قصة تحرير الرها من الصليبيين
أولاً: الصليبيون في المشرق الإسلامي
تعرّضت الأمة
الإسلامية في أواخر القرن الخامس الهجري/ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، لأول
عدوان عسكري خارجي يغزوها في عقر دارها، ويهدد وجودها ومصيرها؛ ألا وهو عدوان
الفرنجة الصليبيين.. وهم جماعات بشرية عدوانية خرجت من دول مختلفة في غرب أوروبا،
خاصة فرنسا، للاستيلاء على بلاد الشام والجزيرة، والاستيطان فيها، بتحريض من
البابا أوربان الثاني والكنيسة الكاثوليكية، بذريعة تخليص الضريح المقدس في «أرض
المسيح» من أيدي المسلمين (الكفار)، وتأمين وصول الحجاج المسيحيين إلى الأراضي
المقدسة في فلسطين.
وهكذا اندفعت
الجحافل الجرارة لهؤلاء الغزاة تحت راية الصليب، مخترقين شرقي أوروبا، وقطعوا آلاف
الأميال حتى وصلوا إلى الأناضول، حيث نجحوا في إحراز النصر على الأتراك السلاجقة،
أكبر القوى الإسلامية في المشرق الإسلامي إذ ذاك، وذلك في العام 1097، الأمر الذي
فتح أمامهم طريق آسيا الصغرى، ومنها إلى الجزيرة والشام أو «أرض اللبن والعسل»،
بناء على ما هو مدون في كتابهم المقدس.
وقد ردد رجال
الدين الكاثوليك هذا الوصف كثيراً على مسامع عامة النصارى في مدن فرنسا وإيطاليا
وألمانيا، أثناء فترة الدعوة والتحضير لهذه الحملات الغاشمة؛ وذلك لحشد أكبر عدد
ممكن من المقاتلين من مختلف الطبقات والفئات، مع منحهم صكوك الغفران التي يدخلون
بها الجنة - بزعمهم - إن هم قتلوا المسلمين، فكان ذلك حافزاً لكثير من المغامرين
والمرتزقة والمهمّشين واللقطاء واللصوص وغيرهم، للانخراط في هذه الحملات العدوانية
لأجل إشباع رغباتهم وتحقيق أطماعهم الدنيوية في تلك الأرض «الموعودة»، على حساب
أهلها المسلمين، وذلك بجانب العامل الديني الذي ألمحنا إليه سابقاً.
وقد رسم لنا
المؤرخون صوراً مرعبة للمذابح التي ارتكبها الصليبيون بحق المسلمين، وما قاموا به
من سلب ونهب وتخريب وتدمير للمدن الإسلامية التي احتلوها، أو مروا بها، وصولاً إلى
المذبحة الكبرى التي ارتكبوها غداة اقتحامهم مدينة القدس في 23 شعبان 492هـ
الموافق 15 يوليو 1099م، التي راح ضحيتها جل سكان المدينة من المسلمين والمسيحيين
واليهود.
وخلال عدد
قليل من السنوات استطاع الصليبيون أن يستولوا على أجزاء واسعة من مدن وموانئ
وأقاليم بلاد الشام والجزيرة، وأكدوا وجودهم الاستيطاني بإنشاء عديد من الإمارات
الصليبية في أخصب بقاعها وأغناها، مثل: الرها، وإنطاكية، وطرابلس، وبيروت، وعكا،
وصيدا، فضلاً عن مستعمرتهم الأساسية في فلسطين (مملكة بيت المقدس).. وقد ضموا إلى
كل مستعمرة أو إمارة ما يحيط بها من مدن وأقاليم زراعية خصبة، وعملوا على تأمين كل
منها بسلسلة من القلاع والحصون القوية التي نظموا فيها الحاميات، وشحنوها بالمؤن
والسلاح، وبكل ما يمكنها من الصمود لمدة طويلة في وجه أي حصار قد يقوم به المسلمون
لها.
وبعد أن
استتب وجودهم في تلك الإمارات والمستعمرات، شرعوا في تطوير أعمالهم العدوانية ضد
المدن والبلدات الإسلامية التي لم تخضع لهم، فاستحلوا دماء أهلها وأموالهم، وقطعوا
طرقهم، ونهبوا قوافلهم وخيراتهم، وأذاقوهم لباس الذل والخوف.
ثانياً: حال المسلمين وواقعهم السياسي
جاء احتلال
الصليبيين للقدس وبلاد الشام والجزيرة في وقت كان يسود فيه التفكك والتشرذم
والشقاق بين المسلمين، وكانت تتقاسم أقاليم المشرق الإسلامي - إذ ذاك - خلافتان
متناقضتان ومتصارعتان، وهما الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في
القاهرة، وكانت كل منهما في قمة الضعف.
فأما الخلافة
العباسية (السنية) في بغداد، وهي الأقدم والأعرق؛ فكانت قد تحولت إلى رمز ديني
معنوي، وكان الخلفاء العباسيون يمارسون دوراً شكلياً فقط، ولم يكن تحت أيديهم أي
قوة عسكرية، ومن ثم لم يكن لهم أي تأثير يُذكر على مجرى الأحداث خارج مدينة بغداد،
وكانت الهيمنة الفعلية للأتراك السلاجقة منذ سنة 447هـ/1055م، وهو العام الذي دخل
فيه زعيمهم طغرل بك بغداد وخلص الخلافة العباسية من سيطرة البويهيين الشيعة.
وأما الخلافة
الفاطمية (الإسماعيلية الشيعية) في القاهرة، فكانت هي الأخرى منهكة وضعيفة نتيجة
الفتن الداخلية التي عصفت بها، من جهة، والحروب المتواصلة والمكلفة بينها وبين
السلاجقة في الشام لأسباب مذهبية وسياسية، من جهة أخرى. وكانت الهيمنة الفعلية
عليها للجماليين، نسبة إلى بدر الدين الجمالي الأرمني، أحد كبار القادة الفاطميين.
ولم يكن للفاطميين أو الجماليين شأن يذكر في مقاومة الصليبيين، خاصة بعد هزيمتهم
البحرية وتدمير الصليبيين أسطولهم في معركة عسقلان سنة 517هـ/ 1123م. ومنذ ذلك
الحين انشغلت الخلافة الفاطمية بانقساماتها، وفقدت السيطرة على الأحداث التي
حولها، حتى جاء صلاح الدين فكنسها إلى مزبلة التاريخ.
كما أن
الدولة السلجوقية، التي كانت وصية على الخلافة العباسية، كانت هي نفسها مفككة
ومقسمة إلى إقطاعيات عسكرية منتشرة في الأناضول وفارس والشام والجزيرة، وكانت هذه
الإقطاعيات قد فقدت أواصر الارتباط فيما بينها بعد وفاة آخر سلاطينهم الكبار، وهو
ملكشاه بن ألب أرسلان سنة 485هـ/1092م.
ومن تلك
الإقطاعيات العسكرية التي كانت لها خطوط مواجهة مباشرة مع الصليبيين: أتابكية دمشق
وأتابكية الموصل، وكان بينهما وحولهما عدد من الإمارات الصغيرة والأسر المستقلة،
وكان العداء هو الطابع المميز للعلاقة فيما بين هذه الإمارات والأسر، ولم يكن
أمراؤها يتفقون على أي خطة مشتركة لمواجهة الصليبيين الغزاة، بل إن منهم من مال
لمهادنتهم وعقد الاتفاقيات معهم؛ اتقاء لشرهم، أو تسليماً بالأمر الواقع، أو خوفاً
من بعضهم البعض، كما فعل حكّام دمشق، على سبيل المثال.
وفي تلك
الفترة حالكة السواد، ظهرت خيانات الخائنين، وانكشف تخاذل المتخاذلين، وانتشرت
الجماعات الباطنية في أجزاء كثيرة من إيران، وشغلت حيزاً لا بأس به في سواحل
الشام، حيث تمركزت في قلاع قوية في القمم القبلية، وذلك بجوار الإمارات والقلاع
الصليبية، وكانت شوكة مؤذية في خاصرة المسلمين.
في حين تُرك
العبء الأكبر من الجهاد على عاتق القوى المحلية، التي كان يقودها العلماء
العاملون، وغالباً ما كان يحدث ذلك أثناء حصار الصليبيين للمدن. وأما من كان يقاتل
من أمراء المسلمين، فكان يقاتل دفاعاً عن نفسه، وعما تحت يده من بلاد، ولاتقاء
لعنة التاريخ التي لا ترحم ولا تحابي أحداً.
ثالثاً: عماد الدين زنكي ينهض
وقد استمر
الوضع كذلك إلى أن ظهر الأتابك (الأمير) عماد الدين زنكي بن مودود بن آق سنقر
التركماني، وهو من قادة السلاجقة، والذي تسلم أتابكية (إمارة) الموصل سنة
521هـ/1127م بأمر من الخليفة العباسي المسترشد بالله، وبترشيح من السلطان محمود
السلجوقي، الذي كان عماد الدين يحظى بثقته وتقديره، لما علم من شهامته وكفايته؛
فكان عماد الدين زنكي هو الذي رفع راية الجهاد ضد الصليبيين بصورة منظمة.
بيد أن طريق
الجهاد لم يكن مفروشاً بالورود أمام هذا القائد المسلم، فهو عندما تولى أتابكية
الموصل كانت الإمارات الصليبية قد صارت تشغل الساحل الشامي بطوله، ابتداء من طرسوس
في أقصى الشمال حتى جنوب سهل فلسطين الساحلي في غزة وعسقلان، إضافة إلى مستعمرتهم
الرئيسية (مملكة بيت المقدس) التي كانت تشغل معظم أراضي فلسطين الحالية، بل كان
ملوكها قد توغلوا في أعماق البلاد فبسطوا نفوذهم على الكرك في شرقي نهر الأردن،
وعلى الشوبك والبتراء ووادي عربة في جنوب البحر الميت، وامتدت سيطرتهم لتصل إلى
ميناء إيلات على خليج العقبة. وقد شكل احتلالهم هذه المناطق تهديداً مستمراً
لمواكب الحجاج ولقوافل التجار المسلمين إلى الحجاز والأراضي المقدسة، وأيضاً
القوافل المتجهة إلى مصر (التي أصبح هذا الطريق هو الممر الوحيد إليها من الشام
بعد قطع الصليبيين الطريق الساحلي الذي يربط بين الشام ومصر).
وهذا فضلاً
عن توغل الصليبيين في أعماق بلاد الجزيرة من خلال إمارة الرها الصليبية، التي راح
خطرها يزداد ويتعاظم يوماً بعد يوم – كما سنوضح ذلك لاحقاً -.
ويمكن القول
إنه غداة ظهور عماد الدين زنكي على الساحة الإسلامية، كان الصليبيون قد سيطروا على
معظم بلاد الشام والجزيرة، ولم يكن يخرج عن سيطرتهم سوى قواعد الشام الأربع: دمشق
وحلب وحمص وحماه.. لكن ومع استقلال هذه المدن، إلا أنها كانت عرضة للغارات
الصليبية المتواصلة.. كل ذلك من جهة.
ومن جهة
أخرى، فقد كان عماد الدين زنكي محكوماً في حركته بمصالح السلطان السلجوقي والخليفة
العباسي ومراكز القوى الأخرى حوله، ثم إنه كان لزاماً عليه أن يهتم أولاً بشؤونه
الداخلية وبناء قوته الذاتية، وقد استغرق منه ذلك عدداً من السنوات، اضطر خلالها
إلى أن يخوض معركة حربية مع الخليفة العباسي المستظهر بالله سنة 526هـ/1132م، وهي
المعركة التي انتهت بهزيمته وانسحابه إلى تكريت، والتي نزل فيها ضيفاً على
القائدين الكرديين نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه، واللذين ضمهما - فيما
بعد - إلى خدمته، وأدخلهما إلى قلب الأحداث والتاريخ.
لكن ومع كل
العقبات التي وقفت في وجه عماد الدين زنكي، فقد تمكن بفضل خبرته العسكرية وكفاءته
الإدارية، من توطيد سلطته في مدينة الموصل وما حولها، وأصبح سيد الجزيرة غير
منازع، كما رسخ نفوذه في مدينة حلب، ثم في مدينة حماه، وبذلك وحّد بين شمال العراق
وشمال الشام، وخطا الخطوة الأولى على طريق وحدة الصف.
وبالتزامن مع
ذلك عمد عماد الدين إلى مناجزة الصليبيين، فانتصر عليهم في عديد من المعارك غير
الحاسمة، كما انتزع منهم كثيراً من الحصون والقلاع، من أهمها: حصن الأثارب بين حلب
وإنطاكية سنة 524هـ، وقلعة بعرين القريبة من حماه سنة 531هـ، وذلك بعد معركة قاسية
انتصر فيها على الصليبيين، وأسر خلالها ريموند قائد جيش طرابلس. وكان في سنة 529هـ
قد فتح معرة النعمان وكفر طاب. كما استطاع أن يرد جحافل الروم البيزنطيين عن شيزر
سنة 533هـ، وأن يلحق بهم أفدح الخسائر. وقد توج عماد الدين انتصاراته الظافرة
بتحرير مدينة الرها سنة 539هـ/1144م، وهو ما سنسلط عليه الضوء في الفقرات اللاحقة.
رابعاً: الرها وأسباب تحريرها
الرّها مدينة
قديمة مشهورة من أمهات مدن إقليم الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات. وهي تقع
بين الموصل والشام إلى الشمال من مدينة حلب، واسمها بالرومية أديسا، «وسكانها
تنوّعت أصولهم ما بين عناصر سامية قديمة وغالبية سريانية منتمية إلى الآراميين،
وقد اعتنقوا المسيحية. وتعتبر مدينة الرها أهم أمكنتهم الدينية والتاريخية». وكان
الذي فتحها هو الصحابي عياض بن غنم سنة 17هـ. وكان فتحها صلحاً «ودخل أهل سائر
الجزيرة فيما دخل فيه أهل الرهاء من الصلح». وهي اليوم تحت سيادة الدولة التركية
وتُدعى (أورفا).
وقد وصفها
الحميري في (الروض المعطار) فقال: الرهاء - بضم الراء والمد - مدينة من أرض
الجزيرة متصلة بحران، وإليها ينسب الورق الجيد من ورق المصاحف، وهي مدينة ذات عيون
كثيرة عجيبة تجري منها الأنهار، وبينها وبين حران ستة فراسخ. والرهاء مدينة رومية
عليها سور حجارة تدخل منها أنهار وتخرج عنها، وهي سهلية جبلية كثيرة البساتين
والخيرات، مسندة إلى جبل مشرفة على بساط من الأرض ممتد إلى حران.. وليس في جميع
بلاد الجزيرة أحسن منها منتزهات ولا أكثر منها فواكه، وعنابها على قدر التفاح، وقد
ذكر أنه لم يوجد بناء خشب أحسن من بناء كنيستها، لأنها مبنية بخشب العناب... إلخ».
وقد احتل
الصليبيون الرها سنة 1097م، ونظراً لأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية والدينية،
فقد أنشؤوا فيها إمارة صليبية كانت هي أولى إماراتهم في الشرق. «ولم يكد يمرّ
عامان على تأسيس الرها، حتى أصبح أميرها ومؤسسها (بلدوين) ملكاً على مملكة بيت
المقدس، فتولى أمرها بلدوين دي بورغ حتى سنة 512هـ/1118م، ثم تبعه جوسلين الأول،
فجوسلين الثاني حتى سنة 539هـ/1144م»، وهو تاريخ تحريرها من قبل عماد الدين زنكي.
وكانت إمارة
الرها هذه أكبر وأخطر مستعمرة صليبية في المشرق بعد مملكة بيت المقدس، وكان خطرها
يرجع إلى كونها أقيمت في عمق بلاد المسلمين وليس على الساحل، كبقية الإمارات
الصليبية، وكان وجودها في داخل بلاد المسلمين قد جعلها تشكل حداً فاصلاً بين
الأتراك السلاجقة في كل من إيران والأناضول، من جهة، وبين العراق والشام من جهة
أخرى.. هذا من ناحية.
ومن ناحية
ثانية، فإن هذه الإمارة الصليبية كانت تشكل خطراً كبيراً على مدينة الموصل وما
يتبعها، مثل: نصيبين، ورأس العين، وماردين، وحران، والرقة، وكذلك بالنسبة لديار
بكر وما يتبعها في أعالي دجلة، وكانت في نفس الوقت تشكل تهديداً لمدينة حلب ولشمال
الشام كله، لا سيما مع وجود إمارة إنطاكية بإزاء مدينة حلب على الساحل الشامي، هذا
فضلاً عما يمثلهُ قربها من العراق من تهديد للخلافة الإسلامية، التي تعد رمز
الوحدة بين المسلمين.
كما كانت هذه
الإمارة، من جهة ثالثة، مصدر خطر كبير على الطريق البري الممتد من مدينة الموصل
إلى مدينة حلب، وكان جوسلين (كونت الرها) يطلق قواته للإغارة على بلاد المسلمين
القريبة من الرها، وقطع الطرق، وممارسة أعمال السلب والنهب، بصورة مستمرة. كما أنه
كان قد استغل انشغال عماد الدين زنكي بقتال الصليبيين في جنوب الشام، فقام بتوسيع
حدود إمارته، فبسط سيطرته على مناطق كثيرة في غربي الفرات.
ولم يكن عماد
الدين زنكي غافلاً عما كان يقوم به جوسلين كونت الرها وقواته من تحرشات واستفزازات
للمسلمين، لكنه ظل يترقب الفرصة المناسبة لتوجيه ضربة قاضية لهذه الإمارة الصليبية
المعادية، وقد كان هذا الخيار أشدّ إلحاحاً بعد تزايد خطر الكونت جوسلين واطراد
أعماله العدوانية ضد المسلمين وممتلكاتهم، وكثرة شكاوى المسلمين منه إلى عماد
الدين زنكي. مع كون هذه الإمارة الصليبية كانت شوكة في خاصرته، وكانت تشكل تهديداً
مباشراً لإمارته، وتقف حجر عثرة في طريقه تحول بينه وبين التوجه لقتال الصليبيين
في جنوب بلاد الشام، حيث تتركز قواتهم الرئيسية.. فماذا فعل عماد الدين يا ترى؟
خامساً: خطة تحرير مدينة الرها
وهكذا وضع
عماد الدين زنكي مسألة تحرير مدينة الرها نصب عينيه، وأعدّ لذلك خطة محكمة أحاطها
بالسرية التامة، كما أنه لم يُظهر أي سوء نية تجاه أميرها (جوسلين)، وذلك لضمان
نجاح الخطة وعدم فشلها؛ ذلك أن الكونت جوسلين إلى جانب شهرته بالغدر والقسوة
والأطماع الواسعة، كان معروفاً بالدهاء والشجاعة والفروسية، ومتميزاً بالكفاءة
القيادية والإدارية، ولو أنه علم، أو حتى شك، بما يدبره له عماد الدين لاستعد له،
ولاستنفر قوى الصليبيين التي من حوله، وحشدها إلى جانبه، ولظل متأهباً على الدوام
لصد أي هجوم على إمارته قد يقوم به ضده.
وحينئذ كان
سيتعذر على جيش عماد الدين مواجهة قوى الصليبيين مجتمعة، بطبيعة الحال، كما يتعذر
عليه اقتحام قلعة المدينة المعروفة بحصانتها الشديدة، والتي قد يلجأ الكونت جوسلين
للتحصن بداخلها، بعد أن يشحنها بالمؤن والأطعمة والعتاد، وبصورة تؤدي إلى صموده
لفترة طويلة، الأمر الذي لم يكن في صالح عماد الدين؛ لأن أجزاء أخرى من بلاده
ستكون أثناء ذلك عرضة للغزو من قبل جيوش الإمارات الصليبية الأخرى، أو حتى من قبل
جيوش حكام المسلمين الذين يناصبونه العداء.
ولذلك، فقد
قضت تلك الخطة بمباغتة المدينة على حين غرة، وفي وقت لم يحسب له الكونت جوسلين
حساباً، مع استخدام وسائل الضغط كافة على المدينة وإرغامها على الاستسلام قبل
تدخّل القوى الفرنجية.. وهذا ما حدث بالضبط.
ففي نوفمبر
1144م خرج عماد الدين زنكي بقواته من مدينة الموصل متظاهراً بغزو ديار بكر الواقعة
في أعالي دجلة، بعد أن كان قد حيل بينه وبينها في العام السابق. ويبدو أنه كان
يتابع بصورة سرية تحركات الكونت جوسلين. وقد يكون سبب اختياره لهذا التوقيت بالذات
هو علمه بأنه موعد مغادرته إلى قاعدة إمارته، إلى إمارة إنطاكية، لحضور احتفالات
عيد الميلاد التي تُقام فيها سنوياً حسب العادة - بما يتخلل هذه المناسبة عند
النصارى من ضروب اللهو والعربدة والصخب، والتي كان يميل إليها الكونت جوسلين.
وفعلاً، فمع
خروج عماد الدين زنكي على رأس جيشه من مدينة الموصل، غادر الكونت جوسلين مدينة
الرها متوجهاً إلى إنطاكية وهو في تمام الاطمئنان على مدينته، نظراً لتصوره أن
عماد الدين زنكي منشغل عنه، ولما علم عماد الدين بأمر مغادرته، أرسل مباشرة إلى
أمير حماه يطلب منه توجيه قواته إلى مدينة الرها على وجه السرعة، وما لبث هو نفسه
حتى انحرف بقواته غرباً، فأطبق الجيشان (جيش حماه وجيش الموصل) على مدينة الرها في
وقتٍ واحد، وذلك في 28 نوفمبر 1144م، وأحكما الحصار حولها، وباشر النقابون في
العمل لفتح ثغرات في سور المدينة تحت غطاء الهجمات التي كانت تشنها القوات الإسلامية
على حامية المدينة.
وقد استمر
الحصار أربعة أسابيع كان الكونت جوسلين قد علم خلالها بما تتعرض له قاعدة إمارته،
فعاد أدراجه إليها، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب منها، ولجأ إلى قرية مجاورة على
الضفة الغربية للفرات تدعى «تل باشر»، ومكث فيها منتظراً وصول المدد من إمارة
إنطاكية ومن مملكة بيت المقدس، اللتين كان قد بعث إليهما يستنفرهما لنجدته، إلا أن
الجيوش الصليبية وصلت بعد أن كانت الجيوش الإسلامية قد اقتحمت المدينة ودخلتها
عنوة، بما في ذلك اقتحام قلعتها الحصينة. وقد كان للمباغتة دورها الحاسم في سرعة
سقوط قلعة المدينة العصية بأيدي قوات عماد الدين التي داهمتها في وقت لم تكن فيه
حاميتها مستعدة للصمود لحصار طويل.
وهكذا دخل
عماد الدين مدينة الرها، وأمر جنوده برد كل ما أخذوه من أهلها دون وجه حق، وسار
فيهم بالعدل والسيرة الحسنة، ومنع من التعرض لكنائسهم وعبادتهم، وكان نموذجاً
رائعاً للقائد المسلم الفاتح في سماحته وتواضعه وعفته. وعاد الأذان يصدح من جديد
في هذه المدينة بعد أن توقف نحو خمسين عاماً بسبب الاحتلال الصليبي، ولم يترك عماد
الدين المدينة إلا بعد أن عادت الطمأنينة إلى أهلها، وأعاد ترميم أسوارها
وتحصينها، ونظم حامية للدفاع عنها، وزودها بما تحتاج إليه من مؤن وعتاد ووسائل
دفاع.
سادساً: نتائج تحرير مدينة الرها
استطاع عماد
الدين زنكي بعد تحرير هذه المدينة المهمة تصفية الوجود الصليبي في شرقي الفرات،
فاستولى على ما كان للصليبيين من حصون ومعاقل هناك، كما تمكن من تحرير مدينة سروج
وسائر الأماكن التي كانت تابعة لإمارة الرها في غرب الفرات، كما تم تأمين الطريق
الرئيسية الممتدة من الموصل إلى حلب والطرق المتفرعة عنها من غارات الصليبيين،
فأمن المسلمون على أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم في تلك الأنحاء بعد طول قلقٍ
ومعاناة.
وقد كان تحرير
مدينة الرها أعظم انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ أن جاؤوا إلى المشرق
الإسلامي، فانتعشت بهذا الانتصار آمال المسلمين، وارتفعت معنوياتهم، وعلت صيحتهم
الداعية للجهاد والتعاون والتضامن لطرد الغزاة الصليبيين من ديار المسلمين، لا
سيما أن هذا الانتصار برهن على قوة المسلمين وما يتوافر لديهم من إمكانيات تتيح
لهم إلحاق الهزائم بالصليبيين والنيل منهم.
كما أن هذا
الانتصار عزز من سمعة ومكانة الأتابك عماد الدين زنكي، وأعلى من شأنه بين أمراء
المسلمين، ودعم موقفه في جهاده ضد الصليبيين في بلاد الشام. فهذا الخليفة العباسي
يبتهج بهذا الانتصار فيرسل وفداً إلى عماد الدين محملاً بالهدايا الثمينة ويمنحه
لقب (الملك الغازي)، تشريفاً له وإيذاناً بإطلاق يده في مواجهة الصليبيين.
ومن جهة
أخرى، فقد هزّ تحرير الرها جبهة الفرنج في الصميم، وأثار ذلك قلقاً شديداً لدى
البابوية والغرب الأوروبي، وأشعل نيران الحملة الصليبية الثانية التي كانت إنطاكية
العنوان الرئيسي لها، نتيجة كونها أصبحت مكشوفة أمام المسلمين، باعتبار أن مدينة
الرها المحررة كانت خطها الدفاعي الحصين. وقد عد بعض المؤرخين الأوروبيين تحرير
الرها بداية النهاية لمملكة بيت المقدس الصليبية.
بيد أنه لم
يكتب للأتابك عماد الدين زنكي مواصلة مشواره الجهادي والتصدي لهذه الحملة، فقد لقي
حتفه غيلة في 6 ربيع الآخر 540هـ الموافق 15 سبتمبر 1146م، على يد كبير حراسه،
وكان فيما قيل من الباطنية، وذلك أثناء حصاره قلعة «جعبر»، على نهر الفرات، بعد مرور
عام وبضعة أشهر على تحريره مدينة الرها.
وبعد استشهاده حاول الصليبيون استعادة
الرها من جديد، إلا أن ابنه الملك الصالح نور الدين محمود، الذي خلفه على إمارة
حلب، تصدى لهم بكل جسارة، وكان نور الدين هذا من خيرة حكام المسلمين وأصلحهم
وأتقاهم، بعد عمر بن عبد العزيز، كما قال ابن كثير وغيره، وكان يفوق والده عزماً
وحماسة وهمة للجهاد في سبيل الله، ولطرد الصليبيين الجاثمين في بلاد المسلمين،
وكان له شرف التصدي للحملة الصليبية الثانية. وفي عهده تغيّر الموقف تغيّراً
حاسماً لصالح المسلمين، وخاب أمل المرجفين الذين راهنوا على انقسام مُلك عماد
الدين زنكي وتوقف عجلة الجهاد بعد وفاته.
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.