• - الموافق2024/05/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
صَواحب الحُجَــــر

أهمية الأدوار الكبيرة التي تستطيع الزوجة العاقلة أنْ تقدّمها لزوجها في ثنايا حياته، وأنَّ الرجل -بفطرته- يتطلع إلى هذا الدور الإسنادي من زوجته، على كافة الصعدة؛ في عواطفه ومعاشه وتدينه ومواقفه ونوازله

 

لله تعالى تقديرٌ حكيمٌ في خَلْقه؛ يُفاضِل بين الأشياء والأزمان والأمكنة والناس، وقد اختار من الأنبياء محمدًا صلى الله عليه وسلم  ليكون خاتمهم وسيدهم، واختار له خيرة الناس بعد الأنبياء ليكونوا أصحابه وأنصاره، واختار له خيرة النساء ليكنَّ أزواجه وموضع سكنه ومستودع فؤاده؛ {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].

وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم  في الدنيا هنّ أزواجه في أعالي الجنة، وقد استدل العلماء على أنهن خير النساء بقوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: ٥]. قال السعدي: «فلما سمعن -رضي الله عنهن- هذا التخويف والتأديب، بادرن إلى رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن، فصرن أفضل نساء المؤمنين. وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم  إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور، فلما اختار الله لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه دلَّ على أنهن خير النساء وأكملهن»[1]. وحيث كنَّ بهذه المنزلة وجَب علينا تلمُّس أخبارهن وشمائلهن، فهن قدوة النساء وأُسوة الزوجات -رضي الله عنهن وأرضاهن-.

الغاليات المباركات

قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : كم كان صَداق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: «كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشًّا، أتدري ما النشُّ؟» قال: قلت: لا. قالت: «نصف أُوقيَّة، فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم  لأزواجه»[2]. والأوقية أربعون درهمًا، والنش عشرون درهمًا[3]؛ فيكون المجموع خمسمائة درهم.

والدرهم النبوي لا يتجاوز ثلاثة جرامات من الفضة، فيكون المجموع لا يزيد على (1500) جرام فضة. وهو بالريال السعودي اليوم أقل من (6000) ريال، وأقل من (1600) دولار. فهكذا كان أعلى مهر في مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «ألا لا تُغالوا بِصُدُقِ النساء؛ فإنها لو كانت مَكرُمة في الدنيا أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ما أَصدَق رسول الله صلى الله عليه وسلم  امرأةً من نسائه ولا أُصْدِقت امرأةٌ من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية»[4].

واقتدى نساء المدينة بهنَّ في زمنهن، كما قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: «كان الصداق إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  عشرَ أواقٍ»[5].

وقلة مهور أمهات المؤمنين دليل بركتهن؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «إنَّ أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة»[6]. كيف وهنَّ خيرة النساء. أفلا تقف فتاة الإسلام اليوم نفسها على هذه الآثار، وتتأمل الفرق الكبير بين ما تَطلبه من مهر ومتاع، وما أُصدقت به أمهات المؤمنين! ثم تتأمل الفرق الكبير بين خيريتهن وبركتهن وخيريتها وبركتها!

ألا ينبغي أنْ تسعى فتاة الإسلام اليوم إلى التخفيف من أعباء الزواج وتكاليفه، وترضى باليسير من المهر، واليسير من المؤونة، واليسير من السكن.

وبعض الأولياء يُغالي في المهر ليضمِّنه جهاز العروس من ملابس وحُليّ وأثاث، وكأنها كانت عريانة في بيته!

وأمر آخر في تزويج أمهات المؤمنين تجدر الإشارة إليه، وهو وليمة العُرس؛ فقد كانت ولائمهم بأقل التكاليف، تقول عائشة: «بنَى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم  في بيتنا، ما نُحرت عليَّ جَزور، ولا ذُبحت عليَّ شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذا دار إلى نسائه»[7]. وقال أنس -رضي الله عنه-: «ما أَوْلَم النبي صلى الله عليه وسلم  على شيء من نسائه ما أَوْلَم على زينب؛ أَوْلَم بشاة»[8].

أفلا يكون في ذلك عبرة لنا، وفرصة للتأمل والمراجعة وإعادة ضبط البوصلة!

الزوجة السند

نِعْمَ كَهف المؤمن: زوجة صالحة يأوي إليها، فتُخفِّف عنه مكابدة الحياة، وتسنده عند النوازل.

في حديث عائشة -رضي الله عنها- في بدء نزول الوحي على نبينا صلى الله عليه وسلم  في غار حراء، ورجوعه إلى البيت، تقول: «فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم  ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: زمِّلوني زمِّلوني. فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، قال لخديجة: أيْ خديجة، ما لي؟ لقد خشيتُ على نفسي. فأخبرها الخبر، قالت خديجة: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتَقْري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فانطلقَتْ به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أنْ يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عميَ، فقالت خديجة: يا عم، اسمع من ابن أخيك، قال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم  خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى، ... الحديث»[9].

ففي الحديث حاجة الرجل إلى زوجة عاقلة؛ إدراكًا منه بقُدرتها على احتواء ضعفه، والاسترشاد برأيها في نوازله، وكشف حقيقة ما يجدُّ له، وبحثها عن الحل لمشكلته.

ومما يُستفاد من هذا الحديث: أهمية الأدوار الكبيرة التي تستطيع الزوجة العاقلة أنْ تقدّمها لزوجها في ثنايا حياته، وأنَّ الرجل -بفطرته- يتطلع إلى هذا الدور الإسنادي من زوجته، على كافة الصعدة؛ في عواطفه ومعاشه وتدينه ومواقفه ونوازله، وكما في المثل السائر: «وراء كل رجل عظيم امرأة»، إذن فلتكن زوجته كذلك.

ومن تدبير الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم  ليقوم بالدعوة على أكمل الوجوه: أنْ سخَّر له زوجته خديجة -رضي الله عنها- لتكون خير مُعين بعد الله تعالى، وقد لاحَظ مؤرخ الإسلام ابن إسحاق هذا الارتباط، فقال: «ثم تتامّ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مؤمن بالله مصدّق بما جاءه منه، قد قَبِله بقبوله، وتحمّل منه ما حُمِّله على رضا العباد وسخطهم، والنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يقوم بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل -بعون الله تعالى وتوفيقه-؛ لما يلقون من الناس وما يُرَدُّ عليهم مما جاءوا به عن الله. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم  على أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى، وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدَّقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول مَن آمَن بالله وبرسوله، وصدَّق بما جاء منه، فخفّف الله بذلك عن رسوله؛ لا يسمع شيئًا مما يكرهه من ردٍّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك، إلا فرَّج الله عنه بها إذا رجع إليها؛ تُثبِّته وتُخفِّف عليه وتُصدِّقه وتُهوِّن عليه أمر الناس؛ يرحمها الله»[10]. فقارن بين صعوبة تلقّي نبينا صلى الله عليه وسلم  للوحي وثباته على الدعوة، وبين أثر زوجه عليه بالتخفيف عنه وتثبيته وإيناسه.

ورجل هذا العصر تتخطفه المتاعب وتستهلكه المشاغل، فهو بحاجة إلى الزوجة السند التي تُعينه على مشاق الحياة.

ويتجلَّى مما سبق القرب الحقيقي من نبينا صلى الله عليه وسلم  لزوجه. ومن قرب الرجل لزوجه أنْ يُشركها في شؤونه الخاصة والعملية والدعوية بالقدر المناسب، وبقدر ما يكون قريبًا منها يجد القرب والسكن والسند، وقد حدث لأم سلمة -رضي الله عنها- موقف أفاد منه نبينا صلى الله عليه وسلم  في حلّ معضلة الحديبية، ففي حديث المسور بن مخرمة: «فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لأصحابه: قوموا فانحروا، ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكَر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بُدْنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا»[11].

وهذا من يُمْن المرأة على زوجها وبركتها عليه؛ أنْ تكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، مُعِينة بنفسها، مُشيرة برأيها. وكم للنساء من أفضال على أزواجهن إذا انتهجت هذا النهج المبارك.

الودود العؤود

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم إذا كنتِ عني راضيةً، وإذا كنت عليَّ غضبى. قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد. وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قالت: قلتُ: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك»[12]. وقد ذكر أهل العلم أنَّ هذه المغاضَبة من عائشة بسبب الغيرة التي لا تستطيع المرأة أنْ تنفك عنها؛ لكونها فطرية طبيعية[13]، وليس منازعة في حقوق الزوج أو واجباتها، ونحو ذلك.

وفي هذا الحديث أنَّ مغاضبة المرأة لزوجها أمر طبيعي في وقوعه، وقد لا تخلو الحياة الزوجية منه، لكن على المرأة أنْ تجتهد في السيطرة على انفعالاتها بأن لا تتجاوز حدود الأدب الإسلامي في هذه المغاضَبَة، كما قالت عائشة: «لا أهجر إلا اسمك». فهي لا تتجاوز هجر الاسم إلى هجر الحديث أو هجر الفراش، كما لا تُطيل وقت المغاضبة؛ لئلا يجد الشيطان ثغرة يدخل منها عليهما لإفساد الحياة الزوجية.

ومما يستفاد من الحديث: أهمية التعقُّل والذكاء في التعامل مع الأزمات العاطفية؛ فهذه عائشة حين هجرت اسم النبي «محمد» استدعت اسمًا محببًا إلى زوجها «إبراهيم»؛ إشارة منها إلى إثبات محبتها رغم مغاضبتها، قال ابن حجر: «وفي اختيار عائشة ذِكْر إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- دون غيره من الأنبياء دلالة على مزيد فطنتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم  أَوْلَى الناس به، كما نصَّ عليه القرآن، فلما لم يكن لها بُدّ من هجر الاسم الشريف أبدلته بمن هو منه بسبيل؛ حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة»[14].

ومما يُستفاد من الحديث: ألا تخلط الزوجة بين الغضب والكراهية؛ فإنَّ الغضب حالة عارضة مؤقتة، تزول بزوال أسبابها، أما الكراهية فهي شعور مستقرّ في القلب؛ يصعب اقتلاعه، ولا يزول إلا بتغيرات كبيرة.

وقد تخلط بعض الزوجات بين الأمرين؛ فتستعجل في غضبها فتطلب الطلاق أو الاختلاع، أو تُصعِّد المشكلة وتُصعِّبها، فتسير الأمور إلى منطقة وعرة، وهذا كثير في عالم الزوجات اليوم، وهو مما يحذر من عواقبه؛ لأنَّ الزوجة قد تنسى أنها باقية على محبة زوجها، فربما خسرته في حال غضبتها التي تجاوزت فيها حدود الأدب الإسلامي. أما المرأة العاقلة فهي كما فعلت عائشة -رضي الله عنها-، وهي كما قيل:

إني لأمنحك الصدود وإنني

قسَمًا إليك مع الصدود لأَمْيَلُ

ومما يستفاد من الحديث: ما ينبغي أنْ يكون عليه الرجل من فطنة في فهم سلوك الزوجة ودوافع هذا السلوك، ثم عليه أنْ يجتهد في إصلاح ما يندُّ في حياته الزوجية، وأنْ يراعي عاطفة المرأة وغيرتها، وأنْ يفهم أن بعض سلوكها يُعبِّر عن مغاضَبة فحسب، لا استعلاء ولا نشوز؛ ما لم تتجاوز حدّها الطبيعي.

وعن عائشة -رضي الله عنها- «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  وَجَدَ (أي: غضب) على صفية بنت حيي في شيءٍ، فقالت صفية: يا عائشة، أَرْضِي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكِ يومي. فقالت: نعم. فأخذَتْ خمارًا لها مصبوغًا بزعفران، فرَشَّته بالماء ليفوح ريحه، فقعدَتْ إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إليك يا عائشة! إنه ليس يومك. قالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأخبرَتْهُ بالأمر، فرضي عنها»[15].

ففي هذا الحديث ما تكون عليه الزوجة الصالحة من حِرْص على عودة المودة بينها وبين زوجها، وعدم انقطاعها بسبب المغاضبات العارضة؛ فإنَّ طبيعة الحياة المشتركة أنْ يتولد منها شيء من الاختلاف، ولو كان ذلك بالتنازل عن بعض حقّها.

وقد أعلَى الإسلام من شأن الزوجة التي تحرص على تطييب النفوس وإعادة العلاقة إلى مكانها الأصلي، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: كل ودود ولود، إذا غضبت أو أساء إليها أو عصت زوجها قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحل بغَمْضٍ حتى ترضى». وفي رواية: «ونساؤكم من أهل الجنة الودود الولود العؤود على زوجها؛ التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها، وتقول: لا أذوق غمضًا حتى ترضى»[16].

ومما يُستفاد من قصة صفية -رضي الله عنها-: ذكاء الزوجة في معرفة الأمور التي يحبُّها زوجها، والطُّرق التي يمكن أنْ تغيّر من مزاجه؛ لتكون وسيلة إلى تمتين حبال المودة بينهما.

أما أم المؤمنين سودة -رضي الله عنها-؛ فقد ذهبت إلى أبعد من هذا، فقد تنازلت عن قَسْمها في المبيت لصالح عائشة، وذلك حين كبُر سنُّها، وخشيت أنْ ينحلَّ رباط الزوجية، قالت عائشة -رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه: «كان يَقْسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، غير أنَّ سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم »[17]. وقد أثنت عليها عائشة -رضي الله عنها-؛ فقالت: «ما رأيت امرأة أحب إليَّ أنْ أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة»[18].

بيوت العابدات

في سياق الصناعة الربانية لبيوت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أُمر أزواجه أنْ يعمرن بيوتهن بالعلم وتلاوة القرآن وأنواع التعبد؛ قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا 33 وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا 34 إنَّ الْـمُسْلِمِينَ وَالْـمُسْلِمَاتِ وَالْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ والْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْـخَاشِعِينَ وَالْـخَاشِعَاتِ وَالْـمُتَصَدِّقِينَ وَالْـمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْـحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْـحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 33 - 35]. فكنَّ على خير حال في باب التعبد، وفي التوازن بين حق الزوج وحق الله تعالى.

فهذه أم سلمة -رضي الله عنها- قال عنها الذهبي: «كانت تُعَدُّ من فقهاء الصحابة. روى عنها: سعيد بن المسيب، وشقيق بن سلمة، والأسود بن يزيد، والشعبي، وأبو صالح السمان، ومجاهد، ونافع بن جبير بن مطعم، ونافع مولاها، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباح، وشهر بن حوشب، وابن أبي مليكة، وخلق كثير)[19].

وأما زينب بنت جحش -رضي الله عنها-، فقال عنها: «كانت من سادة النساء دينًا وورعًا وجودًا ومعروفًا»[20]. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أسرعكن لحاقًا بي أطولكن يدًا. قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا، قالت: فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتصدَّق»[21].

وفي رواية: «فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم  نَمُدّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى تُوفِّيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  إنما أراد بطول اليد الصدقة. قالت: وكانت زينب امرأة صَنَّاعة اليد؛ فكانت تدبُغ وتخرُز وتصدَّق في سبيل الله -عز وجل-»[22].

وتقول عنها أيضًا: «ولم أرَ امرأة قطُّ خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقةً، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدّق به، وتقرب به إلى الله تعالى»[23].

وهذه العابدة الذاكرة جويرية بنت الحارث، روى ابن عباس، عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم  خرج من عندها بكرةً حين صلى الصبح، وهي في مُصَلّاها، ثم رجع بعد أنْ أضحى، وهي جالسة، فقال: ما زلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد قلتُ بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وُزنتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته»[24]. فهكذا كانت تَملأ وقتها وتعمر حياتها وبيتها. وهكذا كنَّ -رضي الله عنهن وأرضاهن-.

وأما عائشة فلا تكفي الصفحات للحديث عن عِلمها وعبادتها وتقواها، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق؛ فقد روى عروة بن الزبير: «أنَّ معاوية -رضي الله عنه- بعث مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم، فوالله ما أمست حتى فرَّقتها. فقالت لها مولاتها: لو اشتريتِ لنا منها بدرهمٍ لحمًا؟ فقالت: ألا قلت لي!»[25].

وروى القاسم: «أنَّ عائشة كانت تصوم الدهر»[26]. وقد روى هشام بن عروة، قال: «كان عروة يقول لعائشة: يا أُمَّتاه! لا أعجب من فقهك؛ أقول زوجة نبي الله وابنة أبي بكر، ولا أعجب من عِلْمك بالشِّعر وأيام الناس؛ أقول ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطِّبّ كيف هو، ومن أين هو، أو ما هو؟! قال: فضربتْ على منكبه، وقالت: أي عُريَّة، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان يسقم عند آخر عمره -أو في آخر عمره-، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتَنعت له الأنعات، وكنتُ أعالجها له، فمِن ثَمَّ»[27].

وفي رواية: «لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحدًا قط كان أعلم بآية أُنزلت ولا بفريضة ولا بسُنَّة، ولا بشِعْر ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب ولا بنسب، ولا بكذا ولا بكذا، ولا بقضاء ولا طبّ منها. فقلت لها: يا خالة، الطب من أين علمته؟! فقالت: كنت أمرض، فيُنْعَت لي الشيء، ويمرض المريض، فيُنْعَت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض، فأحفظه»[28].

ومع ذلك فقد كنَّ يعشن حياتهن في توازن بين ما يجب عليهن لله تعالى، وما يجب عليهن لزوجهن صلى الله عليه وسلم ؛ فإنَّ عائشة ما كانت تسرد الصيام إلا بعد وفاة زوجها صلى الله عليه وسلم ، لذلك قالت: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أنْ أقضيه إلا في شعبان؛ الشغلُ برسول الله صلى الله عليه وسلم »[29].

وحين كانت تعمل زينب بنت جحش في الدبغ بيدها لأجل أنْ تتصدّق بثمنه بعد بيعه؛ تركت ما بيدها وتفرغت لرسول الله صلى الله عليه وسلم  لقضاء حاجته منها، كما في حديث جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  رأى امرأة، فأتى امرأته زينب، وهي تمْعسُ مَنيئة لها، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال: «إنَّ المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتُدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأتِ أهله، فإنَّ ذلك يردّ ما في نفسه»[30].

وما كنَّ عليه هو الامتثال لقوله تعالى: {فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ 7 وَإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧، ٨]. الانشغال بالزوج! والتوازن بين حق الله تعالى وحق الزوج.

 


 


[1] تيسير الكريم الرحمن 4/1852.

[2] أخرجه مسلم ح1426.

[3] كشف المشكل 4/406.

[4] أخرجه أبو داود ح2106، والترمذي ح1114.

[5] أخرجه النسائي ح3348.

[6] أخرجه أحمد ح24529.

[7] أخرجه أحمد ح25769.

[8] أخرجه البخاري ح5168، ومسلم ح1428.

[9] أخرجه البخاري ح4953، ومسلم ح160.

[10] السيرة النبوية لابن هشام 1/274.

[11] أخرجه البخاري ح2713.

[12] أخرجه البخاري ح5228، ومسلم 2439.

[13] انظر: شرح النووي 15/203.

[14] فتح الباري 9/326.

[15] أخرجه أحمد ح24640، وابن ماجه ح1973.

[16] أورده الهيثمي في مجمع الزوائد ح7662، وتمام في الفوائد ح1311، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع: 2604.

[17] أخرجه البخاري ح2593.

[18] أخرجه مسلم ح1463.

[19] سير أعلام النبلاء 2/202.

[20] سير أعلام النبلاء 2/212.

[21] أخرجه مسلم ح2452.

[22] أخرجه الحاكم ح6776.

[23] أخرجه مسلم ح2442.

[24] أخرجه مسلم ح2726.

 [25] سير أعلام النبلاء 2/187.

[26] الطبقات 10/67.

[27] سير أعلام النبلاء 2/182.

[28] سير أعلام النبلاء 2/183.

[29] أخرجه مسلم ح1136.

[30] أخرجه مسلم ح1303.

أعلى