ولينصرن الله من ينصره
إن الانتصار في ميادين القتال ليس بالعدد أو
العتاد وحده، ولو كان الأمر كذلك لما انتصرت جماعة ضعيفة قليلة العدد على جماعة
قوية أكثر منها عدداً وأحسن تسليحاً وأفضل تدريباً، بل رأينا على مدار التاريخ أن
قوة صغيرة تنتصر على قوة كبيرة، وجماعة قليلة تنتصر على جماعة كثيرة، فدل ذلك على
وجود عامل أقوى تأثيراً من العدد والعتاد. وقد سجل كتاب ربنا هذه الحقيقة التي ظلت
صادقة على مدى الدهر: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
والذين لا يضعون في حسبانهم سوى العدد والعدة والتسليح والتدريب والإمكانيات ولا
ينظرون إلى شيء وراء ذلك؛ يظلون أذلاء لمن يرونهم أقوى منهم؛ فلا يقدرون على
مواجهتهم ويستسلمون لمرادهم، ويعدون من لا يرى رؤيتهم متهورين لا يدركون عواقب
الأمور، ويدعونهم للاستسلام والتسليم للأقوى والرضا بما هم عليه، فلا يحدثون
أنفسهم بتغييره، ويظلون يرددون في تحليلاتهم عند حدوث مواجهة بين فئتين إحداهما
ضعيفة والأخرى أقوى منها على جميع الأصعدة وبكل المقاييس؛ أن هذه الفئة الضعيفة
تلقي بنفسها إلى التهلكة، وأنها تخالف مقتضيات العقل من حيث الموازنة بين القوى،
ويظلون يطالبونهم بالرضوخ لواقعهم فلا يتطلعون إلى تغييره؛ لأن في ذلك - حسب زعمهم
- بلاء لا يحتمل. ولو نظرنا بهذا المقياس لعُدّة مواجهة حركة مقاومة مثل حركة حماس
- المحاصرة التي ليس لديها إمكانيات ولا قدرات ولا تمتلك أسلحة فتاكة متطورة -
لليهود الذين يحتل جيشهم المرتبة الحادية عشرة على مستوى جيوش العالم؛ لعد ذلك من
قبيل الانتحار، وأن هذا منهم تهور وعدم تقدير للمصالح واستهانة بالدماء، وقديماً
قال أسلاف هؤلاء الذين لا يعرفون مقياساً سوى مقياس القوة المادية، عن إقدام
الصحابة رضي الله عنهم في مواقع النزال وعدم تهيّبهم للعدو ومواجهته بكل ما أوتوا
من قوة؛ قالوا: {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49].
الضعيف لا يظل دوماً ضعيفاً، وهناك أسباب
وطرق يتوصل بها إلى القوة من طلبها وجدها، ومن عزم على تحصيلها حصّلها، وإن أحد
أسباب تحصيل القوة والبأس في القتال: خوض المعارك والمواجهات؛ فهذه المعارك
والمواجهات تكسب الطرف الضعيف خبرة لا تلبث أن تقوى وتشتد على مدى الأيام
والمواجهات حتى تقف على رجليها ثابتة وتكون قادرة على إحداث ما يسمى «توازن
الرعب»، ولو نظرنا إلى أدوات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) حين ابتدأت المقاومة
نهاية عام 1987 والآن عام 2014 بعد مرور قرابة 27 عاماً، لأدركنا البون الشاسع
والفرق الكبير بين ما كان وبين ما هم فيه الآن، وما كان هذا التطور الكبير بعد فضل
الله إلا بسبب خوض المعارك والمواجهات مع العدو، فبعد أن كان سلاح المقاومة الأكبر
المقلاع والحجارة، أصبح الآن الصواريخ والقذائف خارقة الدروع والطائرات من دون
طيار، ما أوجد قدراً كبيراً من الندية والقدرة على المواجهة ورفض الإملاءات
والتفاوض من موقع قوة، ولو لم تبدأ المقاومة البداية اليسيرة وظلت تنظر إلى
الأدوات القليلة التي تمتلكها بعين الاستصغار، لما أمكنها أن تصل إلى ما وصلت إليه
الآن، فالعبرة كما يقال ليس بنقص البدايات، لكن بكمال النهايات، وحقاً فإن هذا لن
يتحقق من غير تكلفة الدم، لكنها رغم قسوتها تعد تكلفة يسيرة إذا قورنت بما ينتج
عنها من عزة وكرامة وحقن دماء كثيرة فيما يستقبل من الأيام، وهو مما يدل على أن من
سقط شهيداً في البداية لم يكن سقوطه بلا ثمن أو مقابل، بل كان مقابله عظيماً
وأمراً جللاً، وأن المقابل لا يشترط حصوله مع المواجهات في أولها، بل ربما لا نحصل
على نتائج إلا بعد عدة مواجهات. ولو امتنع المقاومون عن المقاومة إلا بظهور نتائج
عاجلة، لما تمكنوا من الوصول إلى ما وصلوا إليه، وهذا لا يمكن الوصول إليه بالتمني
والجلوس انتظاراً لحدوث أمر قدري خارق للعادة؛ ولذلك جاء الأمر الشرعي بإعداد ما
يستطاع من القوة، فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ}، فلو سقط وجوب الجهاد
للعجز عنه فلا يسقط وجوب الإعداد له؛ لأن الإعداد لا بد منه للقيام بفريضة الجهاد،
ولأن إعداد العدة المناسبة للمواجهة هو الكفيل بإيقاع الخوف والرهبة في قلوب
الأعداء؛ ولذا فقد عقّب الله تعالى على الأمر بالإعداد بقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.. بل إن إعداد العدة لا
يقتصر على إيقاع الخوف والرهبة في قلوب الأعداء المعروفين، بل يتجاوزهم إلى آخرين
لا يعلمهم المجاهدون؛ ولذلك جاء في الآية السابقة إلحاقاً للأعداء المعروفين قوله
تعالى: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
قد بيّنت الآيات سبيل النصر الحقيقي على
الأعداء، فقال الله تعالى: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ} [محمد: ٧]. ونصر الله إنما يكون
باتباع شرعه سراً وعلناً، ومن ذلك الاستجابة لأمره بإعداد ما يستطاع من عدة،
فالآية اشترطت شرطاً ووعدت على تحقيقه وعداً يستحق المرء الحصول عليه عند قيامه
بالشرط؛ فالشرط قيام المسلم بنصرة الله بالانتصار لدينه وتنفيذ أوامره، والوعد نصر
من قام بذلك؛ فمن نصر الله نصره الله وزاده بأن ثبت قدميه فلا تزل ولا تضعف في
مواقف الشدة. ونصر الله بنصر دينه وشرعه لا يعني أن الله تعالى العلي الكبير في
حاجة إلى من ينصره: «ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض»،
فالنصر في الحقيقة هو من عند الله ليس من عند شيء آخر، لا جيوش ولا دول ولا أسلحة:
{وَمَا
النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، ومن
نصره الله فلا يوجد من يغلبه كائناً من كان: {إن يَنصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160].
فلا ينبغي لمن يطلب النصر أن يبحث عنه
بعيداً عن الالتزام بشرع الله، فوعد الله إذا قام العبد بشروطه لا يتخلف أبداً: {إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ
الْـمِيعَادَ}، وقد قال الله تعالى: {إنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، فنصر المؤمن على عدوه
لا يقتصر على الآخرة فقط، وإنما أيضاً في الدنيا، وإذا حصل تأخير في النصر أو الانتصار
للكفار في جولة فبما كسبت أيدي المؤمنين ولتقصيرهم في الوفاء بما اشترط عليهم، فلا
ينبغي أن نهمل في البحث عن سبب الهزيمة في جولة أو عدة جولات، بل علينا أن نبحث عن
ذلك في أنفسنا.
وقد بيّن الله تعالى جماع الأمور التي تقود
للهزيمة وظهور أهل الباطل على أهل الإيمان، فكانت في الفشل والتنازع في الأمر
والمعصية وإرادة الدنيا، فقال: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ
تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ
وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152].
وهذا كله يبيّن أن النصر من عند الله، وأن
من نصره الله فلا غالب له، وأنه من خذله فلا ناصر له، فلا ينبغي أثناء البحث عن
العدد والعتاد أن ننسى ما هو أهم وعليه المعوّل كله في إحراز النصر، وهو نصر الله
ومعيته للمؤمنين.
اللهم ثبتنا على دينك، وانصر عبادك
المؤمنين أهل غزة وغيرهم على عدوك وعدو رسلك اليهود.
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.