حرب غزة مقدمة لانتكاسات صهيونية قادمة
بات
واضحاً أن حرب غزة الأخيرة التي استمرت أكثر من 50 يوماً بين المقاومة الفلسطينية
بقدراتها المحلية، والجيش الإسرائيلي الأكبر في المنطقة؛ ستدخل كتب التاريخ
العسكري لدى الجانبين، على اعتبار أنها الحرب السابعة التي تخوضها إسرائيل ضد
العرب.
لكن الأكثر وضوحاً بعد أن وضعت الحرب
أوزارها، وهدأ هدير المدافع وأزيز الطائرات، وتوقفت حمم القنابل والصواريخ؛ حالة
التلاوم الداخلي في إسرائيل والاتهامات المتبادلة حول نتيجة الحرب على غزة، وقد
تمحور معظمها في استخدام مفردات: «الفشل، الإخفاق، التقصير، والتراجع».
فقد أكدت الأوساط الإسرائيلية أنّ إسرائيل
فشلت عملياً في تحقيق أي من أهدافها في الحرب، داعية قيادة الدولة لاستخلاص العبر
المطلوبة؛ لأنها لم تفِ بتعهداتها بردع حركة حماس ونزع سلاحها، وبدلاً من أن الحرب
كان يتوجب بها أن تقضي على الحركة، فإنها أمدّتها بالشرعية وجعلت دول العالم
والقوى الإقليمية تتواصل معها وتعترف بمكانتها.
كما يصعب العثور في الداخل الإسرائيلي على
إنجاز واحد يبرر «التضحيات الجسام» التي قدمتها الجبهة الداخلية، وهو ما يتطلب
ضرورة إجراء تحقيق شامل في مسار الحرب، وتقصي الحقائق في كل ما يتعلق بالأداء
العسكري والسياسي؛ لأن إسرائيل دخلت معركة غزة بتردد، وانجرت وراء التحركات
القتالية، وخلقت انطباعاً وكأنها تريد الهدوء بكل ثمن.
وقد بدت إسرائيل غير مستعدة لخوض القتال،
وهذا التصرف يمس قدرة الردع الإسرائيلية بشكل خطير، ويلحق بها ضرراً طويل الأمد،
لا سيما أنها لم تفلح في الاستفادة من الدعم الدولي الكبير الذي حصلت عليه في
بداية العملية.
بل إن بعضاً من المسؤولين والخبراء
العسكريين في إسرائيل لم يتردد في القول: إنه بعد 50 يوماً من الحرب في غزة، فإنّ
النتيجة 1/0 لصالح حماس، رغم أنّ الفلسطينيين نزفوا دماً أكثر، إلا أنهم بعد ما
يقرب من الشهرين قد يروا تحسناً محتملاً في وضعهم، وهو هدف أي استعراض للقوة،
وبحساب بسيط للتكاليف مقابل المكاسب بالمقارنة بالموقف الذي كان سائداً في السابع
من تموز حين بدأت الحرب على غزة؛ يتضح أن إسرائيل خسرت أكثر.
وهكذا، فإن كل ما حصلت عليه إسرائيل من حرب
غزة هو استعادة الوضع السابق، بينما كان الثمن الذي دفعته 70 قتيلاً ومئات
المصابين، واقتلاع الآلاف من المستوطنين من منازلهم هرباً من صواريخ حماس.
ورغم أنه في كل من المجالات تمثل الخسارة 3%
مما عاناه الفلسطينيون في غزة، فليس هناك عائد يمكن الشعور به لما تكلفته إسرائيل.
وإضافة للضحايا، نجحت حماس بتعطيل الحياة فيها في عدة مجالات: تعليق جزئي للرحلات
الجوية لمطار «بن غوريون»، وإلغاء عديد من الحفلات والعروض وغيرها من فعاليات
عامة، والتهديد بتأخير محتمل في افتتاح العام الدراسي.
فيما قال مستوطنون من سكان المستوطنات
المحيطة بغزة، الذين غادروا مستوطناتهم وبيوتهم بسبب «حرب الاستنزاف» التي تطورت
في الأيام الأخيرة من الحرب؛ إنهم لا يفكرون بالعودة لبيوتهم، على اعتبار أن
الاتفاق مع حماس خضوع لها، مع أنهم أرادوا الحسم في القتال، لكن ذلك لم يحصل،
فحماس طرحت مطالبها بقوة ذراعها، ومن المتوقع أن تحصل عليها.
ولذلك ظهرت النتائج الأولية «الكارثية» لحرب
غزة على الإسرائيليين حين بدأ سكان المستوطنات الجنوبية يتوافدون على مدن الوسط
الإسرائيلي ووجوههم يملؤها الخوف، ودموعهم تسيل، حين تأكدوا أن المقاومة
الفلسطينية باتت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق شروطها، وهذا وضع لا يطاق لدى
الإسرائيليين الذين يقولون إنه ما كان يجب أن يصلوا إليه.
حصل ذلك بعد أن صمدت غزة 50 يوماً كاملة
أمام الجيش الأكثر تطوراً والأكثر قوة في الشرق الأوسط دون أن تستسلم، في حين ترك
الآلاف من الإسرائيليين بيوتهم في غلاف غزة، وبحثوا عن ملجأ لغاية عبور الغضب، ما
يعني أن المقاومة الفلسطينية أدارت لمدة 50 يوماً طريقة حياتهم؛ تملي عليهم ماذا
يفعلون، ومتى سيكون وقفاً لإطلاق النار، وإسرائيل استجابت.
وهكذا تحولت حماس بنظر الإسرائيليين فور أن
وضعت الحرب أوزارها، وعاد المقاتلون في الجانبين إلى عائلاتهم؛ خطوة فخطوة إلى
عامل مهم في أي تسوية إقليمية، وإسرائيل ستكون بحاجة للحديث مع قادتها مستقبلاً؛
لأنّ انتصار الفلسطينيين ليس لأحد على الآخر، بل هو لمكانتهم داخل العالم العربي،
ما يرجح وصف نتيجة الحرب على غزة بـ «الانهيار»؛ لأن إسرائيل خاضت مواجهة بين أقوى
جيوش المنطقة مع تنظيم يعد بنحو 15 ألف مقاتل، وعدد أقل من القذائف الصاروخية.
وهذا ليس مجرد سقوط لإسرائيل، بل انهيار.
كل ذلك يعني أن «نتنياهو» ورفاقه في الحكومة
سيخضعون للمحاسبة، وإجراء حساب مع النفس حول جدول الأعمال، وسلم الأولويات الذي
حاولوا فرضه في السنوات الأخيرة؛ لأنّه من الواضح أن إسرائيل لم تستعد بشكل مناسب
لمواجهة الأنفاق وقذائف الهاون، ويتعين عليها أن تبدأ منذ اليوم الاستعداد للمعركة
القادمة ولـ «جرف صامد» آخر؛ لأنّ 50 يوماً من القتال في مواجهة حماس تسببت بهزة
لعقيدة الحرب الإسرائيلية، مع إجراء فحص معمق لعقيدة القتال لإنعاشها، وترجمتها
لخطوات سياسية وأعمال عسكرية، وإلا سيصعب الإشارة لصورة واحدة من صور الانتصار
تمكّنها من مواجهة الانتقادات.
وهو ما يدفع صنّاع القرار فيها للبحث عن
بدائل سياسية تتلاءم مع معطيات الواقع الإقليمي؛ لأنّ إسرائيل اليوم تقودها حكومة
ضعيفة ومترهلة، وائتلاف يجعلها مصابة بالشلل السياسي، وجاء اتفاق وقف إطلاق النار
مع حماس ليبقي الجمهور الإسرائيلي محبطاً، ما يبقي حماس تشكل تهديداً على البلدات
الإسرائيلية حتى حيفا، وبينما توقع الجمهور نهاية مغايرة للقتال، فقد تلقى خيبة
أمل.
أخيراً.. فإن حرب غزة التي خاضتها إسرائيل،
وختمتها باتفاق جرى توقيعه في القاهرة؛ تعد بمنزلة فشل لإسرائيل؛ لأن أمنها سيظل
مهدداً بصواريخ المقاومة، والتهدئة ستسمح لحماس بمزيد من تطوير معداتها وصواريخها
العسكرية، وهذا يؤكد أن نتائج الحرب لإسرائيل قاتمة للغاية؛ لأنها لم تحقق الردع
الكافي الذي يمنع حماس من مهاجمتها مجدداً. وبدلاً من أن تكون الحرب الأخيرة تمهد
الطريق للقضاء على التهديد من غزة، فإنها مهدت الطريق للجولة المقبلة في غزة أو
سواها من الجبهات المتململة.
وهكذا نسفت حرب غزة القناعات
والشعارات التي ظلت ترددها إسرائيل، وباتت تعترف بشكل واضح وجلي باستحالة تحقيق
نصر على الفلسطينيين؛ لأن إسرائيل بدت كإمبراطورية أنهت توسعها، وتواجه الآن آلام
التقلص، كباقي الإمبراطوريات السابقة التي لم تكن حذرة من التوسع الزائد.
:: مجلة البيان العدد 328 ذو الحجة 1435هـ، أكتوبر 2014م.
:: ملف
خاص بعنوان "غزة تقاوم"