لم نعد في حاجة لأن نتهم أمريكا والغرب بازدواجية المعايير في كل شيء: في العدالة
وفي الحريات وفي ادِّعاء الضغط على نظام دون آخر بحجة الديمقراطية؛ لأننا أصبحنا
نفهم أن ما يحرِّك أمريكا والغرب هو مصالحهم ومصالحهم فقط؛ سواء نفذها لهم قديس أو
شيطان. وبالقدر نفسه لم نعد بحاجة أن نتبيَّن هذا النفاق الغربي في ما يخص دعم
الثوارات الشعبية العربية.
فقد صمتَ الأمريكيون على مجازر النظام السابق ضد شهداء ثورة تونس، بل دافعت فرنسا
عن نظام بن على حتى الرمق الأخير، حتى إذا ما انتصرت الثورة الشعبية داروا معها
ورحَّبوا بها، والشيء نفسه فعلوه في مصر التي ساندوا نظامها السابق 30 عاماً؛ لأنه
خدم مصالحهم وحمى استقرار الدولة الصهيونية وضيَّق على المقاومة الفلسطينية، وعندما
نجحت الثورة هُرِعَت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية لتلتقط الصور
التذكارية مع أسر شهداء الثورة؛ مع أنهم قُتِلوا واختنقوا برصاص وقنابل الغاز
الأمريكية السامة الذين أطلقتها عليهم الشرطة.
إن سيناريو النفاق نفسه يتكرر في ليبيا الآن؛ إذ ظل الغرب صامتاً ينتظر من
يفوز، ويتمنَّع عن التدخل لوقف قصف طائرات ودبابات القذافي لمعاقل الثوار الليبيين
وهو الراغب في التدخل لحماية إمدادات النفط له، ثم في 24 ساعة استصدر قراراً من
مجلس الأمن بفرض حظر جوي فوق ليبيا وبدأ بتوجيه ضربات عسكرية. ولكنه بالمقابل لم
يُعِر 46 شهيداً سقطوا برصاص القوات اليمنية عقب جمعة الغضب 18 مارس اهتماماً؛ لأنه
(لا نفط في اليمن ولا جمل)، كما صمت عما يجري في دول أخرى ترابط فيها قواته.
ناهيك بالطبع عن أن هذا الغرب المنافق لم يحرِّك ساكناً ولم يفرض أو يسـعى لفـرض
منطقـة حظـر طيران فوق غزة – مع أنها مدينة محتلة بموجب القانون الدولي – حينما
كانت الطائرات الصهيونية تقصف أطفال ونساء وعجائز المدينة في منازلهم بالفوسفور
القاتل وأشدِّ القذائف الحارقة فتكاً، ويدمر مخازن الأمم المتحدة نفسها؛ لأن تل
أبيب هي حليفته الشرعية.
إن السيناريو المعَدُّ لليبيا يبدو مشابهاً تماماً لسيناريو غزو العراق؛ بداية
بالحظر الجوي الذي فرضته بريطانيا والولايات المتحدة في شمال العراق عام 1994م ثم
توجيه ضربات جوية لمفاصل ومعدات القوات الليبية ومعاقل القذافي ثم نشر قوات خاصة
لعمليات نوعية، انتقالاً لمرحلة تقسيم البلاد وحصارها وسقوطها كالثمرة الناضجة في
حِجْر الغرب، ولكن مع تغيير طفيف هو أن أمريكا والغرب تعلموا الدرس من العراق.
ابتزاز الدول العربية:
لقد حرصوا هذه المرة على أن يأتي طلب فرض الحظر من الدول العربية حتى أعطتهم
الجامعة العربية صكاً بفرض الحظر الجوي وهي تعلم أن الغرب ليس أميناً على هذا الصك
وسيستخدمه لأجل مصالحه لا لصالح الشعب الليبي.
ثم جاءت الخطوة الأهم بمطالبة أمريكا وأوروبا مشاركة عربية في الحظر الجوي وهي تعلم
أن الدول العربية ليس لديها القدرة العسكرية على هذا، كما أن الحرج سيمنع قوات
عربية من قتال قوات عربية أخرى، فأعلنوا عن أسماء خمس دول عربية مستعدة للمشاركة
تقلصت إلى اثنتين خليجيتين، ثم تردد أن الدولتين أكتفتا بتحمُّل جزء من تكلفة الحظر
الجوي الذي ينفذه الغرب.
وقبل هذا طلب الغرب أن تأتيه دعوة للتدخل من قوى المعارضة الليبية، وكل هذه
التمنُّعات والإطالة كي لا يقال: إنه غزو أجنبي لليبيا، وعلى الرغم من أن هذا
التدخل هو رغبة أمريكية أوروبية ملحَّة وعاجلة إلا أنهم كانوا (يتمنعن - عن ضرب
ليبيا - وهنَّ الراغبات).
وربما يكون التمنُّع الغربي ثم قصف قوات القذافي ومعاقله، هدفه وصول ليبيا لمرحلة
التقسيم بين شرق يحكمه الثوار وغرب - بما فيه العاصمة طرابلس- تحكمه قوات القذافي
عاجزاً عن هزيمة المقاومة، فيسهل عندها اللعبُ على الحبال وابتزازُ النظام وصولاً
للحفاظ على تدفُّق النفط في نهاية المطالب من جهة، ومَنْعُ الثوار (ذوي التوجه
الإسلامي) من حكم ليبيا واحتمالاتِ معاكستِهم للمصالح الأمريكية والأوروبية
مستقبلاً، وإضعافُهم عن بلوغ مثل ذلك.
تكلفة التدخل الأجنبي:
لا شك أن التدخل العسكري الأمريكي والفرنسي والبريطاني ضد قوات القذافي ستكون
عواقبه كبيرة على الثورة الشعبية؛ فهو شوَّه صفحة الثورة البيضاء وهو ما سيعطي
للغرب ادِّعاء الفضل في سقوط القذافي لا شعبِه، كما سيحمِّل الثورة فاتورة سيكون
عليها دفعها مستقبلاً للغرب.
ولا نستغرب لو زاد هذا العدوان الأمريكي الغربي على ليبيا من شعبية القذافي مرة
أخرى وجمع حوله بعض رافضي حكمه، وهي خطة كان من الواضح أن القذافي يستدرج الغرب
لها، وكان الغرب يشتاق لأن يستدرجه القذافي كي يتدخل في ليبيا؛ لتكون الثورة
الشعبية هي الضحية وهي من تلطَّخ ثوبُها غصباً عنها بالتدخل الغربي وأصبحت محمَّلة
باتهامات التعاون مع الغرب وربما دخولها طرابلس العاصمة بفضل حصان طروادة الغربي.
فتصريحات القذافي بعد الحظر الجوي وقبل الضربات الجوية والبحرية الغربية، كانت أشبه
بغَزَل صريح للغرب؛ فالقذافي لم يتردد في مغازلة الغرب وإسرائيل والتلويح بـ «فزاعة
حكم الإسلاميين والقاعدة» لليبيا لو سقط، بقوله: إن إطاحة نظامه سيؤدي إلى حالة من
عدم الاستقرار في المنطقة قد تؤثر على استقرار إسرائيل نفسها وسيطرة القاعدة على
ليبيا وتهديدها أمن أوروبا.
وبالمقابل جاءت التصريحات الغربية مائعة متضاربة، وفي كل الأحوال يأتي الحديث
الأمريكي والأوروبي مغموساً برائحة النفط، رابطاً التعامل مع ليبيا والثوار بالحفاظ
على مصالح الغرب في تدفُّق النفط ومنع تحوُّل ليبيا إلى موقع متقدم لحركات إسلامية
تهدد أوروبا.
خلافات لصوص النفط:
يبدو حصاد الأزمة الليبية بناءً على ذلك نتاج تراكم أخطاء عربية يسعى لصوص النفط في
الغرب لاستغلالها؛ فالرئيس الليبي أخذته العزة بالإثم ولم يقبل أن يطالبه شعبه
بالرحيل بعدما جلس على كرسي السلطة 42 عاماً حتى صار أقدم حكام العرب وإفريقيا
معاً، ولو قَبِل التنحي منذ البداية لجنَّب شعبه ويلات الحروب والشهداء.
والجامعة العربية أخطأت حينما أعطت القط (الغربي) مفتاح الكرار، وأعطت القوات
الأمريكية والأوروبية صكاً رسمياً لفرض منطقة حظر جوي على ليبيا للمرة الأولى في
تاريخها؛ على الرغم من طلب ثوار الشرق الليبي توجيه ضربات عسكرية محددة فقط لبعض
المواقع الليبية، للحيلولة دون تقدُّم قوات العقيد معمر القذافي نحو الشرق وبنغازي،
وحتى عندما قال عمرو موسى: إن التفويض العربي لا يتضمن غزو ليبيا كان يدرك أن الغرب
لن يتدخل لأسباب إنسانية أو أخلاقية وبلا مقابل؛ وإنما لأجل مصالحه.
أما الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الأخرى التي بدأت توجيه ضربات
جوية وبرية وبحرية ضد ليبيا، فقد كشف تأخُّر تدخُّلها حتى حاصرت قوات القذافي على
أبواب بني غازي وبدأت اقتحامها عن حجم الخلافات بين لصوص النفط.
فهناك حديث متداوَل عن أن التردد الغربي أو التأخر لم يكن بسبب رفض التدخل؛ وإنما
بسبب عدم وضوح تقسيم الغنائم بين الدول الغربية في ما يخص نفط ليبيا ووجود خلافات
شبيهة بتلك التي سبقت غزو العراق، وعدم وضوح صورة قوة القذافي الحقيقية، وهل يكفي
الحظر الجوي وحدَه أم لا؛ خصوصاً أن نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين ظل في
السلطة برغم الحظر الجوي على شمال العراق 13 عاماً حتى تم إنهاء حكمه بغزو عسكري
للعراق؟
أيضاً كان من الواضح أن هناك خشية غربية – كما هي خشية ثوار ليبيا - من أن يتحول
التدخل الدولي إلى ورقة لصالح القذافي الذي سيدَّعي أنه يقاتل ضد الأجانب لا أبناء
شعبه في شرق البلاد ويواجه غزواً أجنبياً أو إيطالياً جديداً يحتاج لـ (عمر مختار)
جديد.
ولكن الأمر المؤكد هو أن بدء الضربات الجوية والعمليات العسكرية معناه أن الغربيين
توصلوا إلى تصوُّرٍ حول نصيب كل منهم من الكعكة النفطية والاستثمارية في ليبيا بعد
إنهاء حكم القذافي؛ سواء لجهة الاستثمار في المجال النفطي أو في إعادة البناء أو
إنشاءات البنية التحتية.
وليس معروفاً هل توصل الغربيون إلى خطة لمن سيحكم ليبيا مستقبلاً أو من سيساندونه
ليدير شؤون الدولة الليبية ويضمن مصالحهم، أم أن الأمر مؤجل وَفْقاً لتطورات
الأحداث ونتائج المعارك.
القاعدة مع القذافي!
من العجائب أن هذا العدوان الغربي على ليبيا وحَّد رؤية القذافي والقاعدة، في صورة
إعلان تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي رفضه هذا الغزو الأجنبي والتحذير منه، ونصح
الثوار الليبيين بالاعتماد على إمكانياتهم الذاتية «في التخلص من (الطاغية).
فالقذافي كان يحذِّر الغرب من حكم تنظيم القاعدة لليبيا لو انهار حكمه، وعندما لاحظ
الإصرار الغربي على اقتلاعه من الحكم بالقوة قال: إنه سيتحالف مع القاعدة (التي قال
كذباً: إنها يحاربها)، والتي أعلنت رفض العدوان الغربي على ليبيا.
فتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي حذَّر من «التحركات المشبوهة» للولايات المتحدة
وحلف شمال الأطلسي في ليبيا، ودعا الليبيين إلى الاعتماد على قوَّتهم الذاتية وعلى
الإسلام الذي يشكل «بُعْدَ الثورات الروحي ومصدر قوَّتها»، بحسب تسجيل صوتي جرى
بثُّه على الإنترنت.
وحذر «الشيخ أبو مصعب عبد الودود» من تدخُّل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في
ليبيا، وقال: «إن أمريكا ومعها الناتو هم أصل البلاء؛ فكيف يرتجى منهم خير أو
مساعدة».
وأضافت القاعدة: «هم العدو، فالحذر الحذر من التحركات المشبوهة لأمريكا وحلفائها،
وليأخذ المسلمون في ليبيا أهبتهم واستعدادهم لها من الآن». داعية لضرورة «عدم
الوثوق بأي دور أمريكي».
المستقبل غامض:
ليبيا مرشحة في كل الأحوال، عقب العدوان الأمريكي والأوروبي لحرب أهلية، وربما خطر
التقسيم أو حتى التفتيت؛ لأن الطرق سُدَّت أمام القذافي وعائلته ومؤيديه بعدما حوصر
وحُجزَت أمواله وقُدِّمت أوراقه للمحكمة الجنائية الدولية، لم يعد أمامه إلا القتال
حتى أخر رمق؛ لأن الاستسلام معناه الإهانة على طريقة صدام حسين.
ولا نبالغ إذا قلنا: إن ثمة اتفاقاً غير مكتوب بين الغرب الذي لا يهمه سوى ضمان
تدفُّق النفط، وبين نظام العقيد القذافي، لإجهاض الثورة الشعبية بعدما تبيَّن
الطرفان أن لا مصلحة لهما في سقوط النظام بالكامل وسيطرة قوى ثورية غير معروفة (أو
إسلامية كما تصوِّرها برقيات وكالات الأنباء الغربية) على السلطة.
ولا نبالغ أيضاً إذا قلنا: إن التباطوء الغربي عن التدخل وتأخير بدء العدوان كان
متعمداً لأن هناك مخاوف من انتصار الثورة الليبية التي توصف بأنها (إسلامية)، وهو
ما قد ينعكس على باقي دول شمال إفريقيا (المغرب خصوصاً) ومخاطر وقوع الشاطئ الشرقي
للبحر المتوسط في حالة فوضى تنعكس على الشاطئ الغربي للمتوسط (أوروبا)؛ سواء في
صورة تعاظم الهجرة غير الشرعية أو انتقال «الإرهاب» عبر البحر، كما يزعمون.
ويبقي السؤال:
من يكسب هذه المعركة في النهاية؛ هل يكسبها الثوار وتكون الضربات الجوية الغربية
مجرد عامل مساعد لهم ولكل الشعب الليبي للثورة ضد القذافي وطرده خارج البلاد؟ أم
ينجح القذافي في البقاء وحشد مزيد من الشعب حوله على وَقْع نغمة العدوان الأجنبي
كما فعل صدام حسين لتنقسم ليبيا إلى شرق وغرب؟ أم ينجح الغرب في تنفيذ سيناريو
مشابه لما فعله في العراق وأفغانستان عبر (قرضاي ليبي آخر) أو (جلبي ليبي) ويجهض
الثورة ويسطو على نفط ليبيا كما سرق نفط العراق؟