الخير من رحم الشر!
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
مع بداية العام الهجري الجديد، لا يملك الإنسان إلا أن يتسائل كيف مرَّ عام ومضى وما هي التوقعات لمسار الأحداث في العام الجديد؟ ولا شك أن الفرد يحتاج إلى وقفة صادقة مع النفس لتقويم الماضي ومحاولة وضع إطار عامٍّ يحكم من خلاله تصرفاته المستقبلية ووضع أهداف مرحلية يمكنه تحقيقها في العام المقبل، ولا شك أن كل فرد له أولوياته؛ إذ إنه بحاجة لتعزيز نقاط القوة لديه واستغلالها، وتلافي نقاط الضعف ومحاولة معالجتها، وما يصدُق على الفرد يصدق على الجماعات والأمم والشعوب وما يدخل ضمنها من دول ومنظمات، ونحن في هذه العجالة سنحاول أن نقدم خلاصة لعام مضى ورؤية لمسار الأحداث في المستقبل القريب.
إن من أهم ملامح العام الماضي هو الانسحابات المعلَنة أو تجاهل الالتزام بالاتفاقيات المبرَمة؛ وهي ظاهرة خطيرة توحي ببداية صراعات لفرض واقع جديد؛ فمثلاً كما كانت اتفاقية الحدِّ من التسلح وحظر الصواريخ متوسطة المدى والقصيرة إيذاناً بانتهاء الحرب الباردة، فإن إلغاء الاتفاق يعني العودة لأجواء الحرب الباردة وخطورة الأسلحة النووية قصيرة المدى؛ وهو ما يعني احتمال الدخول في حروب نووية محدودة، بالإضافة إلى أن نصب الصواريخ الأمريكية في شرق أوروبا سيدفع الروس إلى الاستماتة في الحصول على موطئ قدم في أمريكا الجنوبية وعودة العالم لأجواء الأزمة الكوبية... ويمكن أن نسمع قريباً عن أزمة الصواريخ الفنزويلية والمشكلة حاليّاً أننا أمام لغز كبير إزاء طبيعة العلاقة بين أمريكا وروسيا؛ فعلى الرغم من العلاقة الخاصة بين الرئيسين الهَرِمين (ترامب وبوتين) فإن الدولة العميقة لكلا البلدين هي التي ترسم مسار الأحداث، ولا شك أن أجواء الانتخـابات الأمريكية العـام المقبل ستكون عامل تسخين شعارها افتعال أزمات مع الروس لتهميش فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات السابقة ومحاولة منع تكرارها.
ومن ناحية أخرى فستبقى الصين ورقة انتخابية يحاول ترامب استغلالها انتخابيّاً؛ فقد اقتبس من التوراة نصّاً ووظفة لتبرير الحرب الاقتصادية ضد الصين بقوله: «أنا الشخص المختار» لتحدي الصين، وبقدر ما تكون خطوة ذكية انتخابيّاً فهي خطرة جداً إستراتيجيّاً، وهنا لا ننسى أن أمريكا هي التي تقربت من الصين أوائل السبعينيات في القرن الماضي أيام الرئيس نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر، ورفعت الحصار عنها واعترفت بها في إطار محاصرة الاتحاد السوفييتي وقتها والانسحاب الآمن من فيتنام. لكنَّ الذي حصل أن الصين برزت كعملاق اقتصادي، وتهديده بالحصار من جديد سيؤدي إلى محاولة الصين تأمين نفسها ولن يكون لها خيار سوى استخدام ذراعها العسكري والسياسي؛ وهو ما يعني دخولها في تحالفات إستراتيجية وتنامياً سريعاً في القدرات العسكرية والتوسع في القواعد العسكرية حول العالم؛ وهذا قد يعني محاولة تصفير المشاكل الداخلية ومن ثَمَّ يُتوقع التوقف عن سياستها الهمجية في التعامل مع المسلمين الأويغور في تركستــــان الشرقية، وذلك لهدفين:
أولهما: مزيد من التقارب مع الدول الإسلامية، خاصة باكستان وتركيا، المشاركة في مشاريع الممرات التجارية الحيوية نحو بحر العرب وإحياء درب الحرير.
وثانياً: لمنع أمريكا من استغلال المشكلة لتفجير الأوضاع داخل الصين. ونلاحظ أيضاً أن الروس والإيرانيين يحاولون فرض واقع جديد في سوريا يتناقض مع اتفاقيات وقف التصعيد؛ بل قد يؤدي إلى نزوح جماعي يقضي على مشروع المناطق الآمنة، وقد يفضي إلى مشاكل جمَّة في الداخل التركي وإعادة الحياة من جديد لمشروع كردستان الكبرى الذي ترعاه أمريكا حاليّاً. إنها حالة معقدة تعتمد على حقيقة التفاهمات بين الروس والأمريكان والإيرانيين حول المنطقة وهل ما زالت قائمة أم هي عرضة للنسف والتغيير؟
من جانب آخر نرى كيف دخلت الهند على خط الأحداث في خطوة مُفاجئة بإلغاء الوضع الخاص لكشمير؛ وكأن الحزب الحاكم في الهند - وهو هندوسي متطرف له علاقات تنظيمية خاصة مع إسرائيل - يريد إشعال حرب مع باكستان! ويبدو أن الهدف الرئيسي هو إضعاف باكستان ومنعها من الوقوف على قدميها وخاصة مع قرب تشغيل المشروع المشترك مع الصين واحتمال قبولها لعرض رئيس وزراء ماليزيا بتكوين تحالف ثلاثي ماليزي تركي باكستاني.
إن باكستان أمام مُفترق طرق؛ فإمّا أن تبقى وحيدة أمام الهند وتسلِّم كشمير لقمة سائغة أو تستغل جميع عوامل القوة لديها وتستغل الفرصة للانتقال إلى باكستان الجديدة وتتخلص من حالة الإعاقة التي تعيشها حاليّاً وتستفيد من تجارب الآخرين الناجحة.
وفي الختام نُحيِّي حَراك الشعب الجزائري السلمي المستمر، ونؤكد على أن العسكر لم يتلقوا بعد الضوء الأخضر لقمع الحراك نظراً لضبابية الأوضاع في المنطقة، فانكشاف مشروع تسخين مشكلة الصحراء المغربية قد يدفع المغرب إلى الوقوف أمام إعادة إنتاج النظام العسكري التابع للغرب وتبنِّي قيام نظام مدني في الجزائر فهو الوحيد الذي يضمن علاقات جوار مستقرة وإمكانية عودة فتح الحدود والتبادل التجاري الضروري لأي تطور حقيقي للبلدين كليهما، ومن ناحية أخرى فإن مسار الأحداث في ليبيا والمقاومة الشرسة لمحاولة فرنسا فرض نظام عسكري يُضعِف فرص تمرير إعادة وصاية العسكر على الجزائر بصورة سلسة، بل الأقرب أنه مغامرة خطيرة غير مأمونة العواقب؛ ولذا فلا يمكن التحرك في الجزائر قبل حسم الأمر في ليبيا لصالح حفتر أو على الأقل تجميد الأوضاع وإيقاف القتال بصورة مؤقتة، وهو ما تسعى إليه أطراف عديدة صَحَت ضمائرهم بصورة مفاجئة ورفعوا عقيرتهم بالوقف الفوري لإطلاق النار وحقن الدماء، ولسان حالهم: كفى، دعونا نمارس عملنا!
وأخيراً: ننبه إلى ظاهرة جديدة سيكون لها دور كبير في الأحداث وهي على ما يبدو تبنِّي أمريكا لإعادة إحياء واستغلال بقايا الأحزاب الشيوعية في المنطقة واستغلالها في ركوب ومواجهة التحركات الشعبية وتدميرها، ونلاحظ كيف تحول الشيوعيون السابقون إلى مناضلين جُدد تحت راية السيد الجديد... وما نريده من القارئ الكريم أن يبحث قليلاً في ماضي المتصدرين على الساحة السودانية والحَراك الجنوبي في اليمن والمتشدقين بالليبرالية في الساحة العربية.
إن العام القادم سيشهد تحولات عميقة في المنطقة، وإنّ نُذُر الصراع بين الدول الكبرى سيكون له أثر في بروز قوىً وتكتلاتٍ جديدة. واللهَ نسأل أن يكون بداية لعودة المسلمين إلى الساحة الدولية بعد طول غياب، فسنة الله ماضية لا تتبدل؛ فكما أن الخير يعقبه شر، فكذلك الشر والظلم والجور يعقبه الخير والعدل.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يتبع أحسن القول وأن يملأ قلوبنا إيماناً صادقاً ويقيناً بأن العاقبة للمتقين وأن هدف الإنسان الأسمى هو رضا الله والسير على هداه؛ كما في حديث حذيفة رضي الله عنه في الصحيحين قال: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني؛ فقلت: يا رسول الله! إنَّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير؛ فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم! قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم! وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها؛ ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».