حملة الثقافة العربية الاسلامية والعمل الحكومي في غرب اقريقيا
إن جنود الإلحاد اليوم يسعون سعياً حثيثاً إلى قلع جذور الإيمان من أعماق القلوب، ولا يستثنون ديناً من دين، بل ظلوا يكيلون لجميع الأديان السماوية بالكيل الواحد جزافاً ليرموها في سلة الخزعبلات والخرافات؛ لأنها لم تقدِّم وسائل الغنى والنِّعَم والرفاهية والترف؛ بل كانت عقبة في سبيل الاختراعات والكشوفات التي سعدت بها البشرية اليوم، إلى غير ذلك من مغالطات وسفسطات يروجها المنحرفون ويدسُّونها في أفكار الشباب الغُر[1].
زهرات الإسلام في غرب إفريقيا:
لقد أقام الإسلام دولاً وممالك في غرب إفريقيا، سمع العالم كله بخبرها، وسجل لها التاريخ صفحات خالدة في مفاخر تالدة، منها دولة غانة، وصنغى وبرنو، وهلمَّ جراً. ولولا الإسلام لما كان شيء من ذلك كله في القرون الوسطى[2].
ولم يزل عدد حجاج المسلمين يربو كلَّ عام على الرغم من وضع العدو الصليبي عقبات وعراقيل في سبيل من يريد الحج من الرجال والنساء؛ كل ذلك دليل على مزية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، وهو ما جعل نصارى نيجيريا يقتبسون من شعائر الإسلام كثيراً مما ليس في أصول ديانتهم لاقتناص المسلمين إلى دينهم، بل لإبعادهم عن الإسلام بدس السموم في مبادئه وتاريخه، وتشويه وجهه المليح، والتجني على الحقائق التي جاء بها[3].
التعليم العربي الإسلامي في غرب إفريقيا:
يرجع التعليم العربي في غرب إفريقيا إلى وقت دخول الإسلام فيها، وقد كان يقوى مع قوة الإسلام حيناً، ويضعف مع ضعفه حيناً آخر كما هو الواقع في مختلف البلاد؛ لأن المسلمين يلزمهم أن يؤدوا صلواتهم المفروضة كل يوم وليلة بسورٍ من القرآن وآياته، كما أنهم يقيمون الصلاة ويأتون في كل هيئة من هيئاتها بألفاظ عربية من آذان، وإقامة، وتكبير، وتسميع، وتهليل، وتشهُّد، لا تتبدل تلك الألفاظ بسواها[4].
لهذا، لا يكاد إنسان يعتنق الإسلام حتى يُسرِع إلى تعلُّم هذه الكلمات العربية ثم إلى تعلُّم القرآن؛ ولذلك يقوم بعضهم بدرسة علوم وقواعد اللغة ليتسنى له فهم القرآن وما إليه. وهكذا، انتشرت اللغة العربية بسهولة، وصارت لغة العلم والأدب والتاريخ في غرب إفريقيا.
وامتد التعليم من شمال إفريقيا إلى غربها، وأُنشئت معاهد عالية في غانة، ومالي، وصنغى وكاشنة، وكنو، وبرنو، وزاريا. وكان أهل غرب إفريقيا، يستقدمون إلى بلادهم العلماء العرب من المغرب، ومن الطوارق الملثمين المجاورين لهم في الصحراء الكبرى كالشناقطة. ويسافر بعضهم لطلب العلم إلى فاس، والقيروان، ومصر وغير ذلك من البلاد العربية.
ثم جاء الشيخ عثمان بن فودي في القرن الثامن عشر الميلادي، وأسس الدولة الإسلامية التي تحكم بالشريعة، فقامت بذلك نهضة علمية، فازدهـر العلـم والأدب، وتشرَّف الطلاب، وعلت ذؤابة العلمـاء؛ لأنهم أهل الحل والعقد في شـؤون الدولـة، فنجب مئـات من الفقهاء، والعلمـاء، والأدباء، فظلـوا كذلك حتى احتـل الإنجليـز والفرنسيون هذه البـلاد. وفي ذلك العهـد يقـول عبد الله بن فـودي شـقيق الشـيخ عثمـان بن فـودي فـي ازدهـار العلم وثقافته:
ومدارس أضنى بحب شهودهــا
فيها نجاح حوائج المتحوجِ[5]
وجحاجح علماء يحلب رفدهـــم
كلٌّ كبحر في العطا متمــوجِ
ولهم ككان ومبتدأ في جارهــــم
عمل لغيرهم كلم أو في يـــجِ
تعليم اللغة العربية لغير العرب:
اللغة العربية لغة راقية ذات ثقافة عالية، تتكلم بها أمة عظيمة في إفريقيا، وآسيا لا يقلُّ عددها عن مائة مليون، وبذلك، صارت العربية لغة العلم والأدب والتاريخ والتأليف في إفريقيا بشكل عام، وفي غرب إفريقيا بشكل خاص.
وقد اهتم المسلمون العجم بالعربية حتى كادوا يفوقون العرب في إتقانهم لها أو في المحافظة عليها، بل ظلت الثقافة العربية تراث كل مسلم، وحقه الشرعي لا فرق بينه وبين العرب الصميم. وهكذا اشتهر أعلام من العجم، يرجع إليهم الفضل في حفظ العلوم والفنون.
أما اليوم، فقد تغيرت الأوضاع والبيئات في كل جزء من أجزاء العالم، واحتلت اللغات الأوروبية المحل الأول، ولم تعدِ العربية لغة العلم والأدب والتاريخ في العالم الإسلامي بل انحصرت في مجال الدين؛ حيث صار الذين يتعلمونها إنما يتعلمون بدافع الغيرة الإسلامية، ونشرها بين أهاليهم.
من أجل هذا يجب أن نفرق بين أبناء العرب الذين يتعلمون العربيـة في بلادهم لتحمُّل الوظائف الرسمية هناك، وبين أبناء العجم الذين لهم لغتهم الأصلية لتحمُّل المسؤولية الدينية في بلادهم التي لا تزال تحكمها دول غير عربية ولا إسلامية، فإنها غالباً ما تكون معارضة لتعليم العربية الإسلامية.
مشكلة التعليم العربي في غرب إفريقيا:
إن المشكلات التي تجابه العالم الإسلامي في التعليم تختلف بوجه خاص عن المشكلات التي تواجه العالم العربي؛ فالعالم الإسلامي في غرب إفريقيا يعاني مشكلة تعدد اللغات: من اللغة الأم، ولغة الحكومة، ولغة الديانة، كما في نيجيريا - مثلاً - فقد كان لها أكثر من مائتي لغة، وقد اعترفت الحكومة بثلاث منها، وهي: الهوساوية واليرباوية والإيبوية، وتسعى الحكومة لفرض إحدى هذه اللغات الثلاث في المدارس إلى جانب اللغة الرسمية التي هي الإنكلزية.
أما المسلمون منهم فيسعون إلى فرض تعلُّم اللغة العربية أو الإسلامية عليهم؛ فإن الدواعي إلى تعلُّم العربية أحد أربعة:
الصنف الأول: هم قوم يتعلمونها كلغة أبيهم وأمهم، أو كلغة رسمية لحكومة بلادهم، وأولئك هم العرب الأقحاح الذين يعيشون في ظل دولة عربية محضة.
الصنف الثاني: قوم يتعلمونها لإشباع رغبتهم فيها؛ لأنها لغة حية ذات ثقافة خالدة عريقة في التاريخ، يتكلم بها جيل كبير من الناس يبلغون على الأقل مائة مليون نسمة في آسيا وإفريقيا، ومعرفة هذه اللغة - حسب رأيهم - نافعة ومفيدة في المجتمع الدولي. وهذا هو أسلوب المستشرقين والسياسيين الذين لا ينظرون إلى اللغات من زاوية الأديان، بل من زاوية أخرى.
الصنف الثالث: قوم يتعلمونها ليكونوا على بصيرة من مبادئ دين الإسلام، كمعرفة ما يؤدي به المسلم الصلوات المفروضة: من آذان وإقامة وتشهُّد، وبعض السور القصيرة، أو ما يؤدي به بعضهم مناسك الحج: من تلبية، وأدعية مأثورة لا يمكن أن تُستبدَل بغير العربية، وحكم هذا النوع فرض عين على كل مسلم ومسلمة.
الصنف الرابع: قوم يتعلمونها للتخصص فيها ليصبحوا مجتهدين، داعين في مسائل الدين الإسلامي.
وهنا تظهر مشكلة العمل الحكومي لمن أتقن اللغة العربية في غرب إفريقيا، وهي: أن الطالب المتخرج من المرحلة الثانوية أو الجامعية يقتحم كل عقبة، ويتحمل كل مشقة للتعمق في الثقافة العربية الإسلامية ثم يتخرج وهو كَلٌّ على مولاه، لا يجني شيئاً من وراء المتاعب التي عاناها، والصعوبات التي ذلَّلها، والليالي التي سهرها. وقد قاسى أضعـاف ما يقاسيه طـالب الإنجليـزية أو الفرنسـية قبـل التخـرج، ثم لا يجـد ما يضمن المعيشة الضرورية، ولا يرشَّح إلى وظيفة أو مكانة تصبوا إليها الأنفس؛ إذ ليس هناك من الدواوين الحكومية غير وزارة الخارجية، أو وزارة الإعلام، أو قسم شؤون الحجاج، والحكومة في هذه المؤسسات لا تحتاج إلى أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة؛ فهل نطلب من مئات الألوف أن يتعلموا العربية من أجل العمل الحكومي والحالة هذه؟ أليس من العبث أن يسعى أي فرد أو جماعة أو حكومة محلية كانت أم أجنبية في تكثير سواد طلاب العربية بتوزيع الِمنح عليهم من داخل البلاد وخارجها؟ فإن توزيع المنح من الدول العربية على الأقطار الإفريقية لا تدوم إلى الأبد؛ وإلا كان كمن يزرع في أرض قفر لا ينبت فيها الكلأ، ولا يثمر الخير[6].
يجب أن يكون حل مشكلة العمل والوظيفة نابعاً من صميم المجتمع، ومن داخل البلاد بين أبنائها، لا من الخارج؛ لهذا يجب أن نعيد النظر ونسأل: كيف كان يعيش علماء الإسلام في إفريقيا في ماضيها حتى خلقوا لأنفسهم دويلة ضمن دولة، وفرضوا كيانهم على السلاطين والأمراء في كل مكا ن، وهم لا يتقاضون أجوراً شهرية من أية حكومة أو منظمة؟ وهو شر ما مُنِي به علماء الإسلام اليوم أن يمدوا أيديهم إلى دولة أو منظمة آخر كل شهر ليجدوا ما يسدون به حاجتهم اليومية.
ولذلك قُطعَت ألسنتهم، وخفت صوت الحق، وجاهر أهل الباطل ببطلانهم. فالعلماء الأحرار الذين يقولون الحق، ولا يخشون لومة لائم، إنما كانوا يجدون مكاسبهم من عَرَق جبينهم أو يجمعون ما قدر الله لهم من تقاليد مجتمعهم بوجه شريف.
لو أننا بحثنا ذلك الأسلوب، وأدخلنا عليه التطوير والتحسين، لانحلَّت المشكلة في غرب إفريقيا عامة. وفي نيجيريا خاصة. إن الوظائف الحكومية التي كبرت اليوم، وبنيت لها عمارات ضخمة، كانت نابعة من صميم المجتمع، وقد كانت تافهة سافلة بادئ أمرها، ثم تطورت وتحسنت حتى ارتقت إلى صورتها الحاضرة.
طريقة معيشة علماء غرب إفريقيا:
إذا استثنينا أفراداً قليلين في بلاد هوسا[7] التي تنصِّب القضاة الشرعيين بموجب الحكومة المحلية التي هي من آثار الحكومة الإسلامية المندرسة، فإن الأغلبية الساحقة من العلماء والأئمة في غرب إفريقيا، لا يتقاضون أجوراً آخر كل شهر من جهة رسمية أو غير رسمية؛ وإنما كانوا يعتمدون على أنفسهم، ويأكلون من عرق جبينهم، ومما عملت أيديهم من زراعة أوصناعة أو خياطة أو تجارة.
ثم ظهرت لهم من صميم عملهم ومجتمعهم طريقة أخرى، وهي طريقة جمع الصدقات والهدايا، ويجمعون ذلك في الحفلات الإسلامية، أوَّلها حفلة تسمية المولود يوم سابعه، ثم حفلة النكاح ثم حفلة الشكر ونحو ذلك من الحفلات المستحدثة عندهم.
تلك هي طريقة معيشة علمائنا في غرب إفريقيا، وهي أقرب إلى الحرية منها إلى طريقة الخضوع تحت رحمة الأجور الشهرية التي تستلزم تكميم أفواههم، وقطع ألسنتهم عن النصح والإرشاد بحرية كاملة[8].
[1] آدم عبد الله الإلوري، فلسفة النبوة والأنبياء في ضوء القرآن والسُّنة، الأزهر: مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، ص 22 - 23.
[2] آدم عبد الله الإلوري، الإسلام اليوم وغداً في نيجيريا، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1985م، ص16.
[3] آدم عبد الله الإلوري، المرجع نفسه، ص17 - 18.
[4] آدم عبد الله الإلوري، نظام التعليم العربي وتاريخه في العالم الإسلامي، لاغوس: دار النور للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، ص143.
عبد الله بن فودي، تزيين الورقات، الناشر مكتبة (أبو) بكر أيوب [5] بمدينة كنو، نيجيريا.
[6] آدم عبد الله الإلوري، نظام التعليم العربي، المرجع السابق، ص150 - 151.
[7] هم قوم في شمال نيجيريا، أكثرهم مسلمين.
[8] آدم عبد الله الإلوري، نظام التعليم العربي، المرجع السابق، ص154 - 155.