• - الموافق2024/11/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عراق مابعد الانسحاب الامريكي .. رؤية برؤية

عراق مابعد الانسحاب الامريكي .. رؤية برؤية


 انسحاب قبل الموعد بعشرة أيام، وآليات تتوجه من العراق إلى أفغانستان، وإنجاز احتلالي متهالك فيما يسمى العملية السياسية الجارية في العراق تحت حراب المحتلين، وخطاب للرئيس الأمريكي يخلو من أي كلمة للنصر ولم ترد فيه إشارة إلى نهاية الصراع وانسحاب تحت جنح الظلام كانسحاب اللصوص، ودعوات متتالية لقبول الجانب التركي الانسحاب عبر أراضيها؛ فهل هذا يعد إنجازاً للمهمة أم تملصاً منها، والأمر برمته صناعة إعلامية أريد لها أن تكون ثقيلة فإذا بها تطيش كسابقاتها من صفحات الاحتلال.

إن نظرة متفحصة للمشهد العراقي تنبئ عن مدى الإحباط الذي واجه إدارة الاحتلال الأمريكي في كيفية التملص من المستنقع العراقي الذي ظن الأمريكان لأول وهلة أنه سيكون نزهة تتابع بعده سقوط أحجار الدومينو وإعادة هيكلة المنطقة وإدخال الكيان الصهيوني بوصفه لاعباً أساسياً وحيداً ممتلكاً للقوة النووية وبذا يضمنون تقسيم المنطقة حسب رؤيتهم باعتمادهم أوراقاً جديدة تتمثل بالأدوات الجديدة التي انتدبوها تساندها مراكز القوة الجديدة باستبدال القديمة منها ذات البعد الأيديولوجي والكثافة السكانية بعد أن غيبوا الشارع العربي وحكموه بهراوة الحديد والنار.

المشهد السياسي العراقي ينظر إلى هذا الانسحاب بنظرتين لا ثالث لهما؛ الأولى: ترى أن الوقت غير مناسب لانسحاب هذه القوات لأن البلاد تُعاني فراغاً سياسياً وخروقات وقلاقل أمنية أي لا تزال الفوضى التي أحدثها الأمريكان لدى غزوهم العراق سارية على صعيد المشهد العراقي. والثانية: ترى أن الانسحاب الأمريكي له إيجابياته ومنها أنه يمثل خطوة أولى للتخلص من الاحتلال وتبعاته. فهو أي المشهد السياسي في العراق يتمثل بفسطاطين أحدهما: يندرج تحت راية المحتل والقبول بنتاجه من دستور وعملية سياسية قائمة على المحاصصة والتقسيم العرقي والطائفي، والآخر: فسطاط المناهضين للمحتل ورفضهم له بأشكاله وفعالياته كلها.

أصحاب النظرة الأولى هم من يستند إلى الاحتلال في أموره كلها وهو ليس مهيّأً للقيام بأعباء ما بعد الانسحاب فلا شك أن أصحاب هذا الرأي يدركون أنهم معنيون بهذا الانسحاب وأن أوراقاً ستحترق وأوراقاً ستذهب أدراج الرياح وأخرى ستخضع للمساءلة والحساب، وليس أدل على ذلك من تشبثهم بالاتفاقيات المذلة والمهينة وفيما يسمى بالاتفاقيات الأمنية طويلة الأمد. وعزاء هذه الشرذمة بقاء قوات احتلال بقوام خمسين ألف مقاتل بكامل عدتهم مهمتهم الإبقاء على الكائن المسخ المسمى بالعملية السياسية.

فالأدوات التي انتدبها الاحتلال لمشروعه لم تكن في يوم من الأيام قادرة على إدارة الدولة ولن يكون ذلك لها لما تفتقده من عمق جماهيري؛ فسوء الخدمات بل انعدامها سمة مميزة لحكومات الاحتلال المتعاقبة، والفساد الإداري والمالي والسرقات وحرق المستندات وسرقات المصارف مسكوت عنها بين الكتل والأحزاب المنضوية تحت الراية الاحتلالية. أما الصراع والتدافع للبقاء على قيد الحياة أي البقاء في السلطة الصورية التي يعبر عنها خير تعبير تمسكهم بكرسي الحكم وعدم تركه لشركاء الأمس خصوم اليوم؛ يدل دلالة وثيقة على أن ما يسمى الديمقراطية زيف وبهتان ليس له من الواقع ما يصدقه.
لاشك أن عراق ما بعد الانسحاب الأمريكي ستتغير فيه المعادلات وترتبك فيه الموازين؛ فالقوى المناهضة للاحتلال رحبت بهذا الانسحاب من باب أنه يعد نصراً في ورقة من أوراق الصراع وقد عبرت عنه خير تعبير حينما قالت: إن الصراع لم ينته بعد. ومن هنا تنبع النظرة السديدة لمجريات الصراع الدائر على أرض الرافدين؛ فالمحتل جاء بمخطط تقسيم العراق وإلهاء شعبه بصفحة الصراع الطائفي والعرقي وهذه لا تزال فيها المحاولات الاحتلالية جارية على قدم وساق وكيف لا وعرّاب التقسيم بايدن هو من يمسك بملف القضية العراقية وهو صاحب أطروحة التقسيم على أساسين مختلفين أولهما الطائفية وقد انتدب لها أدوات شحن طائفي لا تمانع أن تحرق الأرض من أجل عرض من الاحتلال، وانتدب أدوات أخرى عنصرية تتاجر بمسميات القومية لتقتطع من أرض العراق إقطاعيات لها وشعوب هذه الأرض تتضور جوعاً وألماً من مخططات محتل غادر أوغل في الجريمة حتى باتت الجريمة تُعرف باسمه.

إن الانسحاب الأمريكي من العراق موجه بالأساس إلى الداخل الأمريكي لا سيما أن انتخابات الكونغرس الأمريكي على الأبواب بعد قرابة شهرين ليقول أوباما: إنه وفى بوعده الانتخابي، ولكنه سيواجه صراعاً محتدماً إزاء الداخل الأمريكي الذي يعاني البطالة والأزمة المالية العالمية، واتجاهات الرأي في هذا الداخل تدفع إلى الاهتمام بأفغانستان وحربها الدائرة منذ تسع سنوات، ولم تحقق الولايات المتحدة شيئاً من أهدافها فهو محاولة يائسة للتخلص من أعباء حرب مكلفة أرهقت ميزانيتهم من دون طائل، فالشعب العراقي الذي مورس عليه الظلم بأنواعه كافة استطاع بكل ما أوتي من قوة ولحمة مجتمعية وميزات أن يواجه الصفحات الاحتلالية بأنواعها كافة؛ فهو الذي تصدى لصفحات التقسيم وبيع الثروات والشحن الطائفي بل إن انتخاء نخب من هذا المجتمع وانطلاقها لقيادة مقاومة أبهرت العالم بأسره بسرعة انطلاقها وثباتها ووعيها لمجريات الأحداث واستطاع معظمها السير وسط حقل الألغام الذي زرعته إدارة الاحتلال بثبات ورؤية صائبة أذهلت المخططين للمؤامرات من دهاقنة الغرب ومراكز بحثه ومحاربيه القدامى والمحدثين على حدٍّ سواء.

يعد الانسحاب الأمريكي في العرف العسكري والسياسي هزيمة نكراء لقوة غاشمة أرادت تغيير ديمغرافية المنطقة ولم تستطع ذلك بتصدي شعوب هذه المنطقة للمشروع التفتيتي الذي كان يستهدفها بل إن من نتائج هذا العدوان إدراك هذه الشعوب لحجم المخطط الذي يستهدفها.
والانسحاب الأمريكي الذي سبقه قبل نحو عام من الآن انسحاب القوات القتالية إلى قواعدها لم يكن صادقاً فيما ادّعته الإدارة الأمريكية؛ فعلى مدى الأشهر الماضية كان هناك رصد لتجوال القوات المحتلة من دون مشاركة للقوات التي أنشأتها وأطلقت عليها اسم الجيش العراقي الجديد فمثلما كان الانسحاب إلى القواعد الذي رافقته خروقات لم يستطع القادة الأمريكيون الإجابة عنها أو تفسيرها ستتعرض إلى النقطة القاتلة لهذه الصفحة حين تحدث اشتباكات أخرى هنا أو هناك بين المجاميع المسلحة وبين قوات الحكومة العاجزة بالأساس عن صدها، عندها ستستدعي قوات الاحتلال مرة أخرى؛ فمن أي باب سيفسر تدخل القوات التي قوامها خمسون ألف مقاتل وتوصيفها أنها لأغراض التدريب والاستشارة، أما الشركات الأمنية التي أوصت الإدارة الأمريكية بمضاعفة أعدادها فمشهود لها جرائمها في الساحة العراقية فقد وصل عددها إلى أكثر من مائة وعشرين ألف مقاتل أمني؛ فهل هذا الانسحاب يعني انتهاء المهمة كما علقها بوش في أيار مارس من عام 2003 وادعاها أوباما في 2010 مع بقاء القواعد الاحتلالية وهذا الجيش الجرار ممن يطلقون عليهم كوادر التدريب والشركات الأمنية التي مهمتها حفظ المنجز الاحتلالي الخاوي والمتهالك؟ ذلك كله يقودنا إلى القول: إن الانسحاب على الرغم من أنه يمثل صفحة هزيمة للمحتل ونصراً لأبناء العراق الغيارى إلا أن المعركة لم تنه بعد فلا تزال هناك صفحات معدة لإدامة الصراع وابتعاث الطائفية السياسية ودعم أدوات الاحتلال التي استترت بغبار دبابة المحتل لحكم العراق.

إن انسداد الآفاق الثلاثة السياسية والعسكرية والأمنية دعت إلى التعجيل بالانسحاب وفتحت الباب واسعاً للتكهن بمستجدات أخرى لا تقل أهمية عن أي مرحلة من مراحل الاحتلال ذات الأعوام السبعة.

عراق ما بعد الانسحاب الأمريكي إن كان هناك انسحاب بالمفهوم السياسي والعسكري سينفتح على سيناريوهات متعددة ومخططات احتلالية أخرى قادمة وأخرى تتبع لدولة التمدد الإقليمي التي اتخذت من وجود الاحتلال مرتكزاً لتدخلاتها التي أمنتها بعملائها مزدوجي الولاء فهي تعلن اعترافها بنتاج الاحتلال من جهة، وقد كان ذلك منذ انبثاق ما يسمى مجلس الحكم الذي يمثل إرادة الاحتلال في تقسيم المجتمع وتوزيع النسب عليه كل حسب تبنيه لمقررات الاحتلال قبل الغزو في مؤتمري لندن وأربيل، وفي الوقت نفسه تدفع في تقوية وإمداد المليشيات الإجرامية التي يكمن عملها في تقليل الزخم المقاوم على الاحتلال بمهاجمتها المناطق الحاضنة للمقاومة والرافضة لوجود المحتل.

إذن المشهد مفتوح ومعقد في الوقت نفسه فأدوات العملية السياسية يشهدون تناحراً وتخاصماً وصل إلى حد كسر العظم فيما بينهم فكل يريد أن يستأثر في الحصة الكبرى من رضا الاحتلال واعتماد الجارة المتمددة، فاليوم يتركز الصراع في أطراف كانت متحالفة فيما بينها بالأمس القريب، وإن توافقاتها لم تكن واقعاً ملموساً لولا الشحن الطائفي الذي يمثل شريانها المغذي لاستمرار بقائها معتمدة من الاحتلال والدولة الإقليمية المتمددة. وقد واجهوا في الفترة الأخيرة على الرغم من استفرادهم بالحكم تشظياً وتناحراً صعبت معه حتى وسائل الضغط الاحتلالية والإقليمية لخطورة الدور الذي يقومون به في خيانة الشعب. الدستور الملغوم الذي أقروه على عجل لأمور لم تكن خافية على القوى الرافضة للاحتلال وقد أشرت بوضوح إلى مواطن التلغيم فيه أقروا اليوم أن هناك أكثر من مائتي مادة تحتاج إلى تعديل، والتعديل بحد ذاته يحتاج إلى نسف العملية السياسية بالكامل لتصل إليه، والصلاحيات المستفردة بالحكم حين أودعوها مركزاً ضمنوه لهم في بداية هذه العملية المسخ تحتاج اليوم إلى تقليص وتوزيعها بأسلوب آخر، والأمر بكلياته وجزئياته ينم عن معضلة لا يتوصلون معها إلى حل ما دامت زمر الاحتلال هي من يتحكم بمفاصل الحكم، ومن ثم فإن الانسحاب سيفتح الباب واسعاً أمام تحديات خارجية وداخلية لا يستقر معها العراق لعقود قادمة. أما القوى الرافضة للاحتلال بميادينها الثلاثة السياسية والعسكرية والإعلامية فقد أشارت في بيانات تناقلتها وسائل الإعلام أن هذا الانسحاب يعد مقدمة للنصر على المحتل وبه سقطت ذرائعه جميعها في تسويق الديمقراطية وإعادة إعمار العراق وإحلال النظام فيه؛ فمثلما عمل المحتل على إيجاد مساحة واسعة لمخططاته بما يسمى الفوضى الخلاقة ها هو اليوم يخرج بالفوضى نفسها تاركاً العراق حلبة واسعة للصراع الإقليمي والدولي.

إن دعوة القوى الرافضة للاحتلال للتنبه واليقظة وأخذ الحذر يدل على عمق تفكيرها السياسي تجاه مستجدات الأحداث، ويظهر ذلك بتحذيراتها من الانخراط بمشاريع سيطرحها المحتل لاحقاً فيما يسمى صفحة سد الفراغ أو غيرها من المسميات التي تختار بعناية إعلامية فائقة مع التأكيد على فراغ محتواها.

بقي أن نقول: إن الفوضى التي أحدثها المحتل والاعتماد المطلق على أدوات أثبتت التجربة فشلها وخروجه بهذه الصورة القبيحة كدخوله وتنصله عن كل طروحاته من جعل العراق بلداً يحتذى به في الديمقراطية والحريات تماثلها تصريحات أوباما نفسه حين قال: سنترك العراق للعراقيين وأنه سينسحب انسحاباً مسؤولاً.. ذلك كله محط نظر وتدقيق للقوى المناهضة للمحتل، وإن قيمة الإنجاز الذي يتبجح به المحتل ومن جاء معه لا يساوي حبر الورق الذي يكتب به.

إن عراق ما بعد الانسحاب سيكون بإذن الله للعراقيين الذين أجبروا المحتل على خروجه بهذه الصورة المذلة وإنهم قادرون على بناء صرح العراق من جديد بعون الله.

 

أعلى