رسائل الطفولة السورية وتآكل الوعي الإنساني
تقف تونس اليوم على عتبة انتخابات رئاسية جديدة، ورغم أن الساحة التونسية شهدت
العديد من الانتخابات البرلمانية والرئاسية منذ الانتفاضة التونسية في 17 ديسمبر
2010م؛ إلا أن الانتخابات الرئاسية هذه المرة تتضمن العديد من المدخلات الجديدة
التي ربما تسفر عن مشهد سياسي مختلف.
من المؤكد أنَّ الحالة السياسية التونسية منذ بداية مرحلة التحول الديمقراطي عقب
هروب زين العابدين بن علي، لم تشهد تزويراً فجّاً أو إقصاءً للشعب التونسي، لكن في
كل الأحوال فقد جرت هندسة نتائج الانتخابات التونسية السابقة بحيث إن مفاصل السلطة
في تونس لم تخرج عن هيمنة أذرع (المخزن) بالتعبير السياسي المغربي، أو (الدولة
العميقة) بمصطلح أهل المشرق.
فرغم فوز حركة النهضة في أول انتخابات شعبية حرة لاختيار أعضاء المجلس الوطني
التأسيسي التونسي التي أجريت في 23 أكتوبر 2011م إلا أنهم لجـؤوا إلى تكوين ما
يُعـرَف بتحـالف الترويكـا ضـم حـزبين آخـرين بالإضافة لحركة النهضة حزب: (المؤتمر
من أجل الجمهورية) و (التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات)، ولم تكتف حركة
النهضة بالمشاركة؛ بل قبلت بالتنازل عن وجودها في السلطة تماماً؛ فاستقالت حكومة
(علي العريض) في أوائل عام 2013م.
وفي الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 26 أكتوبر 2014م حلَّت حركة النهضة ثانياً
بـ 69 مقعداً خلف حزب حـركة نداء تونس الذي فاز بـ 86 مقعداً. وقتَها شاركت حركة
النهضة حزب نداء تونس في الحكومة بالإضافة إلى حزبين آخرين: حزب الاتحاد الوطني
الحر، وحزب آفاق تونس، ورغم أن الحركة حلَّت ثانياً إلا أن حصة الحركة في ذلك
الائتلاف الحاكم لم تتعدَّ حقيبة وزارية واحدة فقط.
ظلت حركة النهضة رغم تخليها عن نصيبها من السلطة وتراجعها عن ترشيح أحد ممثليها في
الانتخابات الرئاسية السابقة، بالإضافة إلى إثقال كاهلها بالعديد من الآراء
والمواقف التي تتصادم مع تقاليد وتعاليم الشرعية الإسلامية؛ مثل إتاحة زواج المسلمة
من غير المسلم والمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث... رغم تلك التراجعات
السياسية والأيديولوجية إلا أن الحركة ظلت محل قصف إعلامي وسياسي شديد جعل من مجرد
بقاء أعضائها خارج السجون يعد مكسباً سياسيّاً إستراتيجيّاً ينبغي الحفاظ عليه.
قبل وفاة الباجي قائد السبسي كانت تونس على موعد مع انتخابات رئاسية اعتيادية ستجري
في موعدها القانوني في 17 نوفمبر المقبل، ولكن نظراً لوفاة الرئيس الباجي قائد
السبسي جرى تقديم موعد الانتخابات لتكون في 15 سبتمبر وَفْقاً للدستور الذي ينص على
أن يكون لتونس رئيس جديد في غضون ثلاثة أشهر.
ورغم أن العديد من الأحزاب والشخصيات كان تستعد للنزول إلى ساحة الانتخابات
الرئاسية إلا أن المشهد التونسي كان يشي بأن ثمة ترتيبات واجتماعات تجري خلف
الأبواب المغلقة بحيث لا يخرج منصب الرئاسة عن أحد رموز الدولة العميقة.
لكن وفاة السبسي المفاجئة خلطت الكثير من الأوراق ودفعت العديد من القوى السياسية
للنزول بمرشحيها لشغل هذا المنصب الذي يعد العمود الفقري للحياة السياسية في تونس؛
فقد أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس عن قبول ملفات 26 مرشحاً
بينهم امرأتان من بين 97 تقدموا بتسجيل ترشحهم لخوض الانتخابات الرئاسية المبكرة.
وتحتوي القائمة على العديد من الشخصيات والرموز السياسية من القوى السياسية
المختلفة.
فحركة النهضة شرعت في ترشيح عبد الفتاح مورو لخوض الانتخابات متراجعة بذلك عن
موقفها السابق بعدم تقديم مرشح عنها في الانتخابات الرئاسية.
في حين تشهد بقية القوى والأحزاب انقساماً حادّاً وتعدداً في مرشحيها؛ فيوسف الشاهد
رئيس الحكومة الحالي ورئيس حزب تحيا تونس - وهو ذو توجهات ليبيرالية، وكان إلى وقت
قريب أحد مكونات ائتلاف نداء تونس ومقرباً من الرئيس السبسي قبل أن يدب الخلاف
بينهما - تقدَّم بأوراقه للترشح، وكذلك قدم أوراق ترشُّحه وزير الدفاع عبد الكريم
الزبيدي الذي استقال من منصبه ليتقدم للانتخابات رسميّاً عن حزب (نداء تونس) جناح
السبسي، والزبيدي يعدُّ أحد وجوه عهد زين العابدين بن علي، وقد كان وزيراً للصحة
عام 2001م، ولم يمكث في المنصب أكثر من 8 أشهر، وقبلها كان كاتب الدولة لدى الوزير
الأول والمكلف بالبحث العلمي والتكنولوجيا بين عامي 1999 - 2000م، وبعد الثورة
احتفظ بمنصبه وزيراً للدفاع حتى استقالته.
وكذلك الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي الذي تولى منصبه أولَ رئيس للبلاد بعد
الثورة، بين عامي 2011 - 2014م بعد انتخابه من قبل المجلس الوطني التأسيسي. كما
أعلن رئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي ترشُّحه للرئاسة، وقد تولى منصبه رئيساً
للحكومة في عهد المرزوقي بين عامي 2011 - 2013م.
إضافة لرئيس الوزراء السابق مهدي جمعة الذي تولى رئاسة الوزراء عقب تخلي النهضة عن
رئاستها، كذلك ترشح للرئاسة رجل الأعمال نبيل القروي وهو رجل أعمال ومالك قناة نسمة
الخاصة، وكان القروي عضواً في حزب نداء تونس قبل أن ينسحب منه. وساهم في نجاح نداء
تونس آنذاك في الوصول للسلطة عبر حملة إعلامية ضخمة في قناته وعبر وسائل التواصل
الاجتماعي واللافتات الإعلانية في الشـوارع. إضافة إلى العديد من الشخصيات والرموز
السياسية الأخرى.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تراجعت حركة النهضة حقّاً عن عدم رغبتها في الدخول إلى
صلب السلطة السياسية في تونس؟ وهل ستشهد تونس تغيُّراً حقيقيّاً في منظومة السلطة
السياسية؟
يرى بعض المراقبين أن ترشيح حركة النهضة لعبد الفتاح مورو ينم عن عدم رغبة حقيقية
في الحصول على منصب الرئاسة الشاغر وأن حظوظ مورو تبقى ضعيفة؛ فرغم كونه نائب رئيس
البرلمان ورئيسه الحالي بالإنابة يبقى باعتباره رجل دين معمم في المخيال الجمعي لدى
الشعب التونسي أبعد عن صورة رجل السياسة المحنك، وأن الحركة لو كانت جادة في
المنافسة على منصب الرئاسة لقدمت راشد الغنوشي؛ نظراً لما يتمتع به الرجل من حضور
سياسي وعلاقات دولية ممتدة. ويبدو أن الحركة تريد أن تستمر في تموضعها السياسي
بعيداً عن المناصب التنفيذية في الدولة والاكتفاء بالمنافسة في الانتخابات
البرلمانية. كما يبدو أن ترشحيها مورو هو محاولة لتجنبها إحراجات السياسية؛ ففي حال
عدم دخولها بمرشح يمثلها ستكون هدفاً للاستقطاب من مختلف القوى السياسية؛ فهناك
شخصيات وطنية ونزيهة دخلت حلبة المنافسة مثل الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي وسيكون
تخليها عن تلك الشخصيات الوطنية خصماً من رصيدها، وفي المقابل في حال دعمها لها
فستدخل في صدام مع الدولة العميقة، وهي تريد أن تبقي على حالة المصالحة التي أرستها
منذ عهد الرئيس باجي قائد السبسي.
ورغم سخونة المشهد السياسي في تونس؛ إلا أنه من دون شك سيكون للمال السياسي
والتدخلات السياسية الإقليمية دور في حسم نتيجة هذا الصراع لصالح بقاء السلطة في يد
الدولة العميقة، لتظل بقية القوى السياسية تملأ هامش المشهد السياسي، تذبح مبادئها
وتنخلع من ثوابتها ثم تعقد الاحتفالات لانتصراتها في البقاء على قيد الحياة.