الاتباع في الحج
الاتباع لغةً: الموافقة،
أي موافقة من اتبعته أو السير معه أو خلفه، قال الله تعالى في الخير: {وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} [الزمر: ٥٥]،
وقال {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ} [الأنعام: 106]،
وقال تعالى في الشر: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَهْوَاءَهُم} [الروم: 29]،
وقال: {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ
الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166].. والآيات
في كلا نوعي الاتباع كثيرة، لكن الاتباع لم يقف عند حده اللغوي، بل صار في لغة أهل
العلم مصطلحاً يراد منه اتباع مخصوص، وهو اتباع الشريعة كتاباً وسنة وترك
الابتداع، وأصبح الابتداع مقابلاً للاتباع كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله
تعالى عنه: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم».
وتظهر حقيقة الاتباع عندما يكون الأمر
المطلوب عمله أو اجتنابه مخالفاً للعادة أو العرف أو مألوف النفس، فلا تكون
الاستجابة في هذه الحالة إلا للاتباع، والحج الذي أوجبه الله على المسلمين في
العمر مرة يظهر فيه الاتباع في أجلّى معانيه، من أوله إلى آخره، في كل أمر ونهي.
فالإنسان السويّ يحب أن تكون هيئته حسنة؛
فيكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً. والحج أول ما يريد المسلم
الدخول فيه، عليه إذا بلغ ميقاته المكاني أن يتجرد من ملابسه التي عليه فلا يلبس
ثوباً مخيطاً أو سروالاً أو جبة، بل يلبس ملابس الإحرام إزاراً ورداء، ولا يلبس
النعال إلا لو قطعها لتكون أسفل من الكعبين. وبعد
نية الحج والإحرام به يظهر الاتباع مرة أخرى في اجتناب الطيب وقص الأظافر وقص
الشعر، واجتناب زوجته التي هي حلال له في كل وقت فلا يقربها ولا يقبل منه الكلام
في كل ما يتعلق بأمر النكاح: «فمن حج البيت فلا رفث ولا
فسوق ولا جدال في الحج».. وكل هذا يتم بمراقبة
ذاتية من المسلم نفسه اتباعاً لشرع الله وخوفاً من مخالفته، من غير أن تكون هناك
أي رقابة خارجية عليه يخشاها أو يعمل حسابها. والمسلمون
يلتزمون بما شرعه الله لهم ولو لم تظهر لهم حكمته أو علته، ويتّبعون الأمر والنهي
ويقومون بمقتضياتهما، ويكفيهم في ذلك معرفة مراد الشارع فقط من خلال الأمر والنهي
والإقرار والاقتداء، فهذا عمر رضي الله عنه لما قبّل الحجر الأسود قال قولته
المشهورة: «أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا
تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك
ما استلمتك.. فاستلمه». فليس
في استلام الحجر، أي تقبيله، من معنى يعقل سوى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما
فعل، قال ابن حجر - رحمه الله -: «وفي
قول عمر هذا: التسليم للشارع في أمور الدين، وحُسن
الاتباع فيما لم يُكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما
يفعله ولو لم تُعلم الحكمة فيه»[1]. والمسلمون
عندما اعتمروا عمرة القضية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد
الرسول صلى الله عليه وسلم أن يري المشركين قوة
أصحابه لما ظنوا أن حمى المدينة أنهكتهم، فأمرهم بالرمل - وهو
ما بين المشي والجري - في طواف القدوم في الأشواط الثلاثة الأولى
من الطواف، وقد ظهر أن سبب ذلك هو إظهار قوة المسلمين أمام المشركين؛ لأنهم كانوا
في ذلك الزمان يدخلون المسجد الحرام ويجلسون فيه والمشركون قد انتهى بحمد الله
دخولهم المسجد الحرام، فكأن الرمل الذي فعل من أجلهم قد زال سببه، ومع ذلك ما زال
المسلمون يرملون في طواف القدوم وفي طواف العمرة، وما ذلك إلا للاتباع، وقد قال
عمر رضي الله تعالى عنه: «فما لنا وللرمل إنما كنا
راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله»، ثم قال: «شيء
صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه». وفي
طواف الرسول صلى الله عليه وسلم بالكعبة لم يستلم منها
إلا الحجر الأسود والركن اليماني، ولم يستلم الركنين الآخرين، مع أن الأركان
الأربعة كلها من البيت، وكذلك فعل أصحابه رضي الله عنهم الذين حجوا معه، فتابعهم
المسلمون على ذلك؛ لا يستلمون في طوافهم سوى الركنين اللذين استلمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وعندما استلم معاوية الأركان كلها أنكر ذلك عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما،
فعن ابن عباس أنه طاف مع معاوية بالبيت، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها، فقال له
ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟
فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً، فقال ابن عباس: {لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]،
فقال معاوية: صدقت». فمتابعة
الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطوات الحج مطلوبة
لا يمكن معارضتها برأي أو قياس أو استحسان، وقد سأل رجل عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما عن استلام الحجر؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه
ويقبله. قلت: أرأيت
إن زحمت؟ أرأيت إن غلبت؟ قال: اجعل (أرأيت) باليمن! رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله». فلم
يقبل منه الافتراضات والمسوغات لترك اتباع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وحثه
على المتابعة، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن
هذا الاتباع بأوضح عبارة، فعندما أراد أن يرقى الصفا في أول سعيه قرأ قوله تعالى: {إنَّ
الصَّفَا وَالْـمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] في
توجهه نحو الصفا، ثم قال: «أبدأ بما بدأ الله به». وكان صلى الله عليه وسلم يحض
أصحابه على متابعته واتباعه، فكان يقول لهم: «خذوا
عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا». وفي
السعي بين الصفا والمروة هناك منطقة بين الميلين الأخضرين يهرول فيها الناس ولا
يمشون اتباعاً لما سنّه الرسول صلى الله عليه وسلم،
مع أن المسعى كله مسار واحد بعضه يمشي الناس فيه وبعضه يهرولون، وذلك للاتباع.
وقد كان للمشركين في حجهم هدي في
الوقوف بعرفة وفي الدفع منها وفي الخروج من مزدلفة، فخالفهم الرسول صلى الله عليه
وسلم في كل ذلك، وتبعه المسلمون على ذلك، وكرس هذا بقوله: «هدينا مخالف لهدي أهل
الأوثان والشرك»[2]، فعن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه - قال: «خطبنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعرفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن أهل الشرك
والأوثان كانوا يدفعون من ها هنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رؤوس الجبال
مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف هديهم، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام
عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم»[3]. وفي رمي الجمار رماها الرسول صلى
الله عليه وسلم بسبع حصيات صغار فكانت سنة لا يجوز لأحد تغييرها؛ كأن يرمي الجمرة
بغير الحصا مما يرمى به، وهكذا.. فالحج كله اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم
ولإبراهيم عليه السلام الذي أمره ربه: {وَأَذِّن
فِي النَّاسِ بِالْـحَجِّ } [الحج: 27]، وأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم
باتباعه فقال: «ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً».
:: ملف
خاص بعنوان "بين يدي الحج"
:: مجلة البيان العدد 328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر 2014م.
[1] فتح الباري 3/463.
[2] مسند الشافعي (1/369).
[3] أخرجه البيهقي في السنن (5/125).