الفنان والنور
نظرت لبنى إلى عيني زوجها تحاول أن
تحلق بعينيها إلى حيث تحلقان.. لكن عبثاً!! فقد بدا بون شاسع بين عالمها المرئي
وعالمه المتلاشي من دنيا الإبصار.. أمسكت بيدي زوجها علّه ينيخ مطاياه حيث يجلسان
في شرفة منزلهما أمام البحر.. همست: إلى أين تنظر؟ ترددت قليلاً ثم أردفت: هل
تراني بوضوح أم...؟ تبعثرت كلماتها مع هبة نسيم البحر.. فالتزمت الصمت من جديد.
عاد زوجها من شروده وابتسم قائلاً: ما
زلت أراك، لكن هذا الكون من حولي! سألته بحنان: هل تستطيع أن تراه؟ أجاب بهدوء:
نوعاً ما، دعيني أصف لك ما أرى: في الأعلى فوق الشرفة بدأت جحافل الظلام تعتلي وجه
السماء، تمسك بأعنة النهار وتمتطي أسرجته.. أمامنا يمتزج اللون الليلكي مع
الأرجواني والقرمزي.. رفع يديه يشير: وهناك بالأفق استقرت الشمس حمراء كندبة في
وجه جريح.. أخذ يسترسل؛ يوشي وينمنم وصفه تارة بجميل الألفاظ وبحور الأوزان، وتارة
يغدق عليها الدافئ من الألوان، كعادته عندما يحمل الفرشاة.. لكن لا شيء مما قال،
فقد كانت السماء ملبدة بالغيوم!
خرجت منها تنهيدة لا إرادية وهي تتأمل
يديه، فلا فرشاة ولا ألوان.. كم هو مؤلم أن تُكبّل هاتان اليدان المبدعتان في سجن
الظلام لا ترى النور ولا تنبض بإحساس الفنان. أشاحت بوجهها عن المساء الكئيب خارج
شرفتهما إلى داخل الغرفة، حيث ترفل بالضوء، ووقعت عيناها على لوحته الأخيرة -
الصمود – التي كان يعدها لافتتاح معرضه الفني الثالث.. لم تكتمل!! وخشيت ألا تكتمل
أبداً.
نظرت إليه من جديد وقالت: نبيل.. لقد
حجزت لك موعداً عند البروفيسور الجراح الإسباني لا غارسيا، فهو في زيارة للبلد من
أجل إجراء بعض العمليات المستعصية.. قطّب جبينه وعبس قائلاً: لبنى.. عدتي من
جديد؟! هل ينبغي علينا الهرولة كلما تناهى إلى مسامعنا اسم طبيب لامع؟! ألم
تسأمي؟! قاطعته: لم ولن أسأم أو أيأس حتى تستعيد كامل بصرك.. أشاح بوجهه إلى حيث
ابتلع المساء ضوء النهار وقال بفتور: أما أنا فلقد سئمت، ولن أذهب لأي طبيب.. ردت
بإصرار: لكن هذا الجراح مختلف، بل هو أفضلهم على الإطلاق، فهو أكبر جراحي العيون
في إسبانيا، وقد أجرى كثيراً من العمليات الميؤوس منها بنجاح.
رد عليها: لا فائدة ترجى منهم.. ألم
يجمعوا شرقاً وغرباً على أن لا أمل في الإبصار من جديد أو حتى الاحتفاظ ببصيص
النور الخافت بين عيني.. ففي كل يوم يتلاشى بصري وأراه قريباً - ربما قريباً جداً
- سيطبق الليل المحاق على ناظري، ولا بد من مواجهة ذلك بواقعية.. قاطعته قائلة:
نعم للواقعية ولا للاستسلام!!
نظر إليها وكأنه يريد أن يستعيد
ملامحها في مثل هذه اللحظات مستنكراً كلماتها: أليست الواقعية أنني تركت فرشاتي
والألوان وانكببت على تعلم لغة برايل؟.. أليست واقعية أنني أتعايش في عالم
المكفوفين رغم امتلاكي بعض خيوط النور؟! لا تقولي استسلام.. فأنا لم أقبع في إحدى
زوايا مرسمي أنعي نجاحاتي ومعارضي ومستقبلي وأكتفي بمشاهدة الآخرين يسايرون عجلة
الحياة سرعة وإنجازاً.
انتابها شعور بالأسف عندما شعرت أنها
جرحت مشاعره فقالت: أنت تعلم حق اليقين أنني لم أقصد ذلك، لكن لا بد من خطوة
للأمام.. قاطعها: أي زوجتي الغالية، أقدر محبتك وعطفك وشفقتك عليّ.. لكن اعلمي
أنني وصلت إلى قناعة لم أجدها على أعتاب الأطباء، ألا وهي: الراحة الحقيقة تكمن في
الرضا بقضاء الله، وأنه لا شيء يعادل «الحمــد لله».
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.