العلم يرفع أهله ويضع المتلبسين به من غير أهله؛ ولذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الذي هو أشرف العلوم: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين». وإنما أهله هم العاملون المنتفعون به.
كنت أتساءل عما إذا كان العلم محموداً في ذاته أم لا؟ وأول ما خطر بذهني أنه لا
يحمد لذاته، بدليل أنه إذا لم يقترن معه العمل كان ذماً لصاحبه، فهو محمود شرط
الانتفاع والعمل به.
وكذلك فإن العلم يدخل فيه ما يذم به صاحبه؛ كالعلوم المحرمة. ثم
راجعت نفسي فوجدت أن الطريقة التي سلكتها في تحديد المحمود لذاته لن تبقي من
الأعمال ما هو محمود لذاته، فبإمكان قائل أن يقول إن الصلاة ليست محمودة لذاتها،
بدليل أن المصلي إذا لم يكن يقر بالشهادتين لم تنفعه، بل تكون صلاته يوم القيامة
هباء منثوراً، وبإمكان آخر أن يقول إن الإقرار بالشهادتين ليس محموداً لذاته، بدليل
أن المقر بها إذا كان لا يصلي لم تنفعه في أحد القولين المشهورين. وهكذا
لن تجد عملاً إلا وهو يحمد في أحوال ويذم في غيرها. والأحكام
إنما تبنى على العموم والأصل، ومن هنا خرج مفهوم الشاذ الذي يبقي للأصل حكمه. إذا
رجعنا إلى العلم بعد هذه المقدمة سنجد أن العلم محمود لذاته في الأصل، ومن هنا جاءت
النصوص العامة التي أطلق فيها العلم في سياق المدح، كقوله: {وَقُل
رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، {قُلْ
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]، {يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١]. وأما
ما ورد في سياق الذم فيأتي مقيداً بسبب الذم، كقوله: {وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 175 وَلَوْ
شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ
تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 175-176]،
فلما اتبع هواه ولم يعمل بعلمه وينتفع به سلخه الله من الأصل والمدح الذي يكون
لصاحب العلم فأبدل رفعته خلوداً في الأرض، وهو تعبير أعظم من الهبوط، فإن الخلود
يستلزم المكث الطويل الذي قد لا ينتهي، ثم شبهه بأقبح ما يشبه به الإنسان، فشبهه
بالكلب الذي نباحه أقبح الأصوات، ولعابه إن وقع على إناء كانت طهارته لا تتم إلا
بسبع غسلات أولاهن بالتراب، في إشارة إلى تبديل الله حاله ولسانه وكلامه. فتأمل
كيف انقلب حاله بعدما كانت ملائكة السماء تستغفر له وتضع أجنحتها له إلى خلود في
الأرض، وكيف انقلب صوته بعدما كان يردد آيات الله إلى نباح، وكيف تحول لسانه ودعوته
إلى نجاسة مغلظة لما ترك العمل بعلمه واتبع هواه. فما
أهون الخلق على الله إن هم عصوه، وما أهون حامل العلم على العلم إن تلبس به ولم يقم
بواجبه.
فالعلم يرفع أهله ويضع المتلبسين به من غير أهله؛ ولذا جاء عن النبي صلى
الله عليه وسلم في
القرآن الذي هو أشرف العلوم:
«إن
الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين». وإنما
أهله هم العاملون المنتفعون به. فما
ثمرة العلم إن لم يعمل به؟ ولأي شيء نسعى إن لم يورث تغيّراً في سلوكنا؟ لو كان حظ
المرء من العلم هو التزود منه والامتلاء لكانت أجهزة الجوال أعظم منا قدراً، فما
الذي ميزنا عنها إلا الانتفاع بما نحمله والعمل به.
إن كل علم يضاف إلى علمنا القليل إن لم يورث في حياتنا وسلوكنا أثراً فهو مضيعة
للوقت وذهاب للعمر، بل ربما كان وبالاً لصاحبه، ولما أمرنا الله أن نسأله التزود من
العلم كان ذلك لما يورثه العلم من العمل، فكان سؤال الله التزود من العلم مستلزماً
لسؤاله التزود من العمل، و«إنما
يخشى الله من عباده العلماء».
من أكثر ما يضر بالعلم وينفر الناس منه ومن أهله هم المتلبسون بالعلم، وما أجمله من
لباس لو لم يتخذه صاحبه خيلاء يمشي به بين الناس ولا ينتفع به في حياته وسلوكه
وأخلاقه وتعامله ولا ينفع به غيره، فيتعلق بقلوب العامة أن العلم يورث هذا. بينما
كان يجب أن يكون حامل العلم أحسن الناس أخلاقاً وألطفهم معشراً وأجملهم حديثاً، وأن
تكون العلاقة بين العلم وهذه الأخلاق علاقة طردية تزيد بزيادته وتنقص بنقصانه،
أوليس النبي صلى
الله عليه وسلم يقول:
«إنما
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وما
ألقاها النبي صلى
الله عليه وسلم كلمة
يرددها على المنابر فحسب، بل كانت كلمة يتمثل بها في شخصه الكريم، فيراها كل أحد،
الصغير والكبير والفقير والغني والرجل والمرأة.
الناس تريد أن ترى العلم في سلوكك وأخلاقك لا في رأسك ولسانك. وإنه
لمن المؤسف أن يرى الناس من يتحدث عن أخلاق النبي صلى
الله عليه وسلم وعن
أجر تبسم المسلم في وجه أخيه وربما ذكر طرق الحديث وأسانيده وأقوال العلماء فيه،
فإذا قابل الناس قابلهم بوجه مكفهر وخلق فظ غليظ، وربما كان من أشد الناس تعلقاً
بالعلم وحباً له ونهماً فيه، لكنه غاب بالعلم عن العمل وبنوع من العبادة عن
العبادة، ولا شك في أن للعلم لذة من ذاقها شق عليه أن يتركها أو يشغل وقته بغيرها،
حتى لا يرى في الوجود لذة سواها تغيب عندها ملذات الدنيا؛ كغياب النجوم والكواكب
إذا ظهر نور الشمس. لكن
هذه اللذة قد تصل بصاحبها إلى مرحلة السكر، فيسكر بها عما سواها، حتى قد يسكر
بالعلم عن العبادات فيترك بعض الواجبات؛ كمن يمتنع عن قضاء حاجات والديه لانشغاله
بالقراءة! فيغيب
عن ثمرة العلم التي بدونها يكون العلم مذمة لصاحبه، ويكون الجاهل العامل خيراً منه. وهي
سكرة لا ينتبه لها صاحبها، ومتى انتبه السكران لسكره أصلاً؟ فكيف إذا كان صاحبها
يعتقد أن سكره عبادة وقربة، وهو حق، لكن متى ما خلا العلم وانفصل عن العمل انقلب
وبالاً على صاحبه. والعلم
إنما اكتسب هذه المكانة لما يورثه من العمل والخشية، فهو الأصل الذي أضفى على العلم
مكانته: {قُلْ
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩].. لا
يستوون عند الله في القدر، ولا عند الناس في أعمالهم وأخلاقهم ومكانتهم، فأما إذا
لم يزكِّ العلم صاحبه وأخلاقه، وكان الجاهل عند الناس خيراً منه وأنفع وأحسن خلقاً؛
كان العلم حجة عليه عند الله وعند خلقه، وليته ثم ليته ما علم فإنه حينها يكون قد
أضر بنفسه وأضر بصورة العلم عند الناس.
إضافة إلى أن كون العلم في ذاته عبادة وقربة ينبغي أن يوضع في مراتب التكليف موضعه،
فلا يقدم المستحب على الواجب ولا الواجب على هو أشد وجوباً منه، وإذا كان العلماء
قد اختلفوا فيما إذا دعت الأم ولدها في صلاته - التي
هي أعظم العبادات وأعظم ركن بعد الشهادتين - أيجب
عليه قطع صلاته ليجيبها، فكيف بغيرها؟
وربما اقتصر البعض على العبادات الظاهرة من صلاة وصوم وصدقة وذكر، فظن أنه قد حقق
العمل، وتلك بلا شك من أعظم العبادات، لكنه في المقابل يغيب عن حسن الخلق ولطف
المعشر ولين الجانب التي هي أيضاً من العبادات التي يجب على المسلم التحلي بها،
فضلاً عن العالم بأحاديثها وفضائلها. وربما
كان لتقسيم بعض العلماء، خصوصاً الفقهاء، الأعمال إلى عبادات ومعاملات أثر في هذا
حينما جعلوا العبادات ما هي من قبيل العلاقة المباشرة بين العبد وربه؛ كالصلاة
والصيام والحج وغيرها، والمعاملات ما كانت بين العبد والخلق كسائر ما يتعامل به
الناس فيما بينهم. بينما
الثانية هي من ضمن العبادات وليست منفصلة عنها؛ فالعبد في عبادة ما دام يتعامل مع
الناس كما أراد الله. ومن
المؤسف أن يظهر العالم للناس بصورة الجاف الغليظ وهو يقرأ قول الله لنبيه وللأمة:
«ولو
كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك». فيرد
السائل وينهر الآتي ولا يصرف لهم من وقته شيئاً لانشغاله بسكره، فيعبد ربه على
سجادته ويعصيه في الأسواق وبين الناس. وما
أعظمك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، تأتيك الجارية الصغيرة وأنت رسول الله، على ظهرك
أعظم دولة، وتحت حكمك دولة الإسلام؛ فتمسك بيدك، تمشي بك حتى تقضي لها حاجتها.
وكلما تحدث الناس عن علاقة العلم بالعمل، ارتسمت في نفسي صورة شيخنا الإمام العلامة
عبدالله بن جبرين - رحمه
الله وأسكنه فسيح جنانه -،
فما رأت عيني مثله قط، فلقد كان مثالاً للعالم العامل العابد، فكان مع شدة حبه
للعلم وشغفه ونهمه فيه يخصص كل يوم وقت العصر للناس، لقضاء حاجاتهم والاستماع إليهم
وإجابة تساؤلاتهم. وأتيت
إليه مرة حينما كنت بالمتوسطة، وجلست بجانبه، فأمسك بيدي، وجعل يحدثني ويسألني كما
يحدث الأب ابنه، وكنت وقتها أتساءل لماذا خصص الشيخ جزءاً من وقته للناس يحادثهم
ويجالسهم ويقضي ما استطاع من حوائجهم وهو في غاية السعادة لا يمل ولا يضجر، بينما
كان بإمكانه أن يجعل هذا الوقت لنفسه يقرأ فيه، والانقطاع عن العلم شديد على من
تعلق به. ثم
عرفت بعدها أن الشيخ لم يكن عالماً فحسب يجمع العلم ليشبع به نهمته ويملأ به رأسه،
بل كان عالماً عاملاً عابداً، يستحضر أن الله إنما خلقنا لغاية واحدة:
«وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون». ليست
الغاية العظمى من خلقنا هي العلم ولا معاملة الناس بالمعاملة الحسنة ولا الصلاة، بل
الغاية هي العبادة، تلك الكلمة العظيمة الجامعة التي يدخل تحتها كل أصناف العبادات. فعلى
أي شيء كان فهو مطلوبه ما دامت عبادة وقربة لله، سواء كانت في قضاء حاجة أو ابتسامة
أو في استماع للناس أو في طلب علم، هكذا أحسبه ولا أزكي على الله أحداً؛ ولذا بارك
الله في علمه وحفظه، فأوتي من العلم وقوة الحفظ ما يشهد له به، فكما أن البركة إذا
حلت على المال أنمته، فكذلك إذا حلت في العلم، وإنما تنال بركة العلم بالعمل به: {وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَيُعَلِّـمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: ٢٨٢].
وما أجمل عبارة الإمام أبي حنيفة حين قال:
«الفقه
الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن
يجمع العلم الكثير».
:: مجلة البيان العدد 328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر 2014م.