إنَّ مِن شواهد عبقرية اللغة العربية: أنها أقدم اللغات عُمراً، وهذا ما أثبتته الحفريات والبعثات الأثرية في السنين الأخيرة، ففي عام 1951م اكتشفتْ بعثة أثرية فرنسية في شمال الجزيرة العربية (وهي المنطقة التي تُعرَف بمدائن صالح)،
في مقدمة كتاب (تراث الإسلام)، يقول المستشرق (جروبنام):
«إنَّ
العربية لغة عبقرية لا تدانيها لغة في حيويتها وسحرها وتمددها، وفي مرونتها
واستقامتها، وهذه العبقرية في المرونة والاشتقاق اللذيْن ينبعان من ذات اللغة
جعلتها تتسع لجميع مصطلحات الحضارة القديمة بما فيها من علوم وفنون وآداب، وأتاحت
لها القدرة على وضع المصطلحات الحديثة لجميع فروع المعرفة».
هذه الكلمات القليلة التي شهدِ بها البروفيسور (جروبنام)؛ تكشف عن أبعاد ودلالات
كثيرة، تؤكد على عبقرية (لغة الضاد)، منها: البعد التاريخي، والبعد النفسي، والبعد
الاجتماعي، والبعد الثقافي، والبعد الحضاري.
بلْ إنَّ شهادة (جروبنام) ذاتها؛ تعدُّ دليلاً وشاهداً من شواهد عبقرية اللغة
العربية: فليس أهلها وحدَهم الذين يتفاخرون بها، ويتغنَّون بمحاسنها، فهناك جمهور
من الفلاسفة والمؤرخين والمفكرين والعلماء والأدباء (الأجانب) أيْ: من غير أهلها؛
أمثال: المستشرقين وليم ورك، ومرجليوث، وجاك بيرك، وأوجست فيشر، وألفريد غيوم،
وزيجريد هونكه، وكارل بروكلمان، ونولدكه، ونعوم تشومسكي، ووليم مرسيه، وبرنارد
لويس، ومئات الألوف غيرهم الذين يتيهون فخراً بلغة الضاد، ويذهبون إلى أبعد ما ذهب
إليه العرب أنفسهم؛ إذْ تسابقوا في إنجاز المعاجم والقواميس والدراسات عن عبقريتها،
وتميزها، وكمالها، وجمالها، بلْ ترجموا روائعها إلى لغاتهم المختلفة؛ بعدما خلبتْ
ألبابهم، ووقعوا في غرامها، وفاضت ألسنتهم بما أصاب شغاف قلوبهم!
إنَّ مِن شواهد عبقرية اللغة العربية: أنها أقدم اللغات عُمراً، وهذا ما أثبتته
الحفريات والبعثات الأثرية في السنين الأخيرة، ففي عام 1951م اكتشفتْ بعثة أثرية
فرنسية في شمال الجزيرة العربية (وهي المنطقة التي تُعرَف بمدائن صالح)، اكتشفت
نقوشاً حجرية وبقايا مساكن صخرية، مكتوبة بالحروف العربية؛ وهو ما يدل على أنَّ لغة
قوم ثمود هي العربية. وفي عام 1962م عثرت بعثة أثرية ألمانية على نقوش عربية
بمرتفعات (الأحقاف) باليمن، منطلق دعوة سيدنا (هـود)، وهم قوم عاد الأولى، الذين
ذكرهم القرآن في مواضع كثيرة[1].
وهذا يؤكد الحديث الشريف:
«خمسة
أنبياء من العرب: هود، وصالح، وشُعيْب، وإسماعيل، ونبيُّكَ يا أبا ذر»[2].
ومعروف أن قوم (عـاد) هم أول من سكنوا الأرض بعد (الطوفان)، كما جاء على لسان نبيهم
(هـود): {وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ
وَزَادَكُمْ فِي الْـخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [الأعراف: ٦٩]. أيْ: أنَّ آباءهم ممن كانوا مع نوح في السفينة. وسيدنا
(نـوح) قريب العهد بأبي البشر (آدم) سلام الله عليه.
وهذا الأمر يعضد مذهب القائلين: بأنَّ اللغـات كلها نشأت من أصل واحد، تلك اللغة
التي كان (أبو البشر) يُحدِّث بها زوجه وأولاده، ثمَّ كانت ميراثاً في ذريته.
وإذا أضفنا إلى ذلك؛ ما جاء في الدراسة العلمية، التي أنجزها الباحث (أحمد حسين شرف
الدين) بعنوان (اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام)؛ إذْ يقول[3]:
«إنَّ
أبجدية (اللهجة الثمودية)، وأبجدية (اللهجة الفينيقية) متشابهتان، وهو ما يشير إلى
أنهما من موطنٍ واحد، هو موطن شعوب الجزيرة العربية، وأن اللغة الفينيقية هي أُمُّ
اللغات اللاتينية، ومِن ثمَّ يعود أصل جميع اللغات إلى جذور اللغة العربية).
ومن شواهد عبقرية اللغة العربية: أنها (نشأت ناضجة مكتملة، لم تمرَّ بأطوار الولادة
والطفولة والمراهقة كاللغات الأخرى، كما يقول المستشرق الفرنسي ماسينون، لكنها
بلغتْ أعلى مراحل نضجها في القرن السادس بعد الميلاد؛ فاختارها الله
-
سبحانه - لآخِر رسالاته للعالمين»[4].
أيْ: بلغتْ ذروة نضجها وتطورها في عصر نزول الوحي، بعد أن استقرَّت بياناً وقواعد،
نثراً وشِعراً، حتى تظلَّ (لغة التنزيل) ثابتة القواعد والبيان، غنيَّة كل الغِنَى،
ويظلَّ القرآن مُيسَّراً للذِّكر، مفصَّلاً بيِّناً للعالمين. ولذلك توالت الآيات
الكريمة التي تُلحُّ بأنَّ القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين. ولولا استقرار
(العربيـة) بقواعدها؛ لَـمَا تيسَّر القرآن على هذا النحو البديع.
وما زالت قواعد البيان القرآني، ثابتة مألوفة في شتى أنحاء الأرض، على مدى العصور،
بلْ تميَّزت (الفصحى)بخصائص الاستقرار والصفاء، حتى يظلَّ (القرآن) يحمل خصائص
إعجازه، وخصائص بلاغته، وقوَّة حُجَّته. كما عُرِفتْ قواعدها صافية منذ بكور
نشأتها، وعرفت نحوها وصرفها كذلك في أجوائها النقية؛ فعرفت المفرد والمثنَّى
والجمع، والمذكَّر والمؤنث، وضمائر الغائب والمتكلِّم والمخاطَب، واسم الإشارة
والاسم الموصول، والاسم المعرَّف بالألف واللام، والضميـر المتصل والضميـر المنفصل
وأنواعـهما، واسم الزمان واسم المكان، والنعت، والأعداد، والمجرَّد من الأفعال
والمزيد، إلى غير ذلك.
ومن شواهد عبقرية اللغة العربية: أنها امتازت بألفاظها وما تحمل من معانٍ وظلال
وجرْس موسيقي، وامتازت ببنائها وصياغتها، حين ينضمُّ معنى إلى معنى، وظلٌّ إلى ظل،
وجرْسٌ إلى جرس، لتبلغ الصياغة أعلى درجاتها من الجمال الفني الأخَّاذ، وامتازت
بقواعدها تميزاً ظاهراً، تبدو فيه دِقَّة المنطق والتناسق والترابط، لا تختلف عن
دِقَّة علوم الرياضيات! فلا يوجد في أيّ لغة مجال للاشتقاق كما يوجد في العربية؛
فالفعل الثلاثي يأخذ حوالي عشرة أشكال بالمزيدات الرباعية والخماسية والسداسية، هذا
بخلاف اشتقاق المصدر، واسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وصيغة المبالغة،
وغير ذلك.
جدير بالذِّكر: أنَّ وضع عِلْم النحو والصرف، وتقعيد القواعد، إنما كان في الحقيقة،
سبيلاً إلى حماية الألفاظ والدلالات القرآنية، وضبطها بمعهود العرب في الخطاب، حيث
نزل بلسانٍ عربي مبين، حتى لا يكون إسلام أصحاب اللغات الأخرى سبيلاً إلى التيه
الدلالي والاصطلاحي، وإِنَّ كثيراً من علماء اللغة، كـ (ابن هشام) عندما طُلب إليه
أن يضع لتلامذته كتاباً في تفسير القرآن؛ وضع لهم كتاب: (مغني اللبيب عن كتب
الأعاريب) لضبط دلالات الألفاظ، والأدوات، ومعانيها، حتى يدرك المصطلح القرآني، بكل
احتمالاته، وكانت معظم شواهده، واستدلالاته من النص القرآني، والبيان النبوي، وكلام
العرب من حقبة السلامة اللغوية.
وقد أثَّرت العربية بدورها في غيرها من اللغات نحوياً، حيث تعترف دائرة المعارف
اليهودية في مادة ((GRAMAR
بأنَّ
«الحافز
لدراسـة الفلـوجي العبـري قد قويَ بعامل خارجي، وبالتحديد بالمثال الذي قدمته اللغة
العربية. وقد استمرت العربية تؤثر على علم اللغة العبري، وكان النموذج العربي هو
الذي احتذاه العبرانيون، ثم طُور».
وذكر المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون) مدى تأثير النحو العربي في اللغات
الأوروبية، خاصة في المجالات العلمية، فقال:
«...
والعربية من أنقى اللغات؛ فقد تفردت بتميزها في طُرق التعبير العلمي والفني
والصوفي، فالتعبير العلمي الذي كان مستعملاً في القرون الوسطى لم يتناوله القدم؛
ولكنه وقف أمام تقدم القـوى المادية فلـم يتطور. أمَّا الألفاظ المعبِّرة عن
المعاني الجدلية والنفسانية والصوفية؛ فإنها لم تحتفظ بقيمتها فحسب، بلْ تستطيع أن
تؤثر في الفكر الغربي وتُنشِّطه؛ بفضل مرونة النحو العربي وإدهاشه الإبداعي
المتواصل، أخذاً وعطاءً، على طريق التحديث في بنيتها القادرة على التعاطي مع
اللسانيات الغربية والشرقية.
كمـا أثَّر النحو العربي في أكبر عقلية لغوية غربية في الربع الأخير من القرن
العشرين، وفي أبرز مدرسة لغوية حداثية؛ عقلية العالِم الأمريكي اليهودي (نعوم
تشومسكي) حيث أقرَّ بالحقِّ العربي وبمكانة العربية، وقد تزعم الدراسات اللغوية
المعاصرة، وكوَّنَ نظرية جديدة قلبت الفكر اللغوي رأساً على عقب، وقد نوَّه
(تشومسكي) في معرض رده على سؤال وُجِّه إليه عام 1989م بأن تأثيـرات النحو العربي
كبيرة على نظريته في دراسة اللغة، وأنه قرأ كتاب سيبويه كمرجع له.
ومن شواهد عبقرية اللغة العربية: تأثيرها القوي في اللغات الشرقية والغربية على
السواء، لا سيما أنَّ العربية عاشت عصراً طويلاً كانت فيه هي اللغة الحضارية الأولى
في العالم، وكانت اللغات الأخرى - لاسيما الأوروبية في وضع متخلِّف جداً - تتلقى
فيه عن العربية ثرواتها العلمية واللفظية، وبعبارة موجزة: ثروتها الحضارية. فالعرب
أصل العِلْم الحديث، وبخاصة علوم الطب والكيمياء والرياضيات والفلك، كما يقول
الأمير تشارلز وليُّ عهد بريطانيا، وكانوا هم همزة الوصل مع الشرق، بوساطة فارس
والروم. وكانوا نَقَلَة علوم الملاحة والتجارة إلى الغرب. كما أنَّ ثقافتهم الخاصة
قد قدَّمت موضوعات ونُظُمَاً في مجال الفن العسكري، والعمارة، والنسيج...[5]
وهذه التأثيرات بارزة في ما نجد في لغاتنا من ألفاظ مقترضَة!
كما تشهد المستشرِقة الألمانية (زيجريد هونكه) في كتابها (شمس الله تسطع على الغرب)
بأنَّ تأثيـر العربية قد امتدَّ إلى الألمانية، وتملأ كتابها بالكلمات التي ترى
أنها عربية الأصل في اللغة الألمانية، وتأتي في فهارس الكتاب بملحق ضمَّ أكثر من
مائتين وخمسين كلمة.
والكلمات العربية في الإسبانية والبرتغالية والألمانية والإيطالية والفرنسية ليست
قليلة أيضاً. ولم تكن الإنجليزية بعيدة عن أن ينالها التأثير العربي؛ ففيها قدر
كبير من الكلمات ذات الأصول العربية، يصل بها بعض الباحثين إلى بضع مئات دخلت
الإنجليزية مباشرة أوْ بالواسطة، وكان أغلب ما تسرَّب إلى الإنجليزية عن طريق
اللغتيْن الإسبانية والبرتغالية، اللتيْن تحتويان عدداً يربو على ألف وخمسمائة كلمة
ذات أصول عربية، على نحو ما قرره العلاَّمة دوزي في كتابه (قائمة بالكلمات
الإسبانية والبرتغالية المشتقة من العربية).
كذلك، نجد الكلمات العربية في اللغات الشرقية (الفارسية والتركية والأوردية
والمالاوية والسنغالية) أكثر من أن تحصى؛ فقد التقت العربية بالفارسية والسريانية
والقبطية والبربرية. وكان عندها أسباب القوة، فهي لغة القرآن التي حملت رسالة
الإسلام؛ فغنيت بألفاظ كثيرة جديدة للتعبير عما جاء به الإسلام من مفاهيم وأفكار
ونُظُم وقواعد سلوك، وأصبحت لغة الدِّين والثقافة والحضارة والحُكم في آنٍ واحد.
فالعربية غزت اللغات الأخرى، فأدخلت إليها حروف الكتابة، وكثيراً من الألفاظ. وكان
تأثيرها في اللغات الأخرى عن طريق الأصوات والحروف والمفردات والمعاني والتراكيب.
وأدى احتكاك العربية باللغات الأخرى إلى انقراض بعضها، وحلول العربية محلها؛ كما
حصل في العراق والشام ومصر، وإلى انزواء بعضها كالبربرية، وانحسار بعضها الآخَر
كالفارسية.
بلْ أصبحت لغات التُرك والفُرس والملايو والأوردو تكتب جميعها بالحروف العربية،
وكان للعربية الحظ الأوفر في الانبثاث في اللهجات الصومالية والزنجبارية؛ لرجوع
الصلة بين شرق إفريقيا وجزيرة العرب إلى أقدم عصور التاريخ.
وحول هذا المعنى يقول سليمان البستاني:
«العربية
أطول اللغات الحية عمراً، وأقدمها عهداً، والفضل في ذلك راجـع إلى القرآن؛ بلْ شارك
الأعاجم الذين دخلوا الإسلام في عبء شرح قواعد العربية وآدابها للآخرين، فظهر منهم
أشهر علماء النحو والصرف والبلاغة بفنونها الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع ...
ولا زالت الأمة كلها عالة على مصنَّفاتهم وروائعهم التي ملأتْ الدنيا، وشغلتْ الناس»[6].
ومن شواهد عبقرية اللغة العربية: أنها صمدتْ أمام المِحن التي واجهتها، وانتصرت في
كافة الحروب التي فُرِضتْ عليها، فهيَ مِن أكثر اللغات التي تعرضت للعداء السافر،
وبمختلف الأسلحة من مستشرقين وتغريبيين، وملاحدة وماديين، ومرتزقة وعسكريين،
وسماسرة وأكاديميين، وإعلاميين وعلمانيين، وعملاء ومتطوِّعين، وأناس مِن جلدتنا،
وأناس غرباء عنا... وقد توالتْ حملاتهم الجائرة، لتشويه العربية والافتراء عليها،
ورميها بالقصور وعدم الكفاية العلمية، واتهام حروفها ونطقها بالصعوبة والتعقيد...
إلخ.
أجل؛ لقد حُـورِبت (الفصحى) من مختلف الجهات، وبكافة الأسلحة؛ فقد حاربها
(الأتـراك) على امتداد خمسة قرون، وحاولوا اغتيالها عن طريق تتريكها، ولم يفلحوا في
مهمتهم، لكن محاولتهم تركت الكثير من الخدوش والتشوهات التي ما زالت آثارها بارزة!
وحاربها (الأوروبيـون) بغية إحلال لغاتهم محلها، وما زالت محاولاتهم الكيْدية
مستمرة، حتى بعد انسحاب جيوشهم، وأساطيلهم الحربية! كما حاربها (دعاة العاميـة)
بضراوة[7]،
وحاولوا إزاحتها؛ ليخلو الميدان للهجاتهم المنحطَّة! وقد تعهد خصوم الأمة بدعم
هؤلاء وهؤلاء؛ لإنجاز تلك المهمة، لكن جميع المحاولات باءت بالفشل الذريع، وخرجت
(الفصحى) بعد كل معركة أشدَّ وهجاً، وأصلب عُوداً.
ومن شواهد عبقرية اللغة العربية: أنها لا تشابهها أيُّ لغة في خصائصها؛ فعندما خصَّ
(أبو حيان التوحيدي) العربَ بالثناء، وتكلم عن اللغة العربية، في كتابه (الإمتاع
والمؤانسة) قال: إنه استعرض غيرها من اللغات فلم يجد في أيّ منها
«نصوع
العربية، أعني الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة التي
بين مخارجها»[8].
ونظراً لكثرة خصائص العربية؛ فسنكتفي بالإشارة إلى بعضها فقط:
(لغـة مُعبِّـرة):
تظهر قدرتها على التعبير عن الشيء في أكمل صوره وأدقِّها، بما تعجز عنه سائر
اللغات، لدرجة أننا نرى تطابق المبنى والمعنى، وهذا ما ليس له نظير في أي لغة أخرى!
(لغـة فخيمـة):
أيْ فيها من الحروف الفخيمة ما لا يوجد في غيرها، وكل حروفها وأصواتها واضحة صريحة،
فلا تسمع كلمة إلاَّ سمعت كل حروفها، وتبيَّنت كل أصواتها، لكن كثيراً من حروف
اللغات الأوروبية صامتة أوْ خفية.
(لغـة إيجـاز):
فهي تحتمل الإضمار والتقدير والتقديم والتأخير والحذف أكثر من غيرها. ولا يظهر
الإيجاز فقط في ألفاظها وتراكيبها، بلْ في قراءتها، إذْ تتصل الكلمات ويأخذ بعضها
برقاب بعض، بلْ في خطِّها وكتابتها، ذلك؛ لأنَّ الحروف الابتدائية والوسطى صغيرة
الحجم دقيقة الشكل. ولأنَّ العرب يلغون الحركات القصيرة؛ لأنها في اعتبارهم مفهومة
لا حاجة إلى كتابتها، لذلك يظهر الإيجاز في أمثالهم وأشعارهم وخُطَبهم وسائر
أدبياتهم، فهم يكرهون التطويل الممل.
(لغة إعرابية):
فتغيير حركة آخِر الكلمة يغني عن تغيير ترتيب الجملة أوْ زيادة بعض حروف أوْ كلمات،
ويؤدي المعنى المراد على أوضح صورة.
(لغة اشتقاقية):
بلْ هي أرقى اللغات في الاشتقاق، فنقْل الكلمة من وزنٍ إلى وزن آخَر يفيد معنى
جديداً، قد لا يؤدى في لغة أخـرى إلاَّ بعـدة كلمـات مساعدة! وهي لغة غنية في
أفعالها؛ فلكل معنى لفظ خاص حتى أشباه المعاني أوْ فروعها وجزيئاتها، على حين نجد
اللغات الأخرى قليلة الأفعال؛ فبدلاً من أن تؤدي المعنى بلفظ واحد خاص به تؤديه
بلفظتيْن أوْ أكثر لدفع الالتباس بتغيير التركيب، واستعمال كلمات أخرى، مما لا يتسع
المجال هنا لبيانه.
(لغة غنيَّة):
أيْ: غنيَّة في حروفها؛ ففيها من حروف الجر والنفي والنداء والاستفهام على كثرة ما
تتضمنه من المعاني والاعتبارات ما لا تضاهيها فيه لغة أخرى.
(لغـة شاعــــرة):
فألفاظها تختلف بين الفخامة والرقة، بحيث يستطيع العـربي أن يختـار لكل مقام من
الألفاظ ما يناسبه. ولوْ قابلنا كثيراً من مفرداتها بمثلها في لغات أخرى؛ لظهر أنها
أنسب للمعنى، وأوضح للفكر، وأطوع لإظهار أعمق التأثرات. ولكثرة المترادفات، فلا
يضيق المبدِع بها ذرعاً. ولأنها كثيرة التراكيب الإعرابية، فإذا تعذر الإتيان بهذا
التركيب جيء بغيره، فموقع الكلمة في الجملة يظهر إمَّا بعلامات الإعراب، أو
الترتيب، أو القرينة على خلاف اللغات الأخرى.
(لغـة
مُعجِـزة):
يتبيَّن مدى إعجازها في أنه يتعذر نقل الكثير من ألفاظها
-
لا سيما التي وردت في القرآن وتعبيراته
-
إلى اللغات الأخرى، فكلمات مثل:
(الدِّين،
أُمة، الساعة، الولاء، آية، الإحسان، التقوى، إمام، أوَّاب، عاكفين، سنستدرجهم،
عَرَضَ هذا الأدنى، قَدَمَ صِدْق، وأُملِي لهم، أنزلَ سكينته، إلاَّ أنْ تَقطَّع
قلوبهم، التي جعل اللهُ لكم قياماً، قولاً معروفاً...).
كل هذه الألفاظ وغيرها، أعجزت العربَ أن يأتوا بمثلها، فأنَّى للغات غير العربية
أنْ تأتي بمثلها؟!
فمثلاً لفظة
(آيـة)
تُترجَم في الإنجليزية بـ
sign
وشتان بين معنى هذه وتلك، وبين ظلالهما!
إنَّ لفظة
(آيـة)
لفظة معجِزة بنفسها، توحي بالإعجاز، والسموِّ الذي لا يُبلَغ.
وكلمة
{مِّنْ
أَنفُسِكُمْ}
تحمل معــاني وظلالاً ممتدة غنية نديَّة، تعجز عنها الترجمة الإنجليزية
(From
you).
و
{أَزْوَاجًا
لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا}
[الروم:
١٢]
مليئة
بالظلال التي لا تبلغها الترجمة الإنجليزية
(Mates
dwell
in
tranquility
with
them).
كذلك كلمة
(السكن)
ومشتقاتها، غنية المعاني والظلال.
وكلمة
(الرحمة)
نجدها تترجم حيناً
(Mercy)
وحيناً آخَر
(Kindness)،
ولكن كلمة
(الرحمة)
تظل أغنى معنىً، وأوقع جرساً.
أمَّا
كلمة
(التقوى)
وما يشتق منها، مثل:
المتَّقون، اتقوا؛ فإنها تحمل من المعاني والظلال ما لا يمكن حصره بجُملٍ وشروح في
اللغات الأخرى!
لذا؛ لجأ بعض المترجمين لاستخدام الكلمة العربية ذاتها عند الترجمة، أوْ وضع شرح
لمعنى الكلمة العربية، بدل استخدام لفظة محددة!
وهكذا تتجلَّى شواهد عبقرية
(لغة
الضاد)
في شتى المناحي، ومختلف الاتجاهات، وستظل شامخةً أبيَّة، تُغالِب الزمن، وتخوض
المعارك، وتصرع الخصوم، وتقاوم حبائل المستعمرين، بلْ تحلُّ بقوة في ديارهم، وتُزيح
لغاتهم ولهجاتهم، وتطردها بلا رجعة...
وأبصِر فسوف يبصرون!
[1] تاريخ اللغات السامية، مجلة دار العلوم، 1993م.
[2] رواه النسائي، وابن حبَّان في صحيحه.
[3]
اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام، أحمد حسين شرف الدين.
[4]
المؤامرة على الفصحى، أنور الجندي، دار الاعتصام، القاهرة،
1988م.
[5]
مِن كلمة الأمير
(تشارلز)
التي ألقاها في المركز الإسلامي بلندن،
2001م.
[6]
العربية لغة الوحي والوحدة، كتاب المجلة العربية، الرياض،
2006م.
[7]
أوروبا في مواجهة الإسلام، عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة،
1993م.
[8]
الإمتاع والمؤانسة، لأبي حيان التوحيدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،
2005م.