• - الموافق2024/11/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
نينوى ومعركة 45 دقيقة

نينوى ومعركة 45 دقيقة

هكذا أطلق عليها أهل نينوى في صبيحة يوم 9/6 بعد هروب الجيش الحكومي العراقي دون أي مقاومة، تاركاً وراءه تركة ثقيلة من المعدات العسكرية التي لم تغنِ عنه شيئاً في مواجهته المجاميع المسلحة، وسنحاول أن نعالج هذه القضية في أربعة محاور عامة، هي:

أولاً: دخول المسلحين وهروب الجيش

حرب الساعة والنصف، أو حرب الـ 45 دقيقة، أو غيرها من المسميات التي أطلقها الإعلام العربي والعالمي على حادثة سيطرة المسلحين على محافظة نينوى شمال العراق.. كانت البداية في ظهيرة يوم الخميس 5/6 بعد أن أعلنت قيادة عمليات نينوى (السلطة العسكرية للمدينة) حظراً شاملاً للتجوال دون معرفة الأسباب، وإخراج الموظفين من دوائرهم، وفي غضون ساعات قليلة خلت شوارع المدينة من كل مظاهر الحياة، وانتشرت القطعات العسكرية الحكومية بكل صنوفها، وأغلقت مداخل المدينة ومخارجها وسط استغراب شديد من المواطنين، وعاشت المدينة في هدوء حذر دام حتى منتصف الليل أو صباح يوم الجمعة، مع سماع دويّ اشتباكات متقطعة هنا وهناك، وقبيل صلاة الفجر من يوم الجمعة بدأ القصف الحكومي على مناطق حي صدام والتسعين في الجانب الأيسر من المحافظة (شرقاً)، وسقط على أثره العديد من الشهداء من المدنيين، وتزامن مع ذلك نفس الحادث في الجانب الأيمن من المحافظة (غرباً)، وتحديداً في مناطق: 17 تموز، والرفاعي، والنجار، والنتيجة هي نزوح أهالي هذه المناطق إلى أحياء مجاورة أكثر أمناً تحت وطأة القصف الذي لم يتوقف، وملأت صور أشلاء الشهداء من المدينة صفحات التواصل الاجتماعي، علماً أن القوات الحكومية كانت تمنع دخول سيارات الإسعاف لإخلاء الجرحى والجثث، بل منعت حتى أهالي المناطق الآمنة من استقبال أي زائر أو عائلة نزحت من المناطق الساخنة، وأخذت بشن حملة تفتيش للمنازل بحثاً عن نازحين، يقابله عقوبة لذلك، وباتت أغلب العوائل في الشوارع في منظر نراه دائماً في أرشيف الحرب العالمية الأولى والثانية، لكي يكونوا درعاً بشرياً للقوات الأمنية الباسلة! ونشر القناصة على أسطح المنازل. على كل حال، فإن المعارك أخذت بالاشتداد يوماً بعد يوم في الجانب الأيمن من المدينة، وفقدت القوات الحكومية المنطقة تلو الأخرى، والحي تلو الآخر، وانهارت معنويات الجيش وشوهد مسعوراً في الشوارع يتصرف بشكل هستيري، وشهدت المدينة غلقاً للمحلات وشللاً تاماً لكل نواحي الحياة المدنية، ونزوح أغلب إن لم نقل كل العوائل القاطنة في الجانب الأيمن من المدينة إلى الأيسر، الذي يعتبر أكثر هدوءاً قياساً بالوضع العام. ووصف من شاهد المسلحين أنهم عبارة عن اتحاد من فصائل الجهاد العراقية والمجلس العسكري لعشائر العراق، تسنده رجالات من البعث، إضافة إلى قوة من تنظيم الدولة الإسلامية وصلت في بداية الأحداث، وهي تمثل ذات القوة التي اقتحمت سامراء في ضربة خاطفة قبل أحداث الموصل ببضعة أيام بعد أن انسحبت من سامراء إلى الموصل عبر الجزيرة فالمحلبية فالجانب الأيمن من الموصل، وتحديداً من منطقة سوق المعاش التي تمثل أول المناطق سقوطاً بيد المسلحين، ومنذ اليوم الأول، لكن الضربة القاصمة التي أثرت في القوات الحكومية وأسهمت في الإسراع بانهيارها؛ هي تلك العملية النوعية التي حدثت بصهريج مفخخ اقتحم تجمعاً لضباط وقيادات عسكرية على الجسر الثالث قرب فندق الموصل، ومنهم علي غيدان قائد القوات البرية، ومحسن الغراوي قائد عمليات نينوى، والتي أسفرت عن مقتل 72 ضابطاً كانوا على وشك تولي مهام إدارة القطعات العسكرية لمحاربة المجاميع المسلحة الوافدة إلى المدينة، ولم يدم الأمر طويلاً؛ ففي صبيحة يوم 9/6 شاهدنا منظراً مهولاً لخذلان القوات العسكرية الحكومية، وسط دهشة المواطنين، وكانت الشوارع مليئة بالسيارات العسكرية المحروقة والملابس العسكرية تملأ الطرقات في وسط فراغ أمني لم تشهده المدينة أعتقد منذ تأسيسها حتى هذا اليوم، ومراكز الشرطة فارغة ومتروكة بأسلحتها وعتادها، وعجلات القوات الأمنية مشاع لكل من يركب، وكأن الساعة 12:30 بعد منتصف الليل نهاراً، بل وضح النهار، من كثرة الأعداد البشرية التي خرجت تشاهد الحدث الرهيب الذي يصيب مدينتهم بعد سهر وفقدان للنوم لقرابة الخمسة أيام.

ثانياً: ردود الأفعال الأولى لسكان المدينة

لم يكن الأمر بالنسبة لسكان مدينة الموصل كما نقلته وسائل الإعلام بكل صنوفها، بل كنا وبكل بساطة في قلب الإعصار، وكانت الدهشة والحيرة تعلو وجوه الناس وعقولهم، أحقيقة أن الجيش الذي كان يغلق مداخل المدن والحارات وينشر نقاطاً تفتيشية على مسافات متقاربة جداً، ويهين الناس بأفظع العبارات الطائفية، ويعيش حالة من النشوة والاستعلاء على سكان المدينة وكأنه جيش الإسكندر أو فرعون أو نابليون أو هتلر، ويتعمد تفتيش المنازل بشكل دوري كل أسبوع بعد منتصف الليل، ولا يرى لشيخ مسن أو امرأة أو أمام مسجد حرمة، ويلقبون أنفسهم بقوات العقرب والذئب والقذرة، بل بلغت بهم الجرأة إلى إهانة المحافظ شخصياً في ساحات التظاهر والاعتصام، والذي يمثل أعلى سلطة إدارية في المحافظة.. أحقاً أصبح أثراً بعد عين.. وعلى وقع هذه الهواجس وغيرها انقسم السكان إلى فئة أفقدتها الفرحة والتشمت الزائد بالجيش صوابها، فأخذت تحرق آلياتهم في حالة من النشوة، وهم قلة جداً، وفئة ثانية تعاملت مع الوضع الجديد بإيجابية، حيث أخذت تحمي الممتلكات العامة بالتعاون مع المساجد، وإزالة كل الكتل الكونكريتية التي كانت تضيق على الناس وتغلق أزقة الحارات، وجلب المواد الغذائية (الخضراوات) إلى الأسواق بأسعار مدعومة من قبل متبرعين ومجاناً مع خدمات التوصيل إلى العوائل الفقيرة، وإشاعة روح التعاون بين أبناء المدينة، وهذه الفئة تمثل الأغلبية في المحافظة، بل كانوا سبباً في عودة أفراد الفئة الثالثة الذين هالهم ما رأوا أو اعتقدوا أن الحكومة المركزية ستبدأ حملة إبادة كاملة للمدينة بالقصف العشوائي على غرار ما حدث في الرمادي والفلوجة، فتزاحموا على مخارج المدينة للهرب بعد حظر للتجوال دام خمسة أيام.

ثالثاً: الموقف الكردي

تميّز الموقف الكردي بالمصلحية والانتهازية منذ بدء الأزمة حتى هذه اللحظة؛ فمنذ الساعات الأولى لإعلان حالة حظر التجوال بتاريخ 5/6 من قبل الأجهزة الأمنية في المحافظة، وهم يستهزئون بالإجراءات الأمنية الحاصلة، وينكرونها، ولا يرضون عنها. والغريب أن كل ما حدث برضا رئيس مجلس المحافظة الكردي الأصل بشار الكيكي، الذي يقطن إقليم كردستان، ومنه كان يدير شؤون مجلس المحافظة!

والحالة الثانية من الموقف الكردي وهي أدهى وأمر، إذا علمنا أن الهجوم الذي حصل على المحافظة من قبل المجاميع المسلحة في الجانب الأيسر (الشرقي) من المدينة، كان قد انطلق من مناطق تسيطر عليها قوات البشمركة الكردية بشكل تام، خصوصاً الهجوم الذي حدث على حي صدام ومنطقة التسعين، علماً أن البشمركة وقفت موقف المتفرج المتشمت ولم تمنع المسلحين من استخدام الأراضي الواقعة تحت سيطرتها في شن هجماتهم على القوات الحكومية ولو بطلقة واحدة، وقد شاهدت كل ذلك بعيني، فقد بدت القوات الحكومية وهي عاجزة أمام تقدم المسلحين القادمين من مناطق تسيطر عليها البشمركة الكردية، وكنت أرى قطعات البشمركة وهي في تحلل تام وليس لديها أدنى مستويات التأهب، بعد ذلك امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بصور قادة القوات الحكومية وهي تسلم نفسها لجنود البشمركة الكردية الذين بدت عليهم نشوة الشماتة والشجاعة الفارغة الكاذبة.

ثم بدأ الفصل الثاني من فصول الموقف الكردي بغلق جميع منافذ المدينة إلا منفذين، وعندهما تكدس المدنيون بشكل كثيف، صاحبه منع شبه تام للعرب من دخول المناطق المسيطر عليها من قبل القوات الكردية، فأخذ الناس بالعودة إلى منازلهم منذ منتصف اليوم الأول لسيطرة المسلحين على المدينة بسبب الهدوء والأمان الذي خيم على المدينة إثر انسحاب الجيش الحكومي ذي العقيدة والصبغة الطائفية الشيعية.

أما الفصل الثالث من الموقف الكردي، فبعد تطمين المسلحين بعدم استهداف إقليم كردستان بأي حال من الأحوال، أخذت قوات البشمركة بالسيطرة على كل ما كانوا يحلمون به من كركوك وجلولاء وخانقين، وغيرها من الأراضي العربية الغنية، بحجة سد الفراغ الأمني.

والفصل الرابع تمثل في منع قوات البشمركة الكردية شاحنات المواد الغذائية المستوردة من قِبل تجار موصليين من تركيا عبر أراضي إقليم كردستان؛ من دخولها للموصل، بل مصادرتها لصالح وزارة البشمركة، أعقبه سرقة رواتب الموظفين لصالح وزارة البشمركة، بحجة أن البشمركة لم يتسلموا رواتبهم منذ أشهر، ثم منع سيارات المحاصيل الزراعية من نقل محاصيلها إلى داخل مدينة الموصل، ثم تهجير القرى العربية المنتشرة على طول سهل نينوى والبالغ عددها بالمئات، آخرها قرية طقطق من ناحية بعشيقة بتاريخ 22/8، وهذا ما شاهدته بعيني، وكانت عشرات العوائل تنزح من قراها سيراً على الأقدام مخلفين وراءهم ما يملكون من بيوت وأموال وحلي وزروع بعد إمهالهم 24 ساعة للخروج، ثم يتباكى الأكراد على حماية الأقليات في سهل نينوى، (لكن حمزة لا بواكي له)، والعرب السنة خارج دموع الرأفة الكردية والدولية، ناهيك عن أصل الفتنة الحكومة المركزية.

الفصل الخامس من فصول الموقف الكردي: قصف مناطق السكر والعربي وحي صدام والفلاحات والحدباء والكفاءات بالهاونات والصواريخ، والتقدم للسيطرة على مناطق سادة وبعويزة والشلالات وأكاديمية الشرطة، وهو الشرارة التي أوقدت نار الحرب بين تنظيم الدولة الإسلامية والبشمركة الكردية، وفي غضون ليلة واحدة اندحرت قوات البشمركة إلى ما بعد حدود عام 1991م، الأمر الذي أعلنه التنظيم؛ بسبب سوء جيرتهم للمناطق المدنية الآمنة، ولا نية لديهم في دخول أراضي الإقليم.

من هنا بدأ الفصل السادس من الموقف الكردي بالتباكي على حماية الأقليات التي سحقت تحت ضربات (داعش)، لكن بعد التحقق من الأمر عبر زيارات متكررة لتلك المناطق (سهل نينوى)، وإجراء الكثير من الاتصالات بمن نعرفهم من أفراد الأقليات الهاربة؛ رووا لنا ما حدث بالضبط ليتكشف لنا ما يلي: أن الكرد ومنذ دخول المسلحين إلى مدينة الموصل وهم شرعوا في بناء سدود ترابية عالية في مناطقهم التي تقهقروا إليها بعد دحر (داعش) لهم، أي وكأنهم كانوا يعدون ومنذ اليوم الأول 9/6 لعملية انسحاب مدروسة وإيقاع (داعش) في فخ ومأزق دولي، ثم إن سكان بعشيقة وسنجار وزمار والحمدانية قالوا لنا إن قوات البشمركة كانت تحاصر مناطقهم وتمنعهم من الهجرة أو الهروب إلى دهوك أو أربيل، وإجبارهم على أن يلزموا مناطقهم، وأن البشمركة انسحبت من تلك المناطق دون إبداء أي مقاومة تذكر، ويصف لنا الحالة أحد شهود العيان من أقليات سهل نينوى بقوله: (انسحبوا البشمركة - ولم يطلقوا ولو إطلاقة واحدة)، وهرب الناس إلى الجبال وقضاء عقرة وأربيل، وكأنه أحد مشاهد يوم القيامة من شدة الزحام، ولا وجود لقوات البشمركة أو (داعش) في بادئ الأمر، حتى فرغت المنطقة تماماً، ثم دخلت (داعش) بهدوء ليخرج لنا قادة الكرد في محاولة لاستجداء التأييد الدولي لضمان إرجاع المناطق المتنازع عليها إليهم وبقرار أممي هذه المرة بدل تطبيق المادة (140) من الدستور العراقي، واعتبار الكرد حماة الأقليات في نينوى سوى العرب السنة!

رابعاً: الوضع الراهن

يتسم الوضع الراهن بما يلي:

الأمان قياساً عن السابق هو أشبه بالحلم، فالوضع آمن جداً داخل المحافظة، مع حذر مصحوب بقلق من القادم.

تذمر بسيط بسبب عدم تقبّل الناس الأحكام الشرعية تحت قهر السلطان مع إيمانهم بها.

إرباك في إدارة مؤسسات الدولة؛ فالرواتب والأوامر تصدر من بغداد، والمدينة تحت سلطة (الخليفة) المستقل؟! ثم إن مؤسسات المحافظة الرسمية لا تدار من قبل ممثلين عن وزارات تابعة للدولة الإسلامية، بل عن طريق أفراد يغلب عليهم الطابع العسكري.

عدم إشراك أي كفاءة من أبناء المحافظة في إدارة المدينة إلا بعد إعلان البيعة الخاصة (للخليفة)، الأمر الذي دفع بكثير من قيادات المجتمع الموصلي إلى الاعتزال عن الناس وغلق حتى جوالاتهم لضمان ابتعادهم عمن يقصدهم بشيء.

وأخيراً: إن ما حدث لأقليات الموصل لم يبلغ معشار ما أصاب العرب السنة في المحافظة على يد البشمركة والقوات الحكومية، التي أخذت تسلب سيارات وحلي وأموال العرب الخارجين والداخلين للمحافظة على غرار ما فعلت (داعش) بالنصارى حتى قبولهم دفع الجزية، أما ما يسرق من العرب السنة على يد البشمركة فيصبح في خبر كان.

 

:: مجلة البيان العدد  328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر  2014م.

أعلى