• - الموافق2024/11/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مقام الخوف في تقريرات لابن تيمية

مقام الخوف في تقريرات لابن تيمية

«إذا أحرم ابن تيمية بالصلاة يكاد يخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام، فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة»[1].

وقال الحافظ الذهبي: «واشتهر عنه الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله العظيم، والتعظيم لحرمات الله»[2].

إن مقام الخشية من الله تعالى، والخوف من عذابه وعقابه هو الذي حقق لسلفنا الصالح الأحوال السنية والمنازل الرفيعة[3]، ولذا قرر أبو العباس بن تيمية أن الخوف من الله أصل كل خير في الدنيا والآخرة، واستدل بقوله تعالى: {وَلَـمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]، فأخبر تعالى أن الهدى والرحمة للذين يرهبون الله[4].

ولما كان الخوف من الله من أجلّ الأعمال القلبية، وأكبر محركاتها، فإن هذا الخوف يدعو النفوس إلى فعل المأمورات وترك المنهيات، فهذا الباطن يستلزم الأعمال الظاهرة، فالخائف من الله ممتثل لأوامره، مجتنب لنواهيه، وكلما كان تصوره للمخوف تامًا، أوجب ذلك كمال المبادرة لفعل الخيرات والكف عن المنكرات، كما بسطه المؤلف في غير موضع[5].

قال - رحمه الله -: «وخوفه من الله يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال علي رضي الله عنه: لا يخافن عبد إلا ذنبه، وإن سُلّط عليه مخلوق فما سُلّط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله وليتب من ذنوبه التي نال بها ما ناله»[6].

وإذا كان الخوف من الله يستلزم فعل الحسنات وترك السيئات، وهو سبيل المرسلين وأتباعهم، فليس من مقامات العامة كما توهمه الصوفية[7].

ثم إن الخوف من الله وحده يجلب الأمن والطمأنينة، والاهتداء والبصيرة، كما قال تعالى على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 81 الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81، 82]، وفي المقابل فإن الخوف من الناس يجلب الرعب؛ فإن من خاف الله وحده خاف منه كل شيء، ومن لم يخف الله خاف من كل شيء.

فقال - رحمه الله -: «المشرك يخاف المخلوقين، ويرجوهم، فيحصل له رعب كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: ١٥١] والخالص من الشرك يحصل له الأمن كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82]»[8].

كما أن باعث الخوف من المخلوقين هو فساد في القلب، كما بيّنه أبو العباس بقوله: «ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه، كما ذكروا أن رجلًا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال: لو صححتَ لم تخف أحدًا. أي: خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك[9]».

وقال في موطن آخر:

«إن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئًا سواه قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق...»[10].

والنفس البشرية لا تنفك عن الجهل والظلم، لاسيما إذا عُدمت الخوف من الله جلّ جلاله، فإذا غاب الخوف من الله تعالى ظهر البغي والتظالم، والعدوان والتشاحن.

وقد أفصح ابن تيمية عن ذلك بعلم ودراية بطبائع النفوس وفقه لدلالات النصوص، فقال:

«إن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم، ويكف عن ظلمهم، وهذا إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم.. فإن طبائع النفس الظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق، كثير الظلم إذا قَدِر، مهين ذليل إذا قُهِر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع الفتن بين الناس»[11].

إن الخوف من الله أشبه بالزواجر والسياط للنفوس الجاهلة الظالمة، وهو رادع للبشر عن الاسترسال في الأهواء، والانسياق مع الشهوات.

لذا قرر ابن تيمية أن خشية الله تعالى توجب صرف الناس عن أهوائهم[12]، وأن الخوف من الله يحرر النفوس من رق العشق والملذات فقال:

«إن الخوف من الله مضادٌ للعشق، وكل من أحبّ شيئًا بعشق أو غير عشق فإنه يصرفه عن محبته بمحبة ما هو أحبّ إليه منه، وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحبّ، فإذا كان الله أخوف عنده من كل شيء لم يحصل معه عشق إلا عند ضعف هذا الحب والخوف، بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات...»[13].

وإذا كان خوف العبد من الله قد يعتريه الضعف والنقصان، فلا بد من تحريكه ومعالجته وتعاهده، كما أوجزه ابن تيمية بقوله:

«الخوف تحركه مطالعة آيات الوعيد والزجر، والعرض والحساب ونحوه»[14].

وانتقد ابن تيمية ما عليه المتصوفة من دعاوى الحبّ الإلهي، وإعراضهم عن خشية الله وخوفه فقال:

«كره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة قوم يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من أهل السلف: من عبد الله بالحبّ وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحبّ والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، ولهذا وُجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية»[15].

وقال في موطن آخر:

«وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية، لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة»[16].

ثم إن بين المحبة والخوف تلازمًا، فكل محبّ خائف بالضرورة، وكل محبة فهي مقرونة بالخوف[17]، ولذا قال ابن تيمية:

«وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه، والخائف يفرّ من المخوف لينال المحبوب، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]»[18].

وقال أيضًا: «فالخوف من التعذب بمخلوق[19] يسوقه إلى محبة الله التي هي الأصل»[20].

لقد جعل أبو العباس للخوف المطلوب ضابطًا محددًا فقال: «الخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله»[21].

وقرر في غير موطن أن الخوف مطلوب ومقصود لغيره، فهو مأمور به لأنه يدعو النفس إلى فعل المأمور وترك المحظور[22]، ونبّه أيضًا إلى أن الخوف من وعيد الله وعذابه في الآخرة لا يعني استعجاله وسؤاله في الدنيا[23]، كما في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم «دخل على أعرابيّ قد صار مثل الَفْرخ، فقال: هل كنت تدعو الله بشيء؟ قال: كنت أقول: اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة، فعجّله لي في الدنيا فقال: سبحان الله! إنك لا تطيقه، هلّا قلتَ: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»[24].

قال ابن تيمية: «فلا طاقة لمخلوق بعذاب الله، ولا غنى به عن رحمته»[25].

فاللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك.

:: مجلة البيان العدد  334 جمادى الآخرة  1436هـ، مارس – إبريل 2015م.


[1] الأعلام العلية للبزّار ص758 (مع العقود الدرية لابن عبدالهادي).

[2] العقود الدرية ص169بتصرف يسير.

[3] ينظر: التخويف من النار لابن رجب ص6.

[4] ينظر: الإيمان لابن تيمية ص17.

[5] ينظر: النبوات 1/381، الإيمان 18-21، الفتاوى 14/292.

[6] الفتاوى 8/164.

[7] ينظر: الفتاوى 10/240، 242.

[8] الفتاوى 10/257.

[9] العقود الدرية لابن عبدالهادي ص203.

[10] الفتاوى 1/94.

[11] الفتاوى 1/54.

[12] ينظر: الفتاوى 1/96.

[13] الفتاوى 10/136 بتصرف يسير.

[14] الفتاوى 1/96.

[15] الفتاوى (العبودية)10/207.

[16] التحفة العراقية ص90.

[17] ينظر: مدارج السالكين 2/43.

[18] التحفة العراقية ص71.

[19] كالعقوبة بالنار، والتعذّب بالمثلات ونحوها.

[20] التحفة العراقية ص73.

[21] مدارج السالكين 1/514.

[22] ينظر: النبوات 1/381، والفتاوى 1/95.

[23] ينظر: النبوات 1/345، والاستقامة2/92، ومدارج السالكين2/311.

[24] أخرجه مسلم، ك الذكر، ح(2688).

[25] النبوات1/344.

أعلى