رسائل الطفولة السورية وتآكل الوعي الإنساني
يصعب كثيراً أن نجد كلمات تعبِّر عن رسائل منبعثة من قلب طفل بريء، لقد أدهشتني فاطمة الطفلة السورية، الطامحة للمجد من وسط جحيم الموت، بعثت برسالة تقول لي: «أحلم أن أصبح طبيبة أطفال، حتى أساعد أطفال بلدي، طبيبة الأطفال طيبة القلب وحنونة، سأذاكر حتى أصبح طبيبة ماهرةً وناجحةً».
الطفلة فاطمة موجودة في مركز هبة الله التعليمي الخيري في إدلب، الذي يهتم بدعم الأطفال تعليميّاً ونفسيّاً، ويشرف على عمله محمد إسماعيل ضمن مبادرة شخصية لخدمة ومساعدة الأطفال، يعمل هذا المركز في ظل تحديات الحياة في سوريا وضعف التمويل المقدم للعناية بالأطفال ومساعدتهم.
إن المتتبع لما يجري من جراحات عميقة لواقع الطفولة في سوريا، لا يحتاج إلى كثير من العناء لاكتشاف حقيقة قتل أمل الأمة ومستقبلها؛ لذا لم تبخل الحرب المدمرة في سوريا في تعريض الأطفال لنيران أسلحتها إما قتلاً، وإما تعريضهم للإصابة بالإعاقات والعاهات المستديمة، والسعي لتدمير بنية الطفل النفسية والبدنية والعقلية المعرفية والاجتماعية.
لقد أصبحت صورة الحياة للمشهد عامة، وللطفولة بشكل خاص، تلقي بظلالها على المجتمع السوري بجميع فئاته وتُحدث آثاراً سلبية كبيرة في البناء الشخصي لكل فرد من أفراده، ويحظى الأطفال بقدْر أكبر من هذه الآثار؛ نظراً لتدني إمكانياتهم وقدراتهم إذا ما قيست بإمكانيات الكبار وقدراتهم، في ما يتعلق باستيعاب آثار الحرب واحتمال ظروفها والتكيف مع مشكلاتها من منطلق ضرورة التوافق الشخصي مع المحيط كشرط لا بد منه للبقاء والاستمرار.
لقد تأثرت الطفولة السورية في جميع جوانبها وأحوالها بحالة كارثية لتنعكس على ملامح شخصية الطفولة لدى الطفل السوري وسيكولوجيته، لقد شكلت ظروف الاحتلال تأثيراً مباشراً على معدلات النمو في جوانب شخصية الطفل، وهو ما يجعلها غير مرتفعة وتعاني من ضعف وتراجع وانحراف في حالات كثيرة، وعلى نحو يهيئ لحالات تأخر في الذكاء والنشاط الذهني، وتأخُّر في التعليم والتحصيل المدرسي، وتدنٍّ في المواهب الشخصية وغياب مظاهر الإبداع والتميز، ووقوع في الاضطرابات النفسية والمشكلات المختلفة.
كما إن انحراف عمليات إشباع الحاجات الإنسانية للطفل عن مساراتها ومعدلاتها الطبيعية يؤدي إلى ضعف في بنية الشخصية وتكوينها وتراجع في نمائها ونضجها؛ يفقدها القدرة على تحقيق التوافق المطلوب ويزيد من فرص وقوعها في الاضطرابات النفسية والمشكلات السلوكية. كذلك فقدان الطفل السوري لوطنه وما تبعه من حالات اللجوء والهجرة، حتى الطفل المقيم في سوريا يشعر بفقدانه لوطنه حتى وإن كان يعيش على ترابه، ويتعزز هذا الشعور في نفسه إذا فقد عزيزاً كأبيه أو أمه، أو أخيه أو رفيقه نتيجة ظروف الحرب المدمرة، فيتعمق عنده شعوره بالأسى والحسرة الذي يمكن أن يتطور إلى ما يسمى في الطب النفسي بـ (اكتئاب الفقدان)، وتتعاظم في نفسه مشاعر الاغتراب النفسي والاجتماعي والوطني، وما يمكن أن يترتب على ذلك من هبوط الروح المعنوية وانحسار النشاط الاجتماعي والميل إلى الانطواء.
كما أن حالة الحرمان من اللعب الذي يهدف إلى تحقيق المتعة والشعور بالبهجة ومحاولة اكتشاف العالم والتعرف على ظواهره المختلفة واكتساب المعرفة والمعلومات وتنمية المهارات السلوكية والاجتماعية وتطوير الذات ينعكس بشكل سلبي على مشاهد الطفولة في سوريا؛ إذ يشكل اللهو واللعب حاجة أساسية من حاجات الطفل، لا تقل أهمية عن الحاجات الأخرى كالتعليم والصحة والغذاء.
لربما رسالة الطفلة فاطمة ومشاهد الطفولة التي نراها عبر رسومات الأطفال تكون أدق وصفاً وشرحاً من الكلمات، لنرى بعين واضحة رسومــــات لا تحاكي حالة الطفولة الطبيعية؛ فلا نكاد نرى صورة السماء الصافية والشمس المشرقة والأرض الخضراء والبيت الجميل والنهر يحيط به، كما هم معتادون على ذلك قبل الحرب، لقد أصبحت رسوماتهم تبرز حالة الفقدان والحزن والدموع ويعتنقها الظلام ورسم الطائرات، والأبنية المهدمة.
إن مشاهد ورسائل الطفولة تعدُّ الحلقة الأشد ضعفاً، والفئة الأكثر تأثُّراً بمجريات الأحداث في سوريا وانعكاساتها، مقارنة بالفئات الأخرى؛ إذ تؤكد التقارير الدولية كافة أن الأطفال السوريين تعرضوا لأبشع الانتهاكات وَفْقاً للقانون الدولي الإنساني، وقانون محكمة الجنايات الدولية، واتفاقية حقوق الطفل، وما بين كل مشاهد الاغتراب والنزوح والمرض والإعاقة والفقدان، يترنح مصير أطفال سوريا في ظل غياب إستراتيجية واضحة أو مشروع حلٍّ يأخذ بعين الاعتبار أجيال المستقبل وثروته القادمة.
أخيراً: أؤكد على ما تحدَّث به (جيرت كابيليري) المدير الإقليمي لمنظمة اليونيسيف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ملخصاً المشهد العام والخاص، أن الحرب قد سرَّعت من معدل تآكل الوعي الإنساني المشترك، وأصبح من غير الممكن التظاهر بعدم معرفة ما يحصل من استهداف للأطفال. ومع ذلك، لا يطلق أحد صرخة غضب! والأسوأ من ذلك هو غياب التحرك السياسي الفعال!