جنوب السودان على أعــتاب دولة رومـية كاثوليكــيَّة
هناك في جزيرة مالطة، موطنِ الفرسانِ الإسبتارية، كان أحـد القسـاوسة الكاثوليـك – «أنيتو كاسـولاني» – يَجمـع ما استطاع من أخبار حول أعالي النيل. كان مشروعه يهدف إلى إرسال حملة تنصيرية تجعل من النِّيل طريقاً سريعاً لتنصير إفريقيا الوسطى. عرض «كاسولاني» مشروعَه على البابا «جريجوري السادس عشر» عام 1846م فاستحسنه؛ بل أمر بإقامة «الأسقفية التبشيرية [التنصيرية] في إفريقيا الوسطى» تحت إشراف البابا مباشرة. أما «كاسولاني» فكُلِّف بمهمة نشر النصرانية في السودان وحوض النيل ومناطق شاسعة إلى الجنوب والغرب[1].
حطت أول البعثات التنصيرية رحالها في الخرطوم عام 1848م. أما في جنوب السودان فتأسست أول إرسالية عام 1852م في «غُندكرو»[2]. لم يرحب جوُّ السودان بأولئك المنصِّرين؛ فقد هلك منهم ستة وأربعـون بين عامَي 1848 و 1862م. فلما خشي البابا على رُسله أمر بإيقاف الإرساليات ولم يتبقَ منهم سوى اثنين من أعضاء التنظيم الفرانسيسكاني لحماية ممتلكات المنصِّرين، أما البقية فانسحبوا إلى الأراضي المصرية.
لكن مشروع «كاسولاني» لم ينتهِ بذلك؛ ففي عام 1864م استأنف المشروعَ المنصِّر الكاثوليكي القديس «دانيال كمبوني» وهو أحد المنصِّرين الذين أُعيدوا إلى أوطانهم بعد أن أسقمهم حَرُّ السودان. لقد تعلَّم «كمبوني» درساً عملياً أن إفريقيا لا يمكن أن يُنَصِّرها الأوروبيون بمفردهم دون توظيف الطاقات المحلية. وفعلاً نشر فكرته بعد أن باركها البابا، وبدأت مراكز تدريب الكاثوليك الأفارقة على السواحل التي كان يقيم بها المنصِّرون. وفي عام 1867م أنشأ معهداً في مدينة «فيرونا» الإيطالية لتدريب القساوسة والمنصِّرين الذين يعملون في إفريقيا الوسطى، كما أنشأ مدارس وكليات في القاهرة والخرطوم. وكان من تلاميذه «دِينق سرور» أول قسيس كاثوليكي من جنوب السودان[3]. و «بخيتة كواشي» (التي صارت تعرف بـ «فورتوناتا كواسكي» Fortunata Quasce)، أول راهبة كاثوليكية سودانية[4].
استمرت جهود المنصِّرين بين مدٍّ وجزرٍ بعد أن نجحوا إلى حد كبير في توظيف سياسة «كمبوني» القائمة على تنصير إفريقيا من قِبَل الأفارقة. لكنَّ جنوب السودان الذي طالما استعصى على المنصِّرين بطبيعته الطاردة أصبح محط أنظار الكنيسة الكاثوليكية التي رأت فيه حلم إقامة دولة كاثوليكية رومية تكون قاعدة للبابوية في إفريقيا. وقد صرح بهذا الجنرال الصليبي «ريجينالد وينجيت» Reginald Wingate - خليفةُ الجنرال «هربرت كيتشِنَر» وأحدُ فرسان «التنظيم المبجل للقديس يوحنا» المتفرع عن فرسان مالطة - عندما أشار إلى «رغبته في رؤية جنوبٍ نصرانيٍّ يعادل قوة الإسلام في الشمال»[5]، يعني شمال السودان.
ليست هذه المرةَ الأولى التي تحاول فيها روما عزل منطقة مَّا لتقيم عليهـا «دولة كاثوليكيـة» «تَدُرُّ لبناً وعسلاً»؛ فقد كانت لها تجربة مماثلة في «الباراغواي» التي هي اليوم كاثوليكية رومية بامتياز. يحدثنا «ثيودور جرايسينجر» في كتابه «تاريخ اليسوعية» أنه بعد أن حطت ركائب المنصِّرين اليسوعيين الكاثوليك في الباراغواي قادمة من إسبانيا والبرتغال اجتمع بهم الأب «ستيفان بايز» عام 1602م وبلَّغهم وصية جنرالهم في روما بضرورة «إقامة دولة نصرانية [كاثوليكية] حقيقية ومستقلة في الباراغواي، يحكمها الجنرال اليسوعي في روما»[6].
كان سكان الباراغواي يتألفون من قبائل تعبد الأسلاف وتتعلق التمائم وتقدس السحرة والعرافين تماماً كما هو الحال بين القبائل الوثنية في جنوب السودان. أما عن طباعهم فيقول «إدموند باريس»: «كان سكان تلك البلاد من الهنود الرُحَّل الطيِّعين؛ يركع أحدهم لأي سلطة ما دامت تقدِّم له كفـايته من الطعـام وشـيئاً من التبغ»[7]. فكـان أول ما قام به المنصِّرون أن تألَّفوا قلوب هؤلاء البسطاء متظاهرين بالحرص على مصالحهم، والدفاع عن حقوقهم، ومواجهة خصومهم المستبدين من الإسبان والبرتغاليين.
اعتمد المنصِّرون في سبيل السيطرة على الباراغواي وإقامة الدولة الكاثوليكية على سياسة المناطق المقفلة؛ حيث عُزل الهنود الحمر الوثنيون عن الإسبان والبرتغاليين بحجة أن اختلاطهم بهم قد يفسدهم ويتسبب في إقلاق أمنهم. كما مُنِعوا من الحديث بغير اللغة المحلية «الغوارانية». ثم بدأ استغلال هؤلاء البسطاء من قِبَل المنصِّرين فجَنَوا من كدحهم أموالاً طائلة حتى غارت منهم ممالك أوروبا حينئذٍ.
إن هذا المشهد بتفاصيله يتكرر في أحداث جنوب السودان. فالاستفتاء ليس خياراً وإنما هو تتويج للمشروع البريطاني الصليبي الساعي إلى «رؤية جنوبٍ نصرانيٍّ يعادل قوة الإسلام في الشمال»؛ وهو ما نشط له المنصِّرون بطبيعة الحال. فسياسة المنصِّرين اليسوعيين في الباراغواي لإقامة دولة كاثوليكية هي السياسة التي سارت عليها بريطانيا لإقامة دولة صليبية في جنوب السودان.
لقد بدأت بريطانيا منذ عام 1910م بالعمل على عزل سكان جنوب السودان عن المؤثرات العربية والإسلامية كما عُزل الهنود الحمر في الباراغواي عن التأثيرات الخارجية المتمثلة في الإسبان والبرتغاليين. وفي عام 1922م صدر ما يعرف بـ«قانون المناطق المُقفَلة» الذي حرَّم دخولَ غير السودنيين إلى داخل مناطق معيَّنة، بل منع انتقال مواطني الشمال إلى الجنوب ومواطني الجنوب إلى الشمال[8].
وكما مُنِع سكان الباراغواي من الحديث بالإسبانية التي تربطهم بأوروبا أصدر السكرتير الإداري البريطاني والمستشرق «هارولد ماكمايكل» عام 1930م مذكرة أكد فيها على أن القبول باستمرار العربية في الجنوب سيؤدي إلى انتشار الإسلام؛ وهو ما يضيـف إلى الشمال المتعصب – على حد قوله - منطقة لا تقل عنه في المساحة. ليس هذا فحسب، بل زعمت مذكرة أخرى أن اللغة العربية المنتشرة في الجنوب عسيرة الفهم وأقرب إلى الرطانة، وبناء عليه شُجِّع الموظفون على دراسة اللهجات المحلية، ومن لم يحسنها لجأ إلى الإنجليزية[9]. وهذا عين ما صنعه المنصِّرون في الباراغواي؛ حيث فرضوا على الهنود الأصليين الحديث باللغة الغوارانية المحلية فقط.
إن المتتبع للحَراك التنصيري في جنوب السودان يدرك أن الاستفتاء الشعبي القائم ليس إلا إضفاءَ شرعيةٍ على دولة كاثوليكية في جنوب السودان وإعلاناً لقاعدة صليبية تحقق حلم البابوية في جعل النِّيل طريقاً سريعاً لتنصير إفريقيا الوسطى والحد من انتشار الإسلام. لقد كتب «اللورد كيتشِنر» في مذكرةٍ عام 1892م قائلاً: «ما لم تعضَّ القوى النصرانية بنواجذها على نصيبها من إفريقيا فإن العرب المحمديين [المسلمين] سيخطون هذه الخطوة، وسيصبح لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل، وستقع البلاد في عبودية وفوضى كما هو الحال في السودان»[10].
إن قساوسة الروم لا يريدون للسودان أن يتوحد؛ فهذا «المكتب اليسوعي لخدمة اللاجئين» Jesuit Refugee Service ينقل عن كبير الأساقفة الألماني الكاثوليكي «إروين جوزيف إندر» قوله أثناء زيارته لجنوب السودان: «قد تكون هذه المرةَ الأخيرةَ التي أزور فيها سوداناً موحداً... إن الشمال لم يقدم للجنوب شيئاً»[11]. كما صرح الأسقف «أركَنيِيلو واني» التابع لإرسالية إفريقيا الداخلية أن «زمان الوحدة قد ولَّى»[12]. أما الأسقف «هيلاري قرنق دِينق» فعبِّر عن الوضع بقوله: «لقد حاولَت الخرطومُ بلع الجنوب، لكن النصرانية وقفت معترضة في حلقها فأجبرتها على التقيؤ»[13].
إن رُسُل البابا الذين غيروا معالم الباراغواي هم الآن في جنوب السودان للغرض نفسه. فها هو «المكتب اليسوعي لخدمة اللاجئين» يتحدث عن جهوده قائلاً: «عندما توجه «المكتب اليسوعي لخدمة اللاجئين» إلى جنوب السودان في نهاية التسعينات من القرن الماضي شارك أفرادُه في الحديث عن الرعب الذي يعيشه المهجَّرون الذين حصرتهم الحرب الأهلية. ومع بزوغ عام 2011م لا يزال «المكتب اليسوعي لخدمة اللاجئين» في جنوب السودان يصحب الشعب في زمن السلام كما في زمن الحرب ... إن السودان على مفترق سلسلة من الخِيارات يمكن أن تكون تدشيناً لمؤسسة ذات مستقبل واعد»[14]؛ فهل هذه المؤسسة الواعدة هي الدولة الكاثوليكية الجديدة؟
لقد افتتح اليسوعيون قبل ثلاثة أعوام «مدرسة لويولا الثانوية» Loyola Secondary School في مدينة «واو»[15]. وها هم يعلنون افتتاح أول جامعة كاثوليكية يسوعية في جنوب السودان يؤسسها الأب اليسوعي «شولتيز»[16] بعد دعوة من البابا «بندكت السادس عشر» الذي أسرَّ إلى كبير أساقفة الخرطوم «زُبير واكو» قوله: «إن معاناة جنوب السودان التي تخفى على كثيرين لا يمكن التغلب عليها إلا بالتعليم...»[17]. وهذا التعليم ليس إلا حلقة في مشروع استعمار الجنوب قال عن مثيله «إدموند باريس»: «لقد قام تعليم سكان الباراغواي الأصليين على المبادئ نفسها التي طبقها الآباء [الكاثوليك] ويطبقونها الآن وسيطبِّقونها في كل زمان ومكان»[18].
ختاماً، على الرغم مما اكتنف الوحدة من عوائق وحروب أهلية كان المنصِّرون أكبرَ المروجين لها، إلا أن الحقيقة هي أن السودان تنازل لروما – طوعاً أو كرهاً – عن مقاليد أرضٍ مسلمةٍ «تدر لبناً وعسلاً» سرعان ما تنهض دولةً كاثوليكيةً يقودها «سلفا كير» «النصراني المتشدد والخطيب المألوف بالكاتدرائية الرومية الكاثوليكية في «جوبا»» كما وصفته الـ [19]BBC.
إن مشهد الاستفتاء يبعث السرور في قلوب الروم من أمثال «كارتر» و «كيري» و «كلينتون»، لكنه بلا شك يَحزُن أهل الإسلام؛ فقد فرط الدعاة إلى الله في دعوة بسطاء الجنوب الوثنيين يوم كانوا يُقبِلون على دين الله أفواجاً، حتى ضُرب بينهم بسور له باب لا يلجه إلا أهل الصليب.
[1] Nthamburi, Zablun. From Mission to Church (Uzima Press, 1991), p. 48.
[2] بدأت أول مساعي البابوية عام 1671م عندما أقام البابا إرساليات نصرانية في صعيد مصر للتواصل مع أتباعه في تلك البقاع. ولكن لانعدام الوجود النصراني هناك آثرت الإرساليات البابوية التوجه إلى إثيوبيا. خلال تلك المرحلة جمعت الإرساليات معلومات قيمة عن السودان.
[3] Hill, Richard Leslie. The Opening of the Nile Basin (Barnes & Noble Books, 1975), p. 196.
[4] http://www.dacb.org/stories/sudan/bakhita_kwashe.html
[5] Nthamburi, Zablun. From Mission to Church, p. 59.
[6] Griesinger, Theodor. The Jesuits: A Complete History, p. 136.
[7] Paris, Edmond. The Secret History of the Jesuits, p. 56.
[8] Sudan Almanac, (Republic of the Sudan, 1951), vol. 1937, p. 63.
[9] Collins, Robert. Civil War and Revolution in the Sudan (Tsehai Publishers, 2005), p. 276.
[10] Zeleza, Tiyambe. The Roots of African Conflict (Ohio University Press, 2008), p. 87.
[11] http://www.jrsusa.org/news_detail?TN=NEWS-20101221110224
[12] http://www.bibleleague.ca/news-detail-inter.php?id=194
[13] http://www.booksandculture.com/articles/webexclusives/2010/november/surprisessudan.html
[14] http://www.jrsusa.org/Prayers_Detail?TN=DTN-20101216111903
[15] http://www.nwjesuits.info/ACTS/archives/52
[16] http://ncronline.org/news/global/catholic-university-launches-sudan
[17] http://www.gurtong.net/ECM/Editorial/tabid/124/ctl/ArticleView/mid/519/articleId/1761/categoryId/4/Pope-Benedict-XVI-to-Support-Education-in-South-Sudan.aspx
[18] Paris, Edmond. The Secret History of the Jesuits, p. 58
[19] http://www.bbc.co.uk/news/world-africa-12107760