أعمال الأبرار
الابتغاء: خُصَّ بالاجتهاد في الطلب؛ فمتى كان الطلب لشيء محمود فالابتغاء فيه محمود نحو قوله - تعالى -: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [الإسراء: 28] وقوله - تعالى -: {إلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20][1].
ومعنى ابتغاء وجه الله: ابتغاء رضاه[2].
ففي الإنفاق: قال - تعالى -: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]، وقال - تعالى -: {وَمَا تُنفِقُونَ إلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: ٢٧٢].
قال سيد قطب - رحمه الله -: (إن هذا هو شـأن المؤمن لا سواه، إنه لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، لا ينفق عن هـوى ولا عن غرض، لا ينفق وهو يتلفت للناس يرى ماذا يقولون، لا ينفق ليركب الناسَ بإنفاقه ويتعالى عليهم ويشمخ، لا ينفق ليرضى عنه ذو سلطان أو ليكافئه بنيشان، لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله خالصاً متجرداً لله... ومن ثَمَّ يطمئن لقبول الله لصدقته؛ ويطمئن لبركة الله في ماله؛ ويطمئن لثواب الله وعطائه؛ ويطمئن إلى الخير والإحسان من الله جزاء الخير والإحسان لعباد الله. ويرتفع ويتطهر ويزكو بما أعطى وهو بَعْدُ في هذه الأرض. وعطاء الآخرة بعد ذلك كله فضل)[3].
وقال السعدي – رحمه الله - في تفسير الآية: (هذا إخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها لا تكون إلا لوجه الله - تعالى - لأن إيمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الإخلاص)[4].
وقال الشيخ رشيد رضا – رحمه الله – (وَلِلْإِنْفَاقِ فَائِدَتَانِ:
أُولَاهُمَا - وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ -: تَثْبِيتُ نَفْسِ الْمُنْفِقِ وَتَرْقِيَتُهَا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ.
وَالْأُخْرَى: الثَّوَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ دُونَ الْأُولَى عِنْدَ الْعَارِفِينَ.
وَابْتِغَاءُ وَجْهِ اللهِ بِالْعَمَلِ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُ دُونَ سِوَاهُ تَقَرُّباً إِلَيْهِ وَإِرْضَاءً لَهُ لِذَاتِهِ لَا لِلتَّشَوُّفِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، كَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ عَرْضُهُ عَلَيْهِ وَمُقَابَلَتُهُ بِهِ فَقَطْ، وَلَا يَفْهَمُ هَذَا حَقَّ فَهْمِهِ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَرَاتِبَ النَّاسِ وَمَقَاصِدَهُمْ فِي خِدْمَةِ الْمُلُوكِ؛ ذَلِكَ أَنَّ:
مِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِلْمَلِكِ خَوْفاً مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ قَانُونُهُ أَوِ التَّقْصِيرِ فِيهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ لِأَجْلِ اقْتِضَاءِ الْأَجْرِ الَّذِي فُرِضَ لِلْعَمَلِ فَهُوَ لَا يُفَكِّرُ فِي غَيْرِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ فَيُجِيدُ الْعَمَلَ لِأَجْلِ الِارْتِقَاءِ مِنْ جَزَاءٍ إِلَى أَكْبَرَ مِنْهُ.
وَمِنْهُمْ - وَهُوَ أَعْلَاهُمْ مَرْتَبَةً - مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الْحَسَنَ الْمُرْضِي لِلْمَلِكِ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ فِي نَظَرِهِ مُحْسِناً عَارِفاً قِيمَةَ الْعَمَلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَمَا وَرَاءَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي كَانَتْ عِلَّةَ الْأَمْرِ فَمِثْلُ هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ مُبْتَغٍ وَجْهَ الْمَلِكِ؛ أَيْ أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يَرَاهُ فِيهَا مُحْسِناً، فَإِنَّ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِأَنَّ يُرَى فَإِنَّمَا يَأْتِي مِنْ تِلْقَاءِ الْوَجْهِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لَا يَبْتَغِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُوَاجِهَ النَّاسَ - لَا الْمُلُوكَ خَاصَّةً - بِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ كَمَالٌ لَا يَبْتَغِي غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، فَأَرْشَدَ اللهُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ فِي عَمَلِهِ الصَّالِحِ مَعَ اللهِ - تَعَالَى - كَذَلِكَ؛ أَيْ أَنْ يُكْمِلَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ وَيَبْتَغِيَ أَنْ يَرَاهُ اللهُ - تَعَالَى - كَامِلاً يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِأَنَّهُ حَسَنٌ، تَتَحَقَّقُ بِهِ حِكْمَتُهُ - تَعَالَى - وَتَقُومُ بِهِ سُنَنُهُ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ)[5].
وعن عَامِر بْن سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ»[6].
الظالمون في مقام الإنفاق:
قال - تعالى -: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِـمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة: 270].
قال الشيخ رشيد رضا - رحمه الله -: (وَالظَّالِمُونَ فِي مَقَامِ الْإِنْفَاقِ: هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ؛ إِذَ لَمْ يُزَكُّوهَا وَيُطَهِّرُوهَا مِنْ هَذِهِ الْفَحْشَاءِ (الْبُخْلِ)، أَوْ مِنْ رَذَائِلِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى. وَظَلَمُوا الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ بِمَنْعِ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ لَهُمْ، وَظَلَمُوا الْمِلَّةَ وَالْأُمَّةَ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَبِمَا كَانُوا قُدْوَةً سَيِّئَةً لِغَيْرِهِمْ.
فَظُلْمُهُمْ عَامٌّ شَامِلٌ؛ فَهَلْ يَعْتَبِرُ بِهَذَا أَغْنِيَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَرَوْنَ أُمَّتَهُمْ قَدْ صَارَتْ بِبُخْلِهِمْ أَبْعَدَ الْأُمَمِ عَنِ الْخَيْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؟
أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَجْهَلُونَ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَصَالِحِ الْأُمَمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ شَاؤوا لَانْتَشَلُوا هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ وَهْدَتِهَا، وَعَادُوا بِهَا إِلَى عِزَّتِهَا)[7].
وقال ابن عاشور - رحمه الله -: (وَنَفْيُ الْأَنْصَارِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْـيِ النَّصْرِ وَالْغَوْثِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمَّا بَخِلُوا بِنَصْرِهِمُ الْفَقِيرَ بِأَمْوَالِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْدِمُهُمُ النَّصِيرَ فِي الْمَضَائِقِ، وَيُقَسِّي عَلَيْهِمْ قُلُوبَ عِبَادِهِ، وَيُلْقِي عَلَيْهِمُ الْكَرَاهِيَةَ من النَّاس)[8].
الجزاء من جنس العمل:
إن من أغاث إخوانه اليوم في لهفاتهم، أغاثه الله في يوم عبوس قمطرير، وسخَّر الله له في الدنيا من أغاث لهافاته، ونفَّس عنه كُرُباته، ومن منع إغاثته عن إخوانه مُنعَت عنه الإغاثة في الدنيا والآخرة.
إيتاء حقوق ذي القربى والمسكين وابن السبيل:
قال - تعالى -: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْـمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُريدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [الروم: 38]. أي: (فأعطِ القريب منك - على حسب قربه وحاجته - حقَّه الذي أوجبه الشارع أو حض عليه: من النفقة الواجبة، والصدقة، والهدية، والبر، والسلام، والإكرام، والعفو عن زلَّته، والمسامحة عن هفوته. وكذلك آتِ {الْـمِسْكِينَ} الذي أسكنه الفقر والحاجة ما تزيل به حاجته وتدفع به ضرورته من إطعامه وسقيه وكسوته.
{وَابْنَ السَّبِيلِ}: الغريب المنقطع به في غير بلده الذي في مظنة شدة الحاجة؛ لأنه لا مال معه ولا كَسْب قد دبَّر نفسه به في سفره، بخلاف الذي في بلده؛ فإنه وإن لم يكن له مال ولكن لا بد - في الغالب - أن يكون في حرفة أو صناعة ونحوها تسد حاجته؛ ولهذا جعل الله في الزكاة حصة للمسكين وابن السبيل.
{ذَلِكَ}: أي: إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل. {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُريدُون} بذلك العمل {وَجْهَ اللَّهِ} أي: خير غزير وثواب كثير؛ لأنه من أفضل الأعمال الصالحة والنفع المتعدي الذي وافق محله المقرون به الإخلاص.
فإن لم يُرِد به وجه الله لم يكن خيراً لِلْمُعْطِي وإن كان خيراً ونفعاً لِلْمُعْطى؛ كما قال - تعالى -: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، مفهومها أن هـذه المثبتـات خير لنفعهـا المتعدي ولكن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)[9].
إيتاء الزكاة:
قال - تعالى -: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]. (فهذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال - إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار ردٍّ ولا عوض من الناس - إنما هي إرادة وجه الله: أليس هو الله الذي يبسط الرزق ويقدر؟ أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع؟ فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه؛ وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس... ذلك حساب الدنيا، وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة؛ فهي التجارة الرابحة هنا وهناك)[10].
والزكاة تطهر النفس وتزكيها؛ كما قال - تعالى -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]. قال ابن عاشـور - رحمه الله -: (فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تُطَهِّرُ وَتُزَكِّي)[11].
وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو في بيتها وعنده رجال من أصحابه... قال: «من أدَّى زكاة ماله طيبة بها نفسه يريد به وجه الله، والدار الآخرة لم يغيب شيئاً من ماله»[12]. (أي: ابتغاء النظر إلى وجه الله في الآخرة أي لا للنجاة من النار والفوز بالجنة فإن هذا أمر أجلُّ وأعظم من ذلك)[13].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: (أَتَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَحَاضِرَةٍ فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أُنْفِقُ وَكَيْفَ أَصْنَعُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ؛ فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ وَتَصِلُ أَقْرِبَاءَكَ وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ وَالْجَارِ وَالْمِسْكِينِ»)[14].
وفي مقصد زكاة الفطر ورد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قَالَ: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ؛ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ)[15].
وفي الإطعام: قال - تعالى - مخبراً عما في نفوس المؤمنين: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان: ٩] . قال ابن عباس - رضي الله عنه -: (كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا)[16]. وقال مجاهد –رحمه الله -: (أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب)[17].
وفي الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس: قال - تعالى -: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114]. قال الطبري- رحمه الله -: (والـ {مَعْرُوفٍ}: هو كل ما أمـر اللـه به أو ندب إليـه من أعمال البر والخير. الـ {إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}: وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين، بما أباح الله الإصلاح بينهما؛ ليتراجعا إلى ما فيه الأُلفة واجتماع الكلمة، على ما أذن الله وأمر به)[18]. والإصلاح بين الناس مقصد أسمى من مقاصد الشريعة لتحقيق الأُلفة بين المسلمين.
وفي الصبر على ما يتعرض له المنفق: من تكذيب واتهام لنواياه، وإيذاء بالقول والفعل ابتغاء مرضاة الله قال - سبحانه وتعالى -: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْـحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: ٢٢]. (وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ صَبَرُوا لِأَجْلِ أَنَّ الصَّبْرَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنَ اللَّهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ كَالرِّيَاءِ لِيُقَالَ: مَا أَصْبَرَهُ عَلَى الشَّدَائِدِ. وَلِاتِّقَاءِ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ)[19].
تعلُّم العلمِ وتعليمه ابتغاء وجه الله:
ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أنه قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي رِيحَهَا)[20].
(فالعلم الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْه اللَّه - تَعَالَى - يُنَجِّي صَاحِبه إِذَا قَبِلَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ وهو العلم الذي يعمل به صاحبه، ويعلِّمه الخلق، والحديث دليل على: أَنَّ الْأَخْيَار سِيَّمَا الْعُلَمَاء إِذَا وَرَدُوا يَوْم الْقِيَامَة يَجِدُونَ رَائِحَة الْجَنَّة قَبْل أَنْ يَدْخُلُوهَا تَقْوِيَة لِقُلُوبِهِمْ وَتَسْلِيَة لِهُمُومِهِمْ عَلَى مِقْدَار مَرَاتِبهمْ)[21].
الصدقة ابتغاء وجه الله:
ورد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ الثَّقَفِّيِّ أنه قَالَ: (قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُمْ هَدِيَّةٌ فَقَالَ: «أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ كَانَتْ هَدِيَّةٌ فَإِنَّمَا يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةٌ فَإِنَّمَا يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ» قَالُوا: لَا بَلْ هَدِيَّةٌ فَقَبِلَهَا مِنْهُمْ وَقَعَدَ مَعَهُمْ يُسَائِلُهُمْ وَيُسَائِلُونَهُ حَتَّى صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْعَصْرِ)[22].
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: أَسْنَدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَى صَدْرِي فَقَالَ: ... ومن تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»[23]. وهنا تساؤل: هل يُطْلَب من الفقير الدعاء للمُنْفِقْ أو الثناء عليه؟
قال ابن تيمية - رحمه الله -: (وَمَنْ طَلَبَ مِنْ الْفُقَرَاءِ الدُّعَاءَ أَوْ الثَّنَاءَ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان: ٩]؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً
[1] مفردات ألفاظ القرآن للراغب: ص56.
[2] التحرير والتنوير: 7/366.
[3] الظلال:1/ 295.
[4] السعدي: ص 116.
[5] تفسير المنار: 3/72.
[6] صحيح البخاري: الأعمال بالنية، ص54.
[7] تفسير المنار: 2/ 67.
[8] التحرير والتنوير: 3/ 66.
[9] السعدي: ص642.
[10] الظلال: 5/493.
[11] التحرير والتنوير: 11/ 22.
[12] المستدرك على الصحيحين: 1422. قال الألباني: صحيح. انظر « السلسلة الصحيحة»: 6 / 326.
[13] فيض القدير: 6/259.
[14] مسند الإمام أحمد: مسند أنس بن مالك: (11945).
[15] سنن أبي داود، زكاة الفطر: (1371).
[16] القرطبي: 19/ 130.
[17] الطبري: 24/ 98.
[18] الطبري: 9 / 202.
[19] التحرير والتنوير:13/ 129.
[20] سنن أبي داود: في طلب العلم لغير وجه الله - تعالى -: (3179).
[21] حاشية السندي على ابن ماجه: 1/ 235.
[22] سنن النسائي، عطية المرأة بغير إذن زوجها: (3698).
[23] مسند أحمد، مسند حذيفة، (22235).