ليبيا بين طبول الحرب وأجواء السلام
الثورة الليبية كما كل الثورات الشعبية كانت تحلم بعد التخلص من الطاغية بالخلاص
أيضًا من الهيمنة والتسلط، ولكن لأن دائرة التحرر لا تمر بالداخل فقط فكان للقوى
الخارجية التي امتطت صهوة النظم القمعية القديمة رؤية أخرى، فسعت لتقويض أحلام
الشعوب ونجحت إلى حد بعيد وتبقى الساحة الليبية إحدى الساحات التي ما زالت معركة
المصير لم تحسم فيها بعد.
مشهد
الأزمة
الليبية:
ازدواجية السلطة التنفيذية بين حكومتي عمر الحاسي وعبدالله الثني، ومن خلفها
ازدواجية السلطة التشريعية بين «المؤتمر الوطني العام الليبي» في طرابلس والبرلمان
المنحل في طبرق تعكس صورة الأزمة الليبية..
في الأراضي الليبية تتصارع قوى مختلفة تحت مضامين سياسية وعسكرية تندرج تحت مصالحها
الداخلية والخارجية، وبالتالي هناك قوتان عسكريتان كبيرتان نشأتا مؤخرًا بهما قيادة
مركزية ورئاسة أركان، وأيضًا حكومتان سياسيتان بلغ الخلاف بينهما ذروته.
أولاً:
القوتان العسكريتان:
1 -
قوات «كرامة ليبيا»:
وهي بقيادة اللواء خليفة حفتر، وتدعم حكومة عبدالله الثني والتي كلفها البرلمان
المنحل بقرار من المحكمة الدستورية المجتمع في الشرق الليبي، في إقليم طبرق، حيث
تشكل في عمومها الأذرع العسكرية للجهات التي تشجع على الثورة المضادة.
وأنصارها هم من تبنوا العملية العسكرية التي أعلن القيام بها حفتر سابقًا، بغرض
القضاء على بعض الجماعات التي وصفها بأنها «إرهابية»، وتصحيح مسار الثورة الليبية.
2 -
قوات فجر ليبيا:
وهي تحالف مجموعات إسلامية في ليبيا تضم مليشيات درع ليبيا الوسطى، وغرفة ثوار
ليبيا في طرابلس، إلى جانب مجموعات مسلحة تنحدر أساسًا من مناطق مصراتة، ويؤيدها
المؤتمر الوطني العام في غرب البلاد، وتتكون من بعض كتائب الثوار والدروع
والإسلاميين لمواجهة اللواء حفتر وقواته، حيث تحظى بتأييد الأحزاب الإسلامية ودار
الإفتاء.
أما بالنسبة للصراع السياسي البرلماني الحكومي، فقد تصاعدت وتيرة الخلاف الدائر بين
مجلس النواب وحكومة الثني، وبين المؤتمر الوطني وحكومة الحاسي على الجهة الأخرى،
وبخاصة بعد قرار الدستورية بحل البرلمان في طبرق.
وحتى تتضح الصورة أكثر، هناك برلمان يسمى بالمؤتمر الوطني الليبي العام في طرابلس
منح الثقة في سبتمبر من العام الماضي لحكومة عمر الحاسي؛ لتعالج الفراغ السياسي
وتحد من الفوضى الأمنية في البلاد إثر تدهور الأوضاع السياسية، إلى جانب وجود
برلمان آخر وهو حكومة عبدالله الثني التي تم منحها الثقة بعد محاولتين فاشلتين
أجبرتاه على إجراء تعديلات وزارية في الأسماء المقترحة.
ولا بد من الإشارة إلى أن البرلمان المجتمع في طبرق وحكومة الثني تدعمان «عملية
الكرامة» التي يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي أعلن الحرب على ما سماه
«التنظيمات الإسلامية المتطرفة»، في حين ترفض فصائل الثورة الليبية المنضوية تحت
قوات «فجر ليبيا» - التي تسيطر على العاصمة طرابلس ومعظم البلاد - الاعتراف بها.
في المقابل تدعم قوات فجر ليبيا حكومة موازية تشكلت في طرابلس برئاسة عمر الحاسي،
كما استأنف المؤتمر الوطني العام السابق نشاطه بدعوة من تلك المجموعات المسلحة برغم
انتهاء ولايته، وهو ما جعل ليبيا تعيش صراعًا حادًا بين مؤسستين تشريعيتين وحكومتين
تتنازعان الشرعية[1].
القوى الإقليمية
إذا أردت أن تفشل دولة ما، فاجعل أهلها يتصارعون فيما بينهم، وأمد كليهما بالمال
والسلاح والأمل في الوصول إلى السلطة.
وهذا هو الحال في ليبيا، هناك أطراف إقليمية لا تريد أن يستقر هذا البلد،
والإشكالية الكبرى هي الخيال السياسي.
المحفز الأكبر للتدخل في ليبيا من قبل أطراف إقليمية عديدة هو قتل فكرة نجاح
الثورات وأنها من الممكن أن تتأتي بالخير على شعوبها، وأن يصبح نجاح أي من شعوب
الثورات العربية في تحقيق نجاح سياسي ما واستقرار سيكون نموذجًا ملهمًا لبقية
المنطقة وخيالًا سياسيًّا يداعب عقول تلك الشعوب.
وهذا ما لا تسمح به الأطراف الإقليمية المتدخلة في ليبيا.
لا يمكن للثورات أن تنجح دون موافقة القوى الإقليمية أو على الأقل حياديتها، كل
ثورة نجحت كانت قد وصلت لرضا إقليمي مبدئي وإلا فإن تعثر تلك الثورات هو النتيجة.
ومن الدول الداعمة للصراع الجاري في ليبيا، مصر، والتي تنظر إلى حكومة طبرق على
أنها حليفة لها في الصراع، إضافة إلى الإمارات، والتي تريد أن تكرر مشهد فشل
الثورات فتدخلها تجلى حتى في التجربة التونسية من خلال الدعم المادي غير المحدود
الذي حظيت به وجوه النظام التونسي في الانتخابات التونسية، وكانت وكالات أنباء
عالمية قد نشرت تقارير حول مشاركة عسكرية لمصر والإمارات لضرب معاقل الفصائل
الإسلامية، إلى جانب الضربات المصرية الأخيرة.
في المقابل، فإن حكومة الحاسي، يرى مراقبون أنها تتمتع بعلاقات متينة مع قطر،
ولديها جسور قوية، وهي المدعومة أيضًا من المؤتمر الوطني العام والتي تحظى بتأييد
القوى الثورية.
القوى
الدولية:
ترغب القوى الغربية - والتي كانت السبب الأكبر في القضاء على نظام القذافي بتدخلها
العسكري - في استقرار الوضع الليبي لكن تحت لافتة علمانية ترعى المصالح الغربية.
كانت الرؤية الإستراتيجية الغربية تتمثل في توجيه الثورات العربية لإنتاج أنظمة
ليبرالية تابعة ثقافيًّا واقتصاديًّا لها، بديلة عن الأنظمة القمعية الديكتاتورية
التي أدت إلى احتقان الشعوب وتصدير العمليات المسلحة إلى الداخل الغربي.
فيمكن لواقع عربي جديد أن يحتوي قوى الإسلاميين ويعطيهم هامشًا من الحرية يتيح لهم
امتصاص حالة الحركات الإسلامية المسلحة وإيقاف انسحاب الشباب الإسلامي من ساحة
العمل السياسي والدعوي إلى ساحة العمل المسلح كبديل وحيد قادر على تحقيق نتائج على
الأرض.
لذلك نجد الدعوات الغربية الداعية إلى ضرورة رأب الصدع، وإيجاد حلول للأزمة
السياسية المتفاقمة، عبر حوار وطني يجمع الأطراف المتنازعة، لوضع آليات ممكنة،
لتحديد مسار الأزمة الليبية المتعثرة من فترة لأخرى.
أولى جلسات الحوار بين الفرقاء الليبيين كانت في مقر الأمم المتحدة بجنيف، والتي
قبلت التفاوض حول الأزمة في البلاد بطرح قضايا أساسية، وذلك في غياب المؤتمر الوطني
العام رسميًّا، في حين أعلنت قوات «فجر ليبيا» عدم اعترافها بالحوار ومخرجاته.
ويذكر أن مفاوضات جنيف الحالية تمثل الجولة الثانية من محادثات بين أطراف النزاع،
حيث عقدت مفاوضات أولى بمدينة غدامس الليبية في سبتمبر من العام الماضي، ولم تؤد
إلى أي نتائج على الأرض.
ومن أبرز الملفات التي استحضرها المجتمعون التوافق على حكومة وحدة وطنية، ووضع
ترتيبات أمنية لإنهاء حالة الاقتتال، فضلاً عن إنهاء الحصار عن بعض المدن.
لذلك فلا تتعجب إن كانت معظم التصريحات الآتية من الغرب ترفض التدخلات العسكرية من
القوى الإقليمية المختلفة، ولم تعطها أي غطاء أو مظلة دولية للتدخل.
وهو ما أظهرته تصريحات البرلمانيين الأوربيين ومطالباتهم، بتبني عقوبات ضد
المسؤولين عن عرقلة المفاوضات الجارية.
لقد كانت محاولات وأد الثورات العربية ونجاح الثورات المضادة لها نتائج شديدة
الكارثية على كل المجتمعات وفشلت حتى في العودة إلى نقطة الاستقرار التي كانت تحظى
بها الأنظمة القمعية القديمة.
وهي كذلك دفعت بمزيد من الشباب للارتماء في أحضان التيارات المسلحة وأغلفت المجال
السياسي بالكامل وبهذا المعيار فإن تجربة الثورات المضادة في الوصول إلى السلطة في
دول الربيع العربي ليست نموذجًا ملهمًا ليتم تعميمه على بقية كل دول الربيع العربي.
وأخيرًا..
إلى الآن فرضت الأجندة الإقليمية تصوراتها على واقع دول الربيع العربي، لكن يبدو أن
هناك تغيرًا شهدته الساحة الإقليمية في الأيام الأخيرة؛ ولنا أن نقايس بين سياسة
المملكة السعودية الجديدة في اليمن في ظل انقلاب الحوثيين وهي تملك من أدوات التدخل
العسكري وتأجيج الصراع المسلح الكثير، لكن الحنكة السياسية لقادة المملكة الجدد
قادتها إلى الدفع بعمليات حوار ومحاولة جمع كل الأطراف لأن شرارة العمل المسلح إذا
اندلعت فلن يطفأها أحد، وستصبح اليمن بين لحظة وضحاها صومال جديدة على حدود المملكة
السعودية، في حين تدفع قوى إقليمية أخرى إلى مزيد من التأزم داخل الواقع الليبي
وتسعى لتأزيم الوضع بتدخل عسكري مباشر يزيد حالة الاستقطاب ويدفع إلى نقطة اللاعودة.
ومع تباين الرؤى داخل المعسكر الإقليمي تحاول القوى الغربية الدفع بعملية سلام في
ليبيا؛ فليبيا دولة نفطية مهمة وسقوطها ليس في مصلحة الدول الغربية، ووجود قاعدة
لاستقطاب القوى الإسلامية المسلحة سيعمق حالة الفوضى ليس في المنطقة العربية وحدها
بل في القارة الإفريقية ذاتها التي بدأت تستلهم قسوة ودموية تنظيم الدولة وأذرعه
المختلفة في العديد من الدول، وإذا استمر الوضع على الوتيرة نفسها فإن وصول تلك
العمليات إلى الداخل الغربي لن يستغرق وقتًا طويلًا.
فضلًا عن ذلك فإن العالم لن يتحمل فتح جبهة جديدة لداعش في ليبيا.
وفي الحالة الليبية يظهر إلى أي مدى وقعت ليبيا في تجاذبات التدخلات الإقليمية
والدولية، لكن ليبيا الدولة النفطية لن يسمح لها بأن تصبح دولة فاشلة.
إن
إطفاء بؤرة اللهب الليبية سوف يعمل إلى حد بعيد على إبطاء حالة العنف المسلح التي
تستشري في المنطقة.
ومع تباين الخلافات بين القوى الليبية المختلفة، إلا أن وصول الأطراف الإقليمية
والدولية إلى رؤية للحل كفيل بأن يدفع الأمور في ليبيا إلى التقارب والجلوس إلى
مائدة الحوار.
:: مجلة البيان العدد 334 جمادى الآخرة 1436هـ، مارس – إبريل 2015م.
[1]
بثينة اشتيوي، حوار جنيف والأزمة السياسية في ليبيا http://www.sasapost.com/libyan-political-conflict/