سجون الاحتلال .. ملاحم وبطولات
كثيرةٌ هي المظالم التي تعرَّض لها الشعب الفلسطيني منذ احتلال أرضه واغتصابها على يد شذَّاذ الآفاق، وقد تكون من أبرز تلك المظالم والانتهـاكات حملات الاعتقـالات الكبيـرة التـي لا حد لها ولا إحصـاء، والتي يمكـن القول عنها: إنها شملت كل بيت فلسطيني .
ففي سجون الاحتلال الموت البطيء والقتل الممنهج للروح والجسد؛ حيث يوجد مهندسون بشريون كلُّ وظيفتهم دراسة أساليب وسبل وطرق تدمير الأسير الفلسطيني وإخراجه مدمَّراً محطماً لا كيان له ولا وجود، يلعن تلك الساعة التي ناضل بها من أجل الوطن.
في هذه السجون، التي لم تُعَد أصلاً للبشر، والتي ورث غالبيتها الاحتلال من الانتداب البريطاني ومنها سجون موجودة من زمن الأتراك، فيها رجال ونساء وأطفال وشيوخ مضى على اختطافهم عقود عديدة وأعوام مديدة. وأعياد ومناسبات وأفراح وأتراح مرت عليهم وهم أسرى ومعتقلون.
وحتى لا يكون كلامي جامداً ومن دون أمثلة سأتطرق للحديث عن مجموعة من الحالات الإنسانية لبعض الأسر، توضح مدى معاناة هذه الفئة التي تنتمي إلى أمة المليار مسلم صاحبة الجذور العربية العريقة.
هناك في مكان ما جنوب فلسطين المحتلة يربض (نائل البرغوثي) المعتقل منذ عام 1978م وقد أتم 32 عاماً كاملة متواصلة في سجون الاحتلال هو وابن عمه (فخري البرغوثي) المعتقل في السنة المذكورة ذاتها، وتعود أصولهما لقرية كوبر بمنطقة رام الله .
نائل البرغوثي اعتُقل وهو فتى صغير واليوم ومع السنين أصبح عمره أكثر من خمسين عاماً، توفيت والدته، وانتقل إلى رحمة الله والده وكذلك أعمامه، شاب شعر رأسه ولم تستطع الأيام القاسية التي أمضاها نائل البرغوثي يتنقل فيها من إضراب عن الطعام إلى مواجهة مباشرة مع أصحاب الخوذ العسكرية، لم تستطع تلك الأيام أن تحني ظهره؛ لأنه إنسان رياضي استطاع أن يعوِّد جسده على ممارسة الرياضة في كل يوم. وفي زنزانة ضيقة يجلس نائل بابتسامة لا تفارق محياه، يحدِّث رفاق دربه أنه يريد أن يخرج ويتزوج وينجب أطفالاً ويحدثهم عن أسمائهم التي يريد أن يطلقها عليهم، فالأمل لا يغادره، ويقول: إنْ عاجلاً أم آجلاً سنخرج من هذه السجون وسنعود نكمل مسيرة البناء.
بجواره ابن عمه فخري الذي تختلف قصته بجزئية واحدة، وهي: أن فخري متزوج وقد أنجبت له زوجته قبل اعتقاله طفلاً وكانت تحمل في أحشائها طفلاً آخر خرج إلى الوجود من دون أن يكون الوالد موجوداً، كبر الطفلان (شادي وهادي) وأرضعتهما أمهما الفاضلة لبن العزة وحب فلسطين وعرفوا والدهم من خلال الصور ومن خلال شباك الزيارة والأسلاك الشائكة، كبر الطفلان وسارا على درب الوالد وخططا لخطف جنود وإطلاق سراح والدهما فكان مصيرهما السجن، والتمَّ شمل الأسرة في السجن وفي زنزانة ضيقة التف الشابان حول والدهما يقبِّلونه في المرة الأولى التي يلتقون بها من دون أسلاك شائكة وأشباك حديدية، فكان اللقاء ملحمة تاريخية لم يبقَ أحد بالسجن إلا بكى، وكان فخري يبكي ويقبِّل، وأولاده: أحدهما يده معلقة برقبته، والآخر انكب يقبل قدميه ويقول له: لقد اشتقت لك يا حنون وبقيت الأم وحيدة تتخيل شكل اللقاء وتمسح دموعها عن خدها تبتهل إلى الله أن يجمع شمل الأسرة من جديد.
وكذلك الأسير عبادة سعيد بلال، وهو فتى فلسطيني من مدينة نابلس شاء الله له أن يفقد نعمة البصر، ينتمي إلى أسرة مجاهدة صابرة، له أربعة إخوان كلهم معتقلون: (عثمان) محكوم مدى الحياة، و (معاذ) أيضاً محكوم مدى الحياة 26 مرة، والأخ الكبير (بكر) معتقل، والأخ (عمر) أيضاً ما إن يخرج من السجن حتى يعود. لقد قرر عبادة أن يسلك الدرب مع السالكين وأن يجاهد في فلسطين ولم يشعر أن إعاقته البصرية قد تشكل له عائقاً أو حائلاً، لقد قاده قدره إلى السجن وحُكِم بأحد عشر عاماً، وقبل أقل من عام وفي وسيلة للضغط على هذه الأسرة المجاهدة اعتُقلت زوجته وجرى إخضاعها للتحقيق ووُضعَت بزنزانة بجوار زوجهـا وجرى اعتقال أم عبادة الحاجة رابعة وهي امرأة تجاوز عمرها 65 عاماً؛ في محاولة للضغط على الأسير الفلسطيني الذي وقف يصرخ ويبكي لحال أمه وزوجته المعتقلتين، ويقول:
ونفوسنا مهما سما أعداؤنا تبقى كبارْ
أعداؤنا مهما طغوا فمآل جمعهم اندحارْ
سيزول ليل الظالمين ويخرج مع الفجر النهارْ
ارتعدت فرائص الأم الفلسطينية الأسيرة وقالت له: لا تبكِ يا بني؛ فالرجال في فلسطين لا يبكون وإياك أن أكون الحلقة الأضعف التي قد يساومونك عليها لانتزاع اعترافات تؤذي بها نفسك ورفاق دربك، قاطعتها الزوجة الفاضلة (نيللي الصفـدي) من الزنزانـة المجـاورة وقـالـت: إيـاك يا عبادة! كلنا فداك لا تضعف يا زوجي العزيز، هي ضريبة حب الوطن والانتماء إلى هذا الدين، الثبات الثبات. وشكَّل المعتقلون الثلاثة داخل مركز تحقيق صهيوني أقيم على أرض مغتصبةٍ حواراً وملحمة تاريخية بحاجة فقط إلى كاتب سيناريو لكي يبدع بذلك قصة تاريخية عظيمة.
وعلى بعد عدة كيلو مترات تقبع أسيرات الشعب الفلسطيني، حرائر هذه الأمة، تجلس (كفاح جبريل) التي اعتُقلت من بيتها ومن وسط أسرتها مع أنها تعاني من مرض نادر وحالتها الصحية صعبة والدم لا يصل إلى أطراف يديها... تجلس هذه الأسيرة تقرأ كتاب الله تصبِّر نفسها، تعدُّ الأيام، وتأمل بالإفراج عنها؛ فهي معتقلة بدون تهمة؛ فقط اعتقالٌ إداري احترازي، تهمتها أنها تحب فلسطين، كانت كل أمنياتها أن تكون بجوار ابنتها ضحى وهي تجهز نفسها للذهاب إلى المدرسة.
وبجوارها الأسيرة (منتهى الطويل) أم عبد الله، التي لها خمسة أولاد تركتهم من دون أن تستطيع مشاركتهم إفطار شهر رمضان وإعداد الطعام وتمشيط ضفائر ابنتها الصغيرة قبل أن تذهب إلى المدرسة.
في سجون الاحتلال ملاحم وقصص وبطولات وتضحيات أردْتُ أن أضع القارئ في صورة بعضها، لم أنمِّق الكلمات ولم اختر العبارات، وتركت القصة بعفويتها تتحدث عن نفسها وتروي معاناتها للناس. لعل أبطالها يجدون من يعرف عنهم ويشعر بهم ويسعى لنصرتهم؛ ولو بالدعاء.