اضطراب الملحدين(4-4)
اضطرابهم في العلاقة بين الإيمان ومكارم الأخلاق:
أودُّ قبل الدخول في هذا الموضوع أن أقول كلمة قصيرة عن المفهوم العربي الإسلامي للأخلاق: الخلق (بضم الخاء واللام) في الاستعمال العـربي هو الطريقة التي يعامِل بها الواحد غيرَه. وبما أنه لا بد لكل أحد من التعامل مع غيره، فلا بد إذن أن يكون لكل أحد خُلُق. وهذا أمر يشمل حتى بعض الحيوانات؛ فعندما بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى مكة في غزوة الحديبية، قال بعض أصحابه: «خلأت القصواء»، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله كما في صحيـح البخـاري: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق».
وبما أن المعاملة لا تكون إلا حسنة أو سيئة، فإن الخُلُق لا يكون إلا حسناً أو سيئاً؛ ولذلك تجد الخُلُق في التعبير العربي وفي الشرع الإسلامي لا يكون إلا موصوفاً بالحُسْن أو السوء. من ذلك وَصْفُه - تعالى - رسولَه الكريم بأنه على خُلُق عظيم، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذى رواه مالك في الموطأ: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ومَدْحه في أحاديث كثيرة لحُسْن الخلق، وذمُّه لسوئها. لكننا صرنا الآن نقول للسلوك الذميم: إنه سلوك لا أخلاقي؛ ترجمة للكلمة الغربية immoral، وهو تعبير لا معنى له في اللسان العربي؛ لأنه ما من سلوك - حسناً كان أم سيئاً - إلا وهو خُلُقي كما رأينا.
نعود إلى موضوعنا: ما العلاقة بين الإيمان ومكارم الأخلاق: كالصدق والأمانة والوفاء؟
هنالك طرفان ووسط في الإجابة عن هذا السؤال:
طرف يقـول: إن مـن لا يؤمـن بالله لا يلتزم بشيء من مكارم الأخلاق، بل ربما قال: إنه لا يعرف لها معنى.
وطرف مقابل يقول: إنه لا علاقة ألبتة بين الإيمان بالله ومكارم الأخلاق.
أما الوسط - وهو الصواب - فيقول: إن مكارم الأخلاق لها أصل في فطرة الإنسان؛ ولهذا يقول ردّاً على الطرف الأول: إن معرفة هذه المكارم واعتبارها شيئاً حسناً أمر يبني عليه الدين مخاطبتَه للإنسان. فكما يفترض الدين أن من يخاطبه مخلوق له عقل، فهو يفترض أيضاً أنه مخلوق يعرف معنى المكارم والمساوئ الخُلُقية؛ فالدين يدعو الإنسان إلى عبادة الله - سـبحانه وتعالى - ويعلل هذا الطلب بأن الله - سبحانه وتعالى - هو المنعـم على الإنسان بكل أنواع النعم. وجوهر العبادة هو الشكر. فإذا كان المرء لا يعرف للشكر معنى، فإنه لن يعقل لخطاب الوحي معنى؛ فالله - تعالى - يقول مثلاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 21 الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - ٢٢]. إذا كـان المخـاطَــب لا يعرف للشكر معنىً، فربما قال: إنني معترف بأن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي أنعـم عليَّ بكـل هـذه النعم ولكن ما معنى كوني أشكره وأعبده؟
وإذا قال الله - تعالى - في أول آيات من وحيه يخاطب بها الإنسان: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٢ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ٣ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ٤ عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ١ - ٥]، فربما قال - إذا لم يكن لمكارم الأخلاق أصل في قلبه -: إنني معترف بأن الله - تعالى - هو الذي خلق الإنسان من علق، ولكن ما معنى كونه الأكرم، ولماذا يكون خَلْقُه لي سبباً لعبادتي له؟
ولكن إذا كان لمكارم الأخلاق هذا الأصل الثابت في الفطرة البشرية، فإنه لا يعني أنه ليس بينها وبين الإيمان بالله - تعالى - صلة كما يدَّعي الملحدون من أمثال دوكنز؛ وذلك أنه:
أولاً: إذا كانت مكارم الأخلاق في أصل الفطرة، فإن الإيمان بالله - تعالى - هو الآخر في أصلها، بل في أصل أصلها؛ ولهذا فإنه مما يقويها ويثبِّتها؛ فكلما قوي الإيمان بالله - تعالى - كانت هذه المكارم أحيا في قلب الإنسان وكانت مراعاته لها أشد.
ثانياً: المـؤمـن باللـه تعـالى يعلم أنه - سبحانه - يحب هذه المكارم فهو يحبها بحبه لله، تعالى.
ثالثاً: كما أنه يحبها بحب الله - سبحانه وتعالى - لها، فإنه يحبهـا ويحـاول الاسـتمسـاك بها بحب رسل الله لها واستمساكهم بها كما قال الله - سبحانه وتعالى - عن رسوله الكريم: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤].
رابعاً: إذا كان الإنسان يعلم بفطرته مبادئ الأخلاق الفاضلة، فإنه لا يعلم كلَّ مقتضياتها، الوحي هو الذي يهديه إلى كثير من هذه المقتضيات. إن الإنسان يعلم بفطرته - مثلاً - أن العدل شيء حَسَن، ولكـن هـل يصـل علمـه به إلـى ما وصفه الوحي بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]؟
وإذا كان الإنسان يعلم أنه من الخير للناس أن يعيشوا متحابين؛ فهل يعلم كل ما يتنافى مع هذا الهدف، وهل هو مستعد لأن يخالف داعية هواه ليحققه؟ {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: ١٩].
ينقل دوكنز في إعجاب عن آينشتاين قوله: «إذا كان الناس إنما يكونون خيِّرين لأنهم يخشون العقاب ويرجون الثواب فإننا أمة يرثى لها»(1) .
فهل تدرون كيف كانت الحياة الشخصية لهذا الفيزيائي الشهير قائل هذا القول؟ أنجب أوَّل طفل له من امرأة قبل أن يتزوجها! ثم لَـمَّا تزوجها وأنجب منها طفلين طلقته بسبب الخيانة الزوجية(2)! . أما زوجته الثانية التي كان عمرها اثنتين وأربعين سنة، فقد رضيت بالأمر الواقع وعاشت معه، رغم اعترفه لها بأن له علاقة بست نساء غيرها!
خامساً: يكاد المفكرون الغربيون يُجمِعون على أن طلب الجزاء على عمل الخير مما يتنافى مع القيم الخُلُقية، ويرون لذلك أن من شرط العمل الخُلُقي أن لا يكون عليه جزاء. لكن الدين الحق يقرر أن جزاء الإحسان بالإحسان هو نفسه أمر يقتضيه الإحسان: {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ} [الرحمن: 60].
نعم إن طلب الجزاء الدنيوي على الإحسان أمر يتنافى مع مكارم الأخلاق، لكن هذا لا يعني أن كل جزاء على الإحسان يتنافى معها وإلا كان عمل الخير عبثاً، وكان مَثَله كمثل من يلقي بماله في البحر أو يحرقه؛ لأنه لا معنى للعبث إلا أن يعمل الإنسان عملاً لا يحقق له أي نوع من النفع؛ ولذلك كان من الأدلة على وجود الخالق ضرورةً وجود دار آخرى يثاب فيها المحسِن ويعاقب المسيء، وإلا كان المحسن هو الخاسر؛ ولذلك قال - تعالى -: {أَفَنَجْعَلُ الْـمُسْلِمِينَ كَالْـمُجْرِمِينَ ٥٣ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36].
هل معنى ذلك أن الملحد لا يمكن أن يُحسِن أبداً؟ كلا. لكنه إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون مبنياً على إلحاده وإنما على دوافع أخرى؛ فقد يصدق لأن من مصلحته أن يفعل ذلك في موقف معيَّن؛ ولذلك فإن أبا سفيان - رضي الله عنه - علل صدقه لهرقل بقوله كما في صحيح البخاري: «فو الله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت». فأبو سفيان الذي لم يكن ملحداً ولكنه كان مشركاً لم يعلل امتناعه عن الصدق اعتماداً على شركه، وإنما اعتماداً على مصلحته؛ لأنه كان يعيش في مجتمع يرى رغم شركه أنه من العيب أن يكذب رجل من سادة قومه. وكذلك الملحد قد يصدق؛ لأن الصدق في مصلحته الدنيوية، ولأن الكذب أو السرقة أو الخيانة تعرِّضه لإشانة السمعة أو للعقوبة أو لأي نوع من أنواع الخسارة المادية. ألا يمكن أن يصدق الملحد لأنه بشر يجد حُسْن الصدق في فطرته؟ نعم قد يصدق إذا لم يكن الصدق ضاراً به كما قلنا. أمَّا أن يصدق رغم أن الصدق يكلفه نوعاً من التضحية، فإنه إن صدق يكون قد فعل فعلاً يتنافي مع معتقده. إن فطرته قد تقول له: اصدق رغم أنك إذا صدقت تخسـر ألف دولار مثـلاً، لكن فكره الإلحادي - إذا كـان واعيـاً به ومنطلقـاً منه - يقول له: إنك تكـون حينئـذٍ مغفَّلاً لا عقل لك. إنك تؤمن بأن هذه الحياة هي فرصتك الوحيدة للاستمتاع بما فيها من لذات؛ فلماذا تضحي بها إذن؟ إن مشكلة الذي لا يؤمن بالله ولا بالدار الآخرة أنه يجد في نفسه نزاعاً بين فطـرته (إذا كان ما يزال محتفظاً بشيء من نقائها) وبين معتقداته؛ ففطرته تدعوه لفعل الخير وإن كان يقتضي شيئاً من تضحية، لكن معتقده يجعل هذا الفعل فعلاً غير عقلاني. وإذن فلا يغرنك عمل خير يصدر عن ملحد أو عن منكر لوجود الآخرة؛ فتظن أن عمله دليل على صحة معتقده أو على أنه لا منافاة بين هذا المعتقد وبين فعل الخير.
قد يقال: إذا كان الملحد لا يلتزم دائماً بمكارم الأخلاق، فإن المؤمن أيضاً قد يرتكب ما يتنافى معها؟ الفرق بين الاثنين أن الملحد حين يفعل فعلاً يتنافى مع مكارم الأخلاق لا يكون قد فعل فعلاً يتنافى مع معتقده، بل ربما كان معتقده هو الذي يسوغ له هذا الفعل. أما المؤمن فإنه إذا ما وقع في مثل هذا الفعل، فإنه يعلم أنه أذنب؛ ولذلك فإنه - إذا كان صادق الإيمان - يحزن ويستغفر ويتوب، ويعزم على أن لا يعود.
سادساً: إذا كانت مكارم الأخلاق من الفطرة، فما كل ما في الفطرة مما يظل الإنسان له ذاكراً، وإذا كان الإنسان محتاجاً إلى أن يُذكَّر بالله، فمن باب أَوْلى أن يكون محتاجاً إلى أن يذكَّر بمكارم الأخلاق ويُحَثَّ على الاستمساك بها. وهذا الذي يفعله الدين الحق؛ إذ يذكِّره بالعلاقة القوية بينه وبين دينه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 119].
«البر حُسْن الخُلُق»(3) .
«إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكـم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً»(4) .
«إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذاباً. وعليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً»(5) .
ومما استدل به دوكنز على عدم الفرق بين المؤمن بالله والمنكر لوجوده في مسألة الأخلاق تجربةٌ قال: إنه أجراها شخصان: أحدهما عالم أحياء، والآخر فيلسوف أخلاق، ملخصها: أنهما جمعا عدداً من المواطنين من المؤمنين بوجود الله والمنكرين لوجوده وسألاهم أسئلة افتراضية، وطلبا منهم أن يجيبوا عنها بمعايير خُلُقية فيختاروا ما إذا كان العمل المفترض واجباً فعله، أم مباحاً، أم ممنوعاً. وهذا ملخص الأسئلة ونتائجها:
• قطار إذا تُرِك يسير في خطه المعتاد قتل خمسة أشخاص، وإذا ما حُوِّل قتل شخصاً واحداً؟ أجاب تسعون بالمئة بأنه يجوز تحويله لإنقاذ الخمسة والتضحية بالواحد.
• ترى طفلاً يكاد يغرق في بركة لكنك إذا أنقذته خسرت بنطالك؟ أجاب سبعة وتسعون بالمئة بأن إنقاذه واجب.
• خمسة أشخاص في مستشفى يحتاج كلٌّ منهم لعضو لإنقاذ حياته، وهنالك شخص سليم في حجرة الانتظار؛ فهل يُقتَل وتؤخذ أعضاؤه لإنقاذ الخمسة؟ أجاب سبعة وتسعون بالمئة بأنه يُمنَع قتله.
قال اللذان أجريا هذه التجربة: إنهما لم يجـدا فرقاً كبيـراً في الأجـوبة بين المؤمنين وغير المؤمنين؛ فاستنتجا من ذلك: أنه لا علاقة للإيمان بمسألة الأخلاق.
لكن على هذه التجربة وما استنتجه اللذان أجرياها ملاحظات، منها:
أن كون غير المؤمن له معرفة ببعض مكارم الأخلاق وتطبيقه لها أمر لا يحتاج إلى تجربة كما قررنا من قَبْل.
ومنها: أنه من السهل على الإنسان مؤمناً كان أم غير مؤمن أن يلتزم بالمعيار الخُلُقي الكريم إذا لم يقتض منه تضحية. والأسئلة التي سألها أصحاب التجربة كلها من هذا النوع ما عدا قصة البنطال الذي كان يمكن أن تضحي به حتى بعض الحيوانات. ماذا لو تضمَّنت الأسئلة سؤالاً، مثل:
إذا اتُّهم شخصان بسرقة شيء وكان أحدهما بريئاً وكنتَ تعلم أن المجرم هو ابنك؛ فهل تشهد بأنه هو السارق؟
إذا ارتكبت جرماً يعرضك للحبس أو الغرامة الكبيرة وقال لك محاميك: إنه لا مخرج لك إلا أن تكذب؛ فهل يجوز لك ذلك، أم يجب، أم يمنع؟
ومنها: أن الآثار السلوكية والخلقية الحسنة للإيمان بالله لا تكون بمجرد الإيمان بوجوده. لقد كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بوجود الخالق، بل بكونه هو الذي يحي ويميت ويرزق وينجي لكن بعضهم كان مع ذلك يئد البنات. إن الإيمان الحق هو الإيمان بخالق متصف بصفات الكمال، وبأنه يبعث الناس ويحاسبهم، وبأنه يرسل رسلاً وينزل كتباً لهدايتهم.