عباءة الشعر
في أواخر تشرين الثاني من عام 1960م، وفي أثناء عودتنا من المدينة إلى القرية كنا نسلك طريقاً وعرةً على سفوح جبال طوروس الغربية. لم يكن ذلك سيراً، بل كان تسلُّقاً. كنا نمشي نحو قريتنا الواقعة على قمة مارجا؛ وأعني بقريتنا: قرية (قران) التي ولد فيها أولادي وترعرعوا. لقد كانت القرية الأولى التي عُيِّنتُ فيها معلماً، وهي القرية التي غزا الشيب فيها رأسي.
في الطريق إلى القرية غابت الشمس، وبدا الجو بارداً، وأخذ وجه السماء يتلبد وسط أشجار الصنوبر الخضراء، وبدأ الظلام يتماوج علينا بصمت رهيب.
أكثر الطيور استقرت في أعشاشها على أغصان الأشجار إلا ما كانت منها متأخرة في عودتها مثلنا، تمرُّ فوقنا وهي تضرب بأجنحتها من غير توقُّف، تسابق الظلام نحو أعماق الغابة الهادئة. اشتد البرد، وتعذر علينا الاستمرار في السير من غير أن نشعل ناراً نستدفئ بها؛ فتوغلنا داخل الغابة نجمع الأغصان اليابسة لإطعام النار.
كان صوت أحد الطيور: غاق... غاق يتردد بين الأشجار التي تضاهي المآذن في ارتفاعها فَيُحدِث صدى مرعباً في الغابة الموحشة. وبدأ من الجهة الأخرى طائر آخر يتجاوب مع صوت الطائر الأول: غاق... غاق ويحاكيه. يا تُرى ماذا يقولان؟ وبم يتحاوران؟ وانتقل صدى صوتيهما إلى أعماق نفسي.
أشعلنا ناراً واستدفأنا، وما زال الطائران في حوارهما، وبدأ العم عليٌّ يحكي لنا قصة تماثل وَضْعَ هذين الطائرين.
كنا متحلقين حول النار نتبادل الحديث في ما بعنا واشترينا في المدينة. استفاد الظلام من جلوسنا وحديثنا حول النار ففعل ما كان يجب أن يفعله، فوجدنا أنفسنا في أحضانه.
إننا إذا ذكرنا غابات (مارجا) فعلينا أن نتوقف قليلاً؛ فهي غابات كثيفة، أشجارها ضخمة مرت عليها قرون طويلة، إنها أشجار سوداء تفرعت من جنباتها الفسائل وصارت تنافس أمهاتها أشجار الصنوبر والبلوط والسنديان، وأخرى لا نعرف أسماءها قد رفعت رؤوسها نحو السماء .
كان باستطاعتنا أن نرى وجوه بعضنا بعضاً بفضل ضياء النار التي أشعلناها، وكان العم عليٌّ يتربع على العشب الأخضر الوثير وينصت إلينا، إنه رجل مسن يحبه الجميع ويقدرونه، يميل إلى الدعابة، ويحب المزاح المختلط بشيء من الجد.
أراد العم عليٌّ أن يقول: يا أستاذي! ولكنه غيَّر الكلمة فقال: يا معلم! لماذا تظل واقفاً ولا تجلس؟ أتخاف أن تتأذى فروتك من الجلوس؟
كنت قد استلمت بِزتي الجديدة من الخياط في ذلك اليوم، وارتديتها أول مرة كوني معلماً جديداً في المرحلة الابتدائية، وكانت هي بزتي الأُوَلى أيضاً في ذلك التاريخ، دفعت للخياط خمسين ليرة بالتمام. كنت سأعيش في هذه البزة الجديدة الأنيقة زهو المعلم وروحه بشكل أفضل.
في هذه الأثناء بدأ المطر يتساقط بهدوء، والنار التي أشعلناها أخذت تخمد، وصارت في نية الانطفاء، ألقينا ما بقي من الأغصان اليابسة فيها وانطلقنا في السير .
بدأ المطر يشتد ويتتابع بغزارة، والبغال التي كانت تحس بثقل أمتعتنا على ظهورها تضايقت من المطر أيضاً.
كانت البغال تسير بنشاط حتى كنا نلاحظ انطلاق شرارات خفيفة من وَقْعِ حوافرها على الصخور الصلبة، وكأنك تحاول إشعال النار بقداحة.
كان اللحاق بها صعباً؛ إذ امتلأت الطرقات بالمياه، والبروق تلمع متلاحقة من غير توقُّف، وهدير الرعد يصم الآذان، المطر... والبرد، والبرق، والرعد، ملأت قلوبنا رعباً.
لم نكن نرى بعضنا بعضاً إلا من خلال لمعات البرق؛ إذ تمتلئ الآفاق البعيدة بالضوء؛ وكأن الليل ينقلب إلى نهار في لحظات، ثم يحل الظلام الدامس ثانية. ومن خلال ومضات البرق نتتبع آثار السير.
كنا نمشي ونسبح في آن واحد، تغلغل البرد في عظامي، إن طبيعة هذه المنطقة هكذا، والقرويون معتادون على هذه الأجواء ولكني كنت غريباً عنها، بالإضافة إلى أنني أول مرة أواجه مثل هذا الموقف.
الملابس الجديدة التي ارتديتها ابتلَّت وثقلت، فصارت كأنها خارجة من الثلاجة. صرت أفكر بأني لا بد أن أصاب بالمرض. في تلك اللحظة صرخ العم:
يا معلم! تعالَ إلى هنا!
قلت: ماذا تقول يا عم علي؟
لشدة الظلام كنا نتحدث بصوت مرتفع كأننا نتكلم بالهاتف. اقتربت منه قليلاً، فصاح العم ثانية:
يا معلم! اخلع... اخلع فروتك!
في البداية لم أفهم ماذا يقصد بالفروة؛ يا ترى هل يريد المنديل؟ الفروة كانت كلمة غريبة عليَّ! قلت:
يا عم علي ماذا قلت؟ لم أفهم جيداً، أعد عليَّ ما قلت.
قال: يا معلم! قلت: اخلع ملابسك.
قلت: هل أخلع معطفي يا عم عليُّ؟
عندها قال العم عليُّ بصوت غاضب:
اخلعها كلها يا معلم!
تحيرت! صحيح كان الظلام مخيماً، ولكن عندما يلمع البرق كانت الرؤية واضحة، فانتظرت قليلاً وفَوْرَ لمع البرق خلعت ملابسي. كان المطر يغسل جسدي العاري كمن يأخذ حماماً بارداً.
مد العم عليٌّ إليَّ شيئاً وقال: البس هذا!
لم يعجبني الشيء الذي ارتديته، كان يحك جسدي، إنه لباس خشن سميك يخدش الجلد، لم أكن أعرف اسمه، ولكنه أدفأني، كان من الداخل جافا تماماً، وجسمي الذي كان يرتعش من البرد قد سكن.
عرفت بعد مدة أنه يصنع من شعر الماعز الذي يربيه الناس في تلك المنطقة، ويمنع تسرب الماء بتاتاً، يسمونه عباءة الشَّعر.
شعرت بالدفء التام، وصرت أفكر بوضع العم علي. كنت انتظر لمعان البرق، ولـمَّا لمع البرق وأضاء كل مكان، ماذا تظنون أني رأيت؟ كان العم عليٌّ يغطي رأسه بخرج وقد ترك سائر جسده هدفاً للمطر، وكان يضع فوق البغل بعض الأشياء، ولعلها كانت ملابسي المبتلة التي نزعتها. سألته باهتمام بالغ:
ماذا تفعل يا عم علي؟
فقال لي مرة أخرى:
أسلِّم فراءك أمانة للبغل!
قلت: يا عم عليٌّ، أنت ستبرد وتمرض هكذا.
قال: يا معلم، اسمعني جيداً! أنا عايشت معركة ( جناق قلعة )، سَلِمتُ من القنابل والرصاصات التي أمطرتها علينا سبع دول، والآن تريدني أن أخشى من رحمة الله؟ فَلْيهطل المطر ما شاء.
ولكني أصررت عليه بشدة أن يأخذ عباءته. فانزعج العم عليٌّ جداً وقال:
يا معلم! انظر إليَّ جيداً، أنا نخلت طحيني، وعلقت منخلي على الجدار... عشت حياتي. أما أنت، فالناس بحاجتك، أنت معلم قريتنا، فلو أصابك شيء لهلكنا جميعا؛ ومدرستنا ستغلق، أنا عند ذلك أمرض حقيقة، أنت ولدنا جميعاً، فلا تستكثر على نفسك ما أفعله. لقد بقيت قريتنا سنوات طويلة بلا معلم، عميت عيوننا، وصُمَّت آذاننا. إننا نعرف قيمة المدرسة وأهميتها، ومكانة المعلم ومقدار الحاجة إليه، ثم إن قريتنا بعيدة عن المدينة، ولا يوجد طريق معبَّد إليها، لأجل هذا قلَّ من يرضى المجيء إلى هنا من المعلمين، فنبقى كالأيتام، أنت شاب وضيفنا أيضاً، إذا مرضت أنت ماذا يقول الناس عنا؟
إن حديث العم عليٍّ هذا أسَرَني، وعرفت هناك أهمية وظيفة المعلم في الحياة بشكل أكبر؛ فقد لقنني العم عليٌّ درساً وبرنامجاً في حياتي العملية على أضواء البروق اللامعة في الليل الحالك!
وبعباءة الشَّعر التي ألبسنيها أرادني أن أتذكر دائماً ثقل وظيفة المعلم ودفأها في آن واحد.