتماً في صالح أحد الطرفين
المتحاربين، مثل:
التضاريس والمرتفعات والمنخفضات، والأودية، والأخاديد، والجبال والهضاب،
والمناطق الصحراوية، والمناطق الزراعية وخاصة التي تتمتع بأشجار عالية كالغابات،
والمناطق المستقيمة والملتوية، والمناطق الطولية أو العرضية والدائرية، والمناطق
البحرية أو المغلقة.
ومن المؤكد
أنَّ علاقة الجغرافيا بالحرب قائمة على الحنكة والحكمة لإحراز النصر العسكري
وتحقيق مغانم سياسية واقتصادية لطرف على حساب طرف آخر.
وتكمن أهمية
الجغرافيا العسكرية في كونها تستطيع تحليل المعارك والحروب من حيث: توزيع القوات
المسلحة، وتوزيع الأسلحة لكل قوة أو كتيبة أو فرقة، وقياس قدرات كل فرقة، وبحث
كيفية إمدادات كل فرقة، سواء بالسلاح أو الطعام، والاتصال بهم، وإدارتهم، أو
توجيههم، من خلال غرف العمليات أو غرف التوجيه والتحكم.
واقع الجغرافيا العسكرية لقطاع غزة
في قراءة
سريعة للجغرافيا العسكرية لقطاع غزة، يجدر القول إن قطاع غزة شريط سهلي ساحلي طولي
صغير المساحة ومستوى السطح ويخلو من التضاريس، حيث تبلغ مساحته 365 كم2، ويبلغ طوله 46 كم، فيما
يبلغ متوسط عرضه
7 كم، أي
14 كم كحد أقصى و6
كم كحد أدنى.
ويفتقر قطاع
غزة إلى التضاريس، إذ إنَّه مسطح بري أشبه بالمسطح المائي، سوى بعض المناطق
المرتفعة قليلاً من حي الزيتون والشجاعية وتل الزعتر وجبل الريس، هذا في ضوء أن
هناك الكثير من المناطق «الرخوة» بالمفهوم الاستراتيجي، ولا تصلح لصدّ
العدوان، ومن ثم تشكل عبئاً على المقاومة.. وهذا ما يجعل
المقاومة الفلسطينية تدرك محاذير ومخاطر الانجرار إلى الأرض السهلية التي تتمركز
فيها آليات الاحتلال وترصدها طائراته.
كما يفتقر
القطاع إلى الأخاديد والجبال بالمفهوم الجغرافي، ولا توجد فيه مناطق صحراوية
كصحراء النقب أو سيناء أو غيرهما من الأماكن التي لا تسمح للجيش بالعيش فيها أو
السير فيها راجلاً، أما بخصوص المناطق الزراعية التي يكثر فيها الأشجار فهي نادرة
في هذه الآونة، خاصة بعد تجريف أشجار البرتقال واستبدالها بزراعة الخضراوات طوال
السنوات الأربعين الماضية، فضلاً عن تجريف أشجار الزيتون بواسطة الجرافات
الصهيونية بعد اشتعال انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000م، ولا يوجد
أي من الأشجار المرتفعة إلا شرق مدينة غزة داخل الأراضي المحتلة. ولا توجد في
قطاع غزة مناطق وعرة كما الحال بالنسبة لأحراش يعبد في جنين أو نابلس أو الضفة
الغربية بصفة عامة أو جنوب لبنان.
أمَّا بخصوص
الأودية فهي لا تعدو أن تكون مجرد أخاديد رفيعة لا تمتلئ بالمياه إلا في المواسم،
وعلى أي حال تبقى أودية لا تتمتع بعمق ولا تصلح لأعمال عسكرية؛ لأنها تكون مرصودة
بسلاح الجو الصهيوني.
أمَّا حدود
قطاع غزة فهي الأخرى حدود طولية مستقيمة لا تتمتع بالالتفاف أو الالتواء، ومن ثم
يمكن رصدها من الشمال إلى الجنوب، أو من الشرق إلى الغرب، بسهولة ودون أي عناء.
بدائل المقاومة الفلسطينية
وفي ضوء هذا
الوضع الجغرافي العسكري لقطاع غزة، يكون من غير المجدي توزيع القوات المسلحة ضمن
فرق وتوزيع الأسلحة عليها، ويكون من السهل التعرف إلى قدرات كل فرقة وإمكانياتها
وعددها، وإذا ما تمَّ إمدادها بالدعم اللوجستي يكون من السهل على أجهزة الرصد
المعادية كشفها من خلال الأقمار الصناعية أو طائرات الاستطلاع.
وفي العدوان
الصهيوني الأسبق على قطاع غزة (2008 - 2009)، استطاع الاحتلال كشف قطاع غزة وكأنه
لوحة فسيفسائية مكشوفة أمامه، كما استطاع بفضل وجود السطح المعتدل أن يحرِّك آلته
العسكرية إلى وسط قطاع غزة والتمركز في منطقة مفترق الشهداء جنوب مدينة غزة (مكان مغتصبة
نتساريم سابقاً)، وفصله إلى
جزأين، ومن ثم لم يعد بإمكان أحد أن ينتقل من الجنوب إلى الشمال أو العكس إلا
بتنسيق مسبق بين اللجنة الدولية للصليب الأحمر وقوات الاحتلال المتمركزة هناك. وهذه الحالة
قابلة للتكرار في أي اجتياح صهيوني قادم، إلا إذا تم اتخاذ التدابير اللازمة لمنع
تكرار هكذا حالة.
كل هذه
المعطيات تجعل من قطاع غزة أرضاً غير صالحة عسكرية من منظار الجغرافيا العسكرية
وعلم الاستراتيجية، وهذا الأمر أحد مبررات انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة
في نوفمبر
2005م، مع تأكيد أن كثرة المباني والأزقة والشوارع في القطاع
تأتي في صالح المقاومة الفلسطينية، وهو ما يفسر عدم رغبة الاحتلال الإسرائيلي خوض
حرب شوارع.
وأثناء
عدوانه الأول
(2008 - 2009) على قطاع غزة، قام الجيش الصهيوني بتقطيع غزة لأكثر من
جزء، واعتلى أسطح المنازل؛ ليكشف بذلك غالبية المناطق غير المقام عليها المباني،
إلا أن قواته المدججة بأحدث أنواع الأسلحة لم تستطع اجتياح غزة بالكامل واضطرت
صاغرة أن توقف العدوان من طرف واحد.
وفي ضوء هذا
الواقع الجغرافي العسكري لقطاع غزة، ومع الاستفادة من التجارب العسكرية السابقة
وورشات العمل والحلقات العلمية والكتابات المختلفة؛ كان لزاماً على المقاومة
الفلسطينية أن تغير استراتيجياتها وتكتيكاتها فيما يتعلق بالتعامل مع الكيان
الصهيوني عسكرياً، بحيث تعمل على إيجاد طرق ووسائل وأساليب جديدة لحماية القطاع من
أي عمل عسكري صهيوني؛ وذلك لأن الجغرافيا في غزة فرضت على المقاومة نوعاً صعباً من
التكتيك العسكري.
لقد اجتهدت
المقاومة الفلسطينية في التغلُّب على المشكلة الجغرافية، فاستفادت من تجارب
الاحتلال الصهيوني في مسألة نقل المعركة إلى الخارج كما حدث في حروب: 1956م، 1967م، 1982م، وغيرها،
وهذا ما قاد المقاومة إلى التفكير في عمليات الاقتحامات والإنزال والمهام الخاصة
فيما يطلق عليه مسمى الكوماندوز، أو ما يقابله عند حماس تحت اسم «وحدة الضفادع
البشرية»، حيث
استطاعت حماس أن تختبر إمكانية الاقتحام من خلال المجموعتين اللتين اقتحمتا قاعدة
زيكيم العسكرية في بداية العدوان الحالي (يوليو 2014م).
وبجانب ما
سبق، طوَّرت حماس صواريخها التي كانت بدائية للغاية، فأصبحت الصواريخ تصل إلى 12 كم، ثمَّ
تطورت إلى سجّيل
55 كم، ثم تطورت إلى M75 الذي يصل مداه إلى 75 كم داخل
العمق الصهيوني، وصاروخ J80 الذي يصل مداه إلى 50 - 100 كم، وأخيراً
صاروخ R160
الذي يصل إلى
160 كم؛ وكلها صواريخ صُنِعَت تيمّناً بقادة العمل الإسلامي،
مثل: القسام
والجعبري والرنتيسي والمقادمة، وربما نكون أمام مفاجآت جديدة في الأيام القادمة.
وجدير بالقول
أن هذه الصواريخ غيَّرت حيثيات المعادلة العسكرية الصهيونية، وشكَّلت تهديداً
للأمن القومي الإسرائيلي، وعليه؛ ليس من المستبعد أن يقوم الاحتلال الصهيوني
بإخلاء المغتصبات القائمة في غلاف قطاع غزة حتى تبعدها عن وابل الصواريخ.
واستطاعت
حماس، ولأول مرة وفي تطور غير مسبوق، أن تصنع طائرات حربية دون طيار لتنفيذ مهام
خاصة؛ فالنوع الأول يقوم بمهام الاستطلاع والتصوير والرصد، حيث استطاعت تصوير مقر
وزارة الحرب الصهيونية. والنوع الثاني يقوم بتنفيذ مهام
هجومية انتحارية على غرار ما قامت به المقاومة في أولى سنوات الانتفاضة لكن بواسطة
الجو. أما النوع
الثالث والأخير فهو خاص بمهام القصف وإلقاء الصواريخ كما تفعل طائرات الاستطلاع
الصهيونية من قصف لبعض المواطنين.
وكل تلك
التطورات تأتي في خانة نقل المعركة خارج قطاع غزة من أجل تجنيبه ويلات الحرب، أما
إذا ما تمَّت الحرب، خاصة الاجتياح البري، فستكون حماس مضطرة لاستخدام تكتيكات
ووسائل أخرى، ومن هنا لجأت حماس إلى حفر الأنفاق في أماكن مختلفة من قطاع غزة، ومن
المؤكد أن هذه الأنفاق هي الهم والعائق الأكبر لأي اجتياح بري صهيوني للقطاع. ويتم استخدام
الأنفاق لإطلاق صواريخ تجاه الأراضي المحتلة أو من أجل اصطياد الآليات العسكرية
التي تقوم بعملية الاجتياح.
وفي السياق
نفسه، أبدعت حركة حماس في تجهيز الألغام الأرضية والصواريخ المضادة للآليات
المتحركة من دبابات وجيبات وناقلات جند، وإن كان بعضها مستورداً، مثل صواريخ
الكورنيت. وبإمكان حماس
استخدام الصواريخ المضادة لسلاح الجو الصهيوني من أجل إسقاط الطائرات أو إخراجها
من أجواء غزة. ومن المعلوم
أن الطيران لا يحسم معركة، بل يتم حسم المعركة بواسطة المشاة وبمساعدة من سلاح
الجو، ومن ثم فإن طرد سلاح الجو من سماء المعركة يعني حتماً حدوث حلقة مفقودة لدى
جيش العدو، وهو ما يمكِّن المقاومة من استهداف الآليات المتحركة على الأرض، ومن ثم
تحرز المقاومة انتصاراً لا بأس به.
وأخيراً: رغم ما تمتلك دولة الاحتلال
الصهيوني من عُدّة وعتاد وسلاح بمختلف أنواعه، تمتلك المقاومة أهم سلاح في المعارك
العسكرية، أو أهم عنصر من عناصر تحقيق النصر، ويتمثل هذا السلاح في أنهم أهل إيمان
يقاتلون أهل كفر، وأصحاب حق يطلبون حقهم من ظالم اغتصبه، وهم يطلبون إحدى
الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة، بينما عدوهم يطلب الحياة الدنيا.
:: ملف
خاص بعنوان "غزة تقاوم"
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.