ابن خلدون .. الرؤية الثاقبة في الفكر الاقتصادي
يميِّز أغلـب الباحثيـن في سيرة ابن خلدون وحياته التي
امتدَّت على مدى أربعةٍ وسبعين عاماً، بين ثلاث مراحل في حياته العُمُريَّة: مرحلة
النَّشأة والتَّكوين التي قضاها في تونس، ومرحلة النضال السياسي التي تنقَّل فيها
بين المغرب الأوسط والأقصى والأندلس، ومرحلة التَّدريس والقضاء التي امتازت
بِهدوءٍ نسبيٍّ استقرَّ فيها في القاهِرة، وإن لَم يفُته أن يزورَ الشَّام
والحجاز.
ويُمكننا القول: إنَّ ابنَ
خلدون عاش عمراً حقيقيّاً أطْول بكثيرٍ من عمره الزَّمني؛ إذْ إنَّ العمر
الحقيقيَّ يقاس بالأعمال، أمَّا العمر الزمني فيقاس بوحدات الزَّمن، فقد توزَّعت
حياتُه بين التَّأليف، وتولِّي وظائف عامَّة لها أهميَّتها، وسِفارات في مهمَّات
رسميَّة.
أما بالنسبة لمقدِّمته التي
نستقي منها أهمَّ أفكارِه الاقتصاديَّة، فقد بدأ ابن خلدون في كتابتِها في عام
775هـ أثناءَ إقامتِه في قلعة ابن سلامة، ويصِف لنا ابن خلدون إقامتَه في هذه
القلعة قائلاً: «وأقمتُ فيها أربعة أعوام، متخلِّياً عن الشَّواغل، وشرعتُ في
تأليف هذا الكتاب وأنا مقيمٌ بها، وأكملتُ المقدِّمة على ذلك النَّحو الغريب
الَّذي اهتديتُ إليْه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر،
حتى امتخضت زبدتُها وتألَّفت نتائجها»، وقد أنهى ابن خلدون كتابة مقدمته في منتصف
سنة 779هـ.
ثم إنَّ الــدراسات
المنْجَزة من طرف المسلمين - بَلْهَ الغربيِّين - عن شخصيَّة ابن خلدون وكل ما
تعلَّق به من أفكار وآراء، كثيرةٌ جدّاً لا يمكن حصْرها، وإذا كان بعض الناس قد
اعتبر أنَّ ابن خلدون لم يَترُك علماً إلاَّ وتناول منه جزءاً: فمِن التَّاريخ إلى
السياسة إلى الُملْك إلى الاقتصاد، فإنَّ علم الاقتصاد الذي لم يكن آنذاك - شأنه شأن
كثير من العلوم - مستقلاً عن العلوم الاجتماعيَّة، قد حاز اهتماماً كبيراً من جانب
ابن خلدون.
وتشكِّل «أفكار» عبدالرحمن
بن خلدون الاقتصاديَّة المبادئ الأساسيَّة للفكر الاقتصادي الغربي، لكن بانتقاءٍ
منهم لخدمة عقيدتِهم الماديَّة النَّصرانية التي شغلت الاقتصاديين على مدى القرنين
التَّاسع عشر والعشرين، وأفرزت مدارس اقتِصادية غربية (الكلاسيكية، الاشتراكية،
النيو - ليبرالية...) ومن أشْهر النظريات الاقتصاديَّة التي ظهرت في القرن
العشرين: نظرية الاقتصاديِّ الإنجليزي (جون مينارد كينز) (توفي 1946م)، التي
اكتملتْ في كتابه المنشور عام 1936م؛ فقد أدخل (كينز) العامل النفسي في التَّحليل
الاقتصادي.
وهذا الانتقاء الحضاري ليْس
غريباً في حقِّ هؤلاء الَّذين يُتْقِنون عمليَّة الانتقاء، وإلاَّ فكيف نفسر إسقاط
نسبة الرِّبا من قِبل دولة اليابان مع الأزمة الماليَّة العالمية لسنة 2009م
(الَّتي يسمُّونها زوراً وبهتاناً بالفائدة) إلى مستوى الصفر؟ واليابان هي التي
يصِفها بعضهم بالقزم السياسي والعملاق الاقتِصادي؛ وذلك لحصار الأزمة المالية
العالميَّة التي ضربت طولاً وعرضاً أقوى بلدان العالم.
والآن إليك - أخي القارئ
الكريم - أهمَّ الأفكار التي جادت بها قريحة المؤرِّخ الإسلامي الكبير ابن خلدون -
رحمه الله - التي تنصَّل الفكر الاقتصادي الغربي من الاعتراف بفضلِه الكبير عليهم
في هذا المجال. وأفكار ابن خلدون لم تأتِه هكذا جزافاً، بل استقاها من كتاب الله
وسنَّة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا لا يعني البتَّة أنَّ ابن خلدون
لم يسقط في بعض الهفوات، وهذا ليس عيباً في حقِّ عمالقة الاجتِهاد بنوعَيْه
(الشَّرعي والفكري)، على حدِّ تعبير الدكتور عمر عبيد حسنة.
العدل أساس
العمران الاقتصادي:
لأن «العدل تُحْفظ به
العمارة فالظُّلم يخلُّ بحفظها»، ويترجَم الظلم في البلد من خلال «وضْع الضِّياع
في أيْدي الخاصَّة»، وكذلك يقوم المفسدون «بالعدوان على النَّاس في أموالهم»؛ لذا
فإنَّ ابن خلدون يُزْجِي نصيحةً ليتَ كلَّ الحكَّام الفاسدين وأعوانهم يأخذون بها.
يقول: «عليْنا أن ننزع الظلم عن النَّاس؛ كي لا تخْرب الأمصار وتكسد أسواق العمران،
وتقفر الديار، وخاصَّة أنَّ الشَّارع أشار في غير موضع إلى تحريم الظلم».
ويذهب ابن خلدون إلى أبعد من
الحديث عن رفْع الظلم، إلى المُدَد الزمنيَّة التي تستغْرِقها الدَّولة حتى تظهر
آثار الظُّلم فيها؛ حيث يقول: «إنَّ نقْص العمران بالظُّلم يقع بالتَّدريج»،
ويتوقَّف طولُ وقِصَر زمن الخراب «حسب كِبَر حجْم المِصْر».
ويقول: «يقع الخراب بالظُّلم
دفعةً واحدةً عند أخْذ أموال النَّاس مجَّاناً، والعدْوان عليْهم في الحُرَم
والدماء، ويقع الخراب بالتدريج»، بإحْدى الوسائل الثَّلاثة الآتية:
1 - بذرائع باطلة يتوسَّل
بها؛ كالمكوس (الضَّرائب) المحرَّمة والوظائف الباطلة.
2 - تكْليف الأعمال وتسخير
الرعايا بها؛ حيثُ يغتصبون قيمة عملهم.
3 - التَّسلُّط على النَّاس
في شراء ما بأيديهم بأبْخس الأثمان.
القوانين
الاقتِصاديَّة عند ابن خلدون:
لقدِ اكتشف ابنُ خلْدون
قوانين اقتِصاديَّة متعدِّدة، مستنداً في ذلك إلى كتاب الله وسنَّة الحبيب المصطفى
صلى الله عليه وسلم وفقه الواقع، ويُمكن أن تصنَّف في مجموعتين:
الأولى: تتضمَّن قوانين تعمل
على تفسير نقْل المجتمع من حالةٍ إلى حالة أخرى، أو من مرحلةٍ إلى مرحلة.
والمجموعة الثَّانية: تتضمَّن قوانين تعْمل على تفسير متغيِّرات اقتِصاديَّة
معيَّنة.
من أمثِلة النَّوع الأوَّل:
القانون المفسِّر لعلاقة العمران بالصَّنائع، والقانون المفسِّر لعلاقة العمران
بالعلم والتَّعليم.
ومن أمثِلة النَّوع
الثَّاني: القوانين المفسِّرة للأثمان، المتضمَّنة في نظريَّة القيمة عند ابن
خلدون.
وفائِدة القانون عند ابن
خلدون يُحَدِّدها النَّص السَّادس؛ فالقانون مِعْيار للصِّدق والصَّواب، أو هو
مِعْيار لتَمْيِيز الحقِّ من الباطل، والقانون عنده معيار لتمْييز الحقِّ من
الباطل، وبذلك تكون له مرجعيَّة بالنسبة للماضي والحاضر، ولَم يسحب ابن خلدون
مرجعيَّة القانون إلى المستقْبل؛ والسَّبب في ذلِك هو إيمانه بأنَّ الغيب لله
يُجريه وَفْقَ إرادته.
أوجه المعاش
في عصْـر ابن خلـدون وما يُقابِلُها في عصرِنا الرَّاهن:
يقسِّم ابن خلدون الأعمالَ
إلى نوعَين: فرْدي وجماعي، كما يفرِّق من جهة أخرى بين الإنتاج اليدوي والإنتاج
الحضري، ثمَّ درس ابن خلدون الأعمال وصنَّفها من حيث طبيعتُها.
إنَّ المقصود من العملِ في
نظَر ابن خلدون هو «ابتغاء الرزق»، وتعريف الرِّزْق: هو «الحاصل أو المقتنَى من
الأموال بعد العمل والسَّعي، إذا عادت على صاحبِها بالمنفعة وحصلت له ثمرتُها من
الإنفاق في حاجاته»، لقد وضع ابنُ خلدون تعريفَه هذا بالاستِناد إلى الفِقْه ثمَّ
زاده تثبيتاً الحديث؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّما لك من مالِك ما أكلْتَ
فأفنيتَ، أو لبِسْت فأبليْت، أو تصدَّقت فأمضيت»[1].
ويرى ابنُ خلدون أنَّ المعاش
إمارة، وتجارة، وفلاحة، وصناعة:
• أمَّا الإمارة فليستْ
بِمذهب طبيعي للمعاش، وهي تشمل الجندي والشرطي والكاتب، وهي عبارةٌ عن الجبايات
السلْطانيَّة في ذلك الوقت، والضَّرائب والرُّسوم في عصْرِنا الحاضر.
• وأمَّا الفِلاحة
والصِّناعة والتِّجارة، فهي الوجوه الطبيعية للمعاش.
• ونَجد أنَّ الفلاحة
متقدِّمة على القطاعات كافَّة؛ لأنَّها كانت بسيطة وطبيعيَّة فطريَّة لا تحتاج إلى
نظرٍ ولا علم؛ ولهذا تنسب الفلاحة في الخليقة إلى آدمَ أبي البشَر، وهو معلِّمها
والقائم عليْها، وهذا يعني أنَّها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة.
موقف ابن
خلدون من تدخُّل الدَّولة في الحياة الاقتِصادية:
يقِف ابن خلدون موقفاً
متشدِّداً من تدخُّل الدَّولة في الحياة الاقتِصاديَّة، خاصَّة في حالة الظُّلم
والإفْساد والاحتِكار والتسلُّط، كما نُشاهِده عياناً في هذا العصْر، من خلال
مساعدة الدَّولة لأصحاب النفوذ المالي، والقضاء على أصحاب المقاولات الصُّغرى،
الَّتي لا تتلقَّى الدَّعم من طرف الدَّولة، ومن ثَمَّ تتعرض للإفلاس.
لذا يؤكِّد أنَّ «أكثر
الأحكام السلطانية جائِرة في الغالب؛ إذِ العدل المحض إنَّما هو في الخلافة
الشرعية وهي قليلة اللَّبث؛ فالسُّلطان والأمراء لا يتركون غنيّاً في البلاد إلاَّ
وزاحموه في ماله وأملاكه، مستظلِّين بحكم سلطاني جائر من صنعهم».
من هنا سبق في ذلك
الاقتِصاديَّ الغربيَّ الكلاسيكي «آدم سميث» بنحو خمسة قرون.
لكن ابن خلدون يرفُض تدخُّل
الدولة المباشر في الإنتاج والتِّجارة؛ لما يترتَّب عليه من أضرار اقتِصاديَّة.
وأهم وجوه الضَّرر تتلخَّص في القضاء على ظروف المنافسة السَّائدة في السوق،
واتِّخاذ الدَّولة وضعاً احتكاريّاً؛ لقوَّتِها الاقتِصادية، واعتمادها على نفوذها
وسلطانِها في البيع والشراء، واستِنْزافها رؤوس الأموال السَّائلة لدى المنتجين
والتجَّار، وهو ما يقعدهم عن السعي للكسب والمعاش، وينتهي كلُّ ذلك إلى تقليص
الجباية وانخفاض موارد الدَّولة، وهي نتيجة مناقضة للهدف المبتغى من وراء تدخُّل
الدَّولة في النشاط الاقتِصادي.
فمن أعظم صور الظُّلم وإفساد
العمران والدَّولة في رأي ابن خلدون: «التسلط على أموال الناس بشراء ما بين أيديهم
بأبخس الأثمان، ثمَّ فرض البضائع عليهم بأرْفع الأثْمان، على وجه الغصب والإكراه
في الشِّراء والبيع»؛ فإذا تكرَّر ذلك فإنَّه يُدخِل على الرعايا «العنت والمضايقة
وفساد الأرباح، وما يقبض آمالهم من السعي في ذلك جملة، ويؤدي إلى فساد الجباية،
فإنَّ معظم الجباية إنَّما هي من الفلاحين والتجَّار، لا سيَّما بعد وضع المكوس
ونمو الجباية بها، فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعدَ التجَّار عن التِّجارة،
ذهبت الجباية جملة، أو دخلها النَّقص المتفاحش».
وهكذا يخلص ابن خلدون إلى
أنَّ تدخُّل الدَّولة في الشؤون الاقتِصاديَّة «مُضِرٌّ بالرعايا ومفسد للجباية»،
ويرجع ذلك إلى أنَّ هذا التدخُّل يقضي على المنافسة ويدعم الاحتِكار ويضيِّع
تكافُؤ الفرص، ويضعف الحافز الاقتِصادي لدى الأفْراد.
البحث في
مصْدر الثَّروة:
إذا كانت إشكاليَّة القيمة
تحتلُّ أهميَّة قصوى في كتابات الكلاسيكيِّين، وماركس، وألفرد مارشال، فإنَّ ابن
خلدون يُعتبَر سبَّاقاً في الإقرار بالعمل كأساس للقيمة؛ وذلك من منطلق عقيدتنا
ودينِنا الحنيف الَّذي يحثُّ على العمل، ولنا في رسولِنا الكريم صلى الله عليه
وسلم المعلِّم الأكبر الأسوة الحسنة.
ويقول ابن خلدون - رحمه الله
-: «لا بدَّ في الرزق من سعي وعمل، ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه».
ويربط ابن خلدون قيمة العمل
بالمنفعة المباشرة وغير المباشرة، فالحاجة إلى الأعمال والسِّلع تحدِّد قيمتها.
يقول: «فالكسب كما قدَّمناه قيمة الأعمال، وأنَّها متفاوتة بِحسب الحاجة إليْها،
فإذا كانت الأعمال ضروريَّة في العمران عامة البلوى به، كانت قيمتها أعظم وكانت
الحاجة إليها أشد».
الضَّرائب:
يقول ابن خلـدون: يقـع
الخراب بالتَّـدريج - كما رأيْنا آنفاً - بإحدى الوسائل الثلاث الآتية:
1 - بذرائع باطلة يتوسَّل
بها، كالمكوس (الضَّرائب) المحرَّمة والوظائف الباطلة.
وقبل الحديث عن موقف ابن
خلدون من الضَّرائب نسطِّر موقفه من الزكاة، التي جعلها حقّاً واجباً لا إحساناً،
كما اعترف بذلك المستر «دانيل جيرج» في مُحاضرة ألقاها؛ حيث يقول: «إنَّ المجتمع
الغربي لم يعترِف بحق الفقراء في أموال الأغنياء إلاَّ في بداية القرْن السَّابع
عشر الميلادي، عندما أصدرت ملكة بريطانيا قانوناً أسْمتْه «قانون الفقراء».
ويتحدَّث ابن خلدون في موضع
آخر عن مستوى «العبء الضريبي»، ورأى أنَّه يرتبط بدرجة التطوُّر والتحوُّل
الاجتماعي والاقتصادي الذي تبلغه الدَّولة، فكلَّما نمت الدَّولة وتطوَّرت، زادت
نفقاتها، ومن ثَمَّ اتَّجهت نحو فرض مزيدٍ من الضَّرائب والرسوم. يقول: «اعلم أنَّ
الدَّولة تكون في أوَّلها بدويَّة كما قلنا، فتكون لذلك قليلة الحاجات؛ لعدم
التَّرف وعوائده، فيكون خَرْجها وإنفاقها قليلاً، ثمَّ لا تلبث أن تأخُذ بدين
الحضارة في التَّرف وعوائدها، وتجري على نهج الدَّولة السَّابقة قبلها، فيكثر لذلك
خراج أهل الدَّولة، ويكثر خراج السُّلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصَّته
وكثرة عطائه، ولا تفي بذلك الجباية، فتحتاج الدَّولة إلى الزيادة في الجباية،
فتزيد في مقدار الوظائف والوزائع.
ويدرك الدَّولةَ الهرَمُ،
فتقلُّ الجباية وتكثر العوائد، فيستحدث صاحب الدَّولة أنواعاً من الجباية يضرِبُها
على البياعات، ويفرض لها قدراً معلوماً على الأثْمان في الأسواق، وعلى أعْيان
السِّلَع في أموال المدينة، وهو على هذا مضطرٌّ لذلك بما دعاه إليْه ترف النَّاس
من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية، وربَّما يزيد ذلك في أواخِر الدَّولة
زيادة بالغة، فتكسُد الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختِلال العمران ويعود على
الدَّولة، ولا يزال ذلك يتزايدُ إلى أن تضمحل».
الإنفاق
العام:
أي: إنَّ النَّفقات العامَّة
تزيد بتطوُّر حظِّ الدَّولة من الحضارة والعمران. فابن خلدون إذاً يرى أنَّ إنفاق
الحكومة للمال العامِّ في شراء السِّلَع والخدمات، وتقديم الأموال (الإعانات) لبعض
المواطنين ضروري لرواج الأسواق وتحقيق النمو الاقتِصادي، وهي الأفكار ذاتها التي
تمثِّل المحور الرئيس للنظرية الكينزية التي أحدثت ثورة في الفكْر الاقتصادي قبيل
الحرب العالميَّة الثَّانية، فزيادة الطَّلب الفعَّال المموَّل من الدَّولة، في
إطار مشروعات الأشْغال العامَّة والإعانات الاجتِماعيَّة، وهو الحل المتميِّز
الَّذي اقترحه جون مينارد كينز (اللورد كينز) للخروج من أزمة الكساد الكبير التي
حاقت بالاقتِصاديَّات الغربية في فترة ما بين الحربين العالميتين.
النمو
الاقتصادي وعلاقته بالعمران:
يقول ابن خلدون: «فالعمران
يؤدِّي إلى زيادة الدَّخل، التي تؤدي بدوْرِها لزيادة الإنفاق، الَّذي يمثل طلباً
على السلع التَّرَفيَّة ما يؤدي إلى رواجها، ومن ثمَّ زيادة حجم إنتاجها، الأمر
الذي ينجم عنه زيادة الدَّخل الذي يحقِّقه القائمون على هذا الإنتاج، ثم يتحوَّل
هذا الدخل مرَّة ثانية إلى إنفاق، وتتكرَّر الدورة نفسها من جديد».
فنظرية ابن خلدون التطورية
للاقتصاد لا تتوقَّف عجلتها عند وصف الأوضاع الاقتصادية في راهنيتها، بل تتجاوزُها
إلى تحليل تطوُّر الأوضاع الاقتِصاديَّة على مسافة زمنيَّة طويلة، ودراسة الآثار
المترتِّبة عن حدث اقتِصادي معيَّن، وهو ما نسمِّيه حاليّاً بالتَّخطيط الاقتصادي.
تعظيم
المنافع:
وهو البحث عن أعظم منفعة،
بافتراض بقاء الأشياء الأخرى على حالها؛ أي: إذا استوى خِياران في كلِّ شيء إلاَّ
المنفعة، تمَّ الأخذ بالخِيار ذي المنفعة العظمى، يقول ابن خلدون (808 هـ): «اعلم
أنَّ التجارة محاولة الكسب بتنمية المال، بشراء السِّلع بالأرخص، وبيعها بالغلاء،
أيّاً ما كانت السِّلْعة، من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش، وذلك القدْر النَّامي
يسمى ربحاً، فالمحاول لذلك الربح إمَّا أن يَختزِن السِّلْعة، ويتحيَّن بها حوالة
(تغيُّر) الأسواق من الرُّخْص إلى الغلاء، فيعظم ربْحه، وإما بأن ينقله إلى بلد
آخر، تَنْفُق (تروج) فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه، فيعظم ربحه».
نظريَّة ابن خلدون
في التزايد السكَّاني:
تتَّسم نظرة ابن خلدون
بالتفاؤل، على عكس مالتوس؛ وذلك تبعاً لمرجعيَّة كل منهما، فالأول نظرته إسلاميَّة
والثَّاني صهيونية، فالإنسان هو سبب الظَّاهرة الاقتصاديَّة، وقد ربط بين الزيادة
السكَّانية والزيادة في العمران، وعلاقتها بمستوى المعيشة، كما بحث أثر الرَّخاء
في زيادة السكَّان.
وبهذا يكون ابن خلدون قد
خالف النظريَّة التشاؤميَّة لروبير مالتوس، وتعامل مع القضيَّة بنوع من
الموضوعيَّة في الطَّرح عوض الانسياق وراء الترَّهات المادِّيَّة، الَّتي تسعى
لهدْم كرامة الإنسان والإنسانيَّة عامَّة والنُّزوع بها إلى الحيوانيَّة كما نظَر
لذلك اليهودي «روبير مالتوس»:
• النمو السكَّاني يجلب
الحاجة إلى تخصُّص الوظائف الذي بدوْرِه يؤدِّي إلى دخول أعلى.
• النمو السكَّاني يتركَّز
أساساً في المدن؛ لذلك سكَّان المدن ذات الحجم الكبير أكثر رفاهية من المناطق ذات
الحجم السكَّاني الأقل، والسَّبب هو الاختلاف في طبيعة الوظائف التي تؤدى في
المناطق المختلفة.
ودائماً في دراسته للسَّاكنة
النَّشيطة يقول ابن خلدون: «يؤدي نمو السكَّان وتطوُّر العمران إلى ظهور تقْسيم
للعمل الاجتِماعي، وتخصص يزيد من مقدار الإنتاج».
والسَّبب في ذلك كما يشرحه
ابن خلدون: «أنه إذا عُرِف وثبت أنَّ الواحد من البشر غير مستقلٍّ بتحصيل حاجاته
في معاشه، وأنَّهم متعاونون جميعاً في عمرانِهم على ذلك، والحاجة التي تحصل بتعاون
طائفة منهم تسدُّ ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً؛ فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على
حاجات العاملين وضروراتِهم».
ابن خلدون
وتحليل ظاهرة التضخُّم:
ولم يُغفِل ابن خلدون تحليل
ظاهرة التضخُّم بالقدر الذي كانت عليه في عصره، فيرى أنَّه «إذا استبحر (اتَّسع)
الـمِصْر وكَثُر ساكنه، رخصتْ أسعار الضَّروري من القوت وما في معناه، وغلت أسعار
الكمالي من الأدم[2]
والفواكه وما يتبعها، وإذا قلَّ ساكن المصر وضعف عمرانه، كان الأمر بالعكس».
وتفسير ذلك هو أنَّ إنتاج
السِّلع الضروريَّة يزيد بزيادة العمــران حتَّــى تعــمَّ وتــرخــص أسعارُها.
أمَّا السِّلع الكمالية فإنَّها لا تنتشِر بالقَــدْر نفــسه وترتفع أثْمانُها
لثلاثة أسباب:
«الأوَّل: كثرة الحاجة لمكان
التَّرف في المِصْر بكثرة عمرانِه.
والثَّانــي: اعتــزاز أهل
الأعمال بِخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتِها.
والثــالث: كثــرة
المتــرفين وكثرة حاجاتِهم إلى امتهان غيرِهم وإلى استعمال الصنَّاع في مهنهم،
فيبذلون في ذلك لأهْل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمةً ومنافسةً في الاستئثار
بها، فيعتزُّ العمَّال والصنَّاع وأهل الحرف، وتغلو أعمالهم وتكثُر نفقات أهل
المِصْر في ذلك».
ويُدِين ابن خلدون الاحتكار
بعبارات صريحة، فيقول: إن «احتكار الزرع لتحيُّن أوقات الغلاء مشؤوم، وإنَّه يعود
على فائدته (المقصود: صاحبه) بالتَّلف والخسران».
ابن خلدون
وظاهرة الريع:
إن قيمة العقارات ترتفِع مع
تطوُّر العمران، ومن ثَمَّ تزيد ثروات ودخول مُلاَّكها دون سعي وكدٍّ من جانبِهم.
ابن خلدون
والنقود:
يوضِّح ابن خلدون نظْرَته
إلى النقود على أنَّها مقياس للقِيمة ووسيط للتَّبادُل؛ حيث هي حكمة إيجادها.
يقول: «إنَّ المال المتردِّد بين الرعيَّة والسُّلطان، وهو حكمة إيجاده منهم
إليْه، ومنه إليهم».
توازن السوق:
في سوق المنافسة الحرَّة أو
السوق الحرَّة، فإنَّ آلية السعر هي التي تُحدِث التوازن في هذه السوق. في
النظريات الاقتصاديَّة يعتبر «فالراس» هو أوَّل مَن أشار إلى ذلك، لكنَّنا سنجد
أنَّ ابن خلدون قد أشار إلى هذه الفكرة قبله بردحٍ طويلٍ من الزَّمن:
يقوم قانون التَّوازن «الفالراسي» على أنَّه: «إذا كان هناك فائض في العرض، فإنَّ
الأسعار تنخفض، بينما يؤدِّي فائض الطَّلب إلى ارتفاع الأسعار».
وقد أشار ابن خلدون إلى هذا
القانون من خلال مقدمته في موضعين:
الأوَّل:
عندما أراد شرْح انخفاض أسعار الغِذاء بينما تبقى أسعار الكماليات مرتفعة.
الثَّاني:
عندما يناقش تِجارة الأطعِمة من طرف التجَّار ونَقْلِها من مدينة إلى أخرى.
خاتمة:
يتبيَّن ممَّا سبق أنَّ ابن خلدون شخصيَّة شموليَّة في التَّفكير الاقتصادي؛ إذ
سعى من تجرِبته الميدانيَّة وتبحُّره في العلم الشرعي إلى الخروج بمواقف وتصوُّرات
اقتِصاديَّة، أصبحت إحدى الركائز الأساسيَّة لبعض النظم الاقتِصادية الحالية.
كما أنَّ ابن خلدون توصَّل إلى تحليلات اقتِصادية مركَّزة في ظروف كانت فيها
أوروبا ما تزال قابعة في ظلمات القرون الوسطى، وما يزال فيها الفكر جامداً[3].
الهوامش والمراجع المعتمدة:
1 - ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، الطبعة الأولى، بيروت:
دار القلم، 1978م.
2 - جامع، أحمد، التَّحليل الاقتصادي الكلي، القاهرة:
دار النهضة العربية، 1973م.
3 - جامع، أحمد، النظريَّة الاقتصادية، الطبعة
الرابعة، ج2، القاهرة: دار النهضة العربية، 1987م.
4 - د. رفعت السيد العوضي: ابن خلدون وريادته
للدراسات الاقتصاديّة: دراسة في البعد المعرفي، مجلة إسلامية المعرفة.
5 - الدكتور بن علي بلعزوز والدكتور عبدالكريم قندوز:
«مبدأ «الضريبة تقتل الضريبة» بين ابن خلدون ولافر»، المعهد الإسلامي للبحوث
والتدريب، الشبكة العنكبوتية.
6 - علال البوزيدي، «نظرات في الفكر المنهجي عند ابن خلدون»،
مجلة الأمة، العدد 38، سنة 1404هـ.
[1] رواه النسائي في سننه.
[2] الأدم:
جمع إدام، وهو ما يُستمرأ به الخبز.
[3] ملحوظة:
إن ابن خلدون مفكر وفقيه ومؤرخ إسلامي مبدع، اعترف له الغرب على مضض - وقلَّما
اعترف لغيرِه من المفكِّرين المسلمين - بفضله عليهم .
كما أنَّه ليس
عيباً أن نأخذ من الغرب ما ينفعنا، شريطة ألا يصطدِم والثَّوابت الشرعيَّة، ولله
درُّ أحد العلماء الأجلاَّء؛ إذ يقول: «فالواجب أن نأخُذ الحقَّ من كل شخص، وأن
نتجنَّب الباطل مهما كان قائله».