• - الموافق2025/09/18م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الدوافع الاستراتيجية للتقارب السوري الروسي

كانت روسيا حليفًا قويًا لنظام الأسد، عدوًا وخصمًا لدودًا للثورة السورية، واليوم تشرع الإدارة السورية الجديدة في التقارب مع الجانب الروسي الذي حاربته من قبل، فما الذي يدفع الطرفين إلى التقارب رغم حالة العداء والمواجهة العسكرية طوال سنوات الثورة السابقة.


عندما شن تحالف جماعات الثورة السورية بقيادة أحمد الشرع هجومًا واسعًا على مواقع الجيش السوري في ريفي حلب الغربي وإدلب في بداية معركة ردع العدوان في ٢٧ نوفمبر الماضي، اندفعت الطائرات الروسية إلى الرد الجوي الفوري، وبادرت إلى قصف مناطق المدنيين في إدلب وأرتال القوات المتقدمة لإسقاط نظام الأسد.

وقد بلغت الغارات الروسية المشتركة مع نظام الأسد المخلوع ما يقرب من مائة غارة، والتي أسفرت عن مقتل مئات المقاتلين من هيئة تحرير الشام وباقي الفصائل، بالإضافة إلى حوالي ٤٠٠ قتيل من المدنيين.

وخرج أحمد الشرع حينها بتصريحات يصف الدعم الروسي للأسد بأنه "حملة صليبية استعمارية"، محرضا الشعوب المسلمة في جنوب روسيا والقوقاز إلى الرد على هجوم الطيران الروسي. وانتشرت شائعات في 1 ديسمبر 2024 عن مقتل الشرع نفسه في غارة روسية، لكن سرعان ما كذب الشرع تلك الإشاعة عندما خرج بنفسه لاحقا، ليزور قلعة حلب في 4 ديسمبر.

ولكن في 7 ديسمبر، ومع سيطرة المعارضة على حمص، توقفت الغارات الروسية عمليا، حين أعلنت روسيا أن الأسد قد غادر سوريا وتنحى. كان هذا اليوم بمثابة نقطة التحول.

وفي 8 ديسمبر، توقفت الغارات الروسية تماما مع سقوط دمشق وسيطرة فصائل الثورة السورية عليها، ومن ثم تم تدشين سقوط النظام رسميا.  وأكدت روسيا منح الأسد لجوء سياسيا في موسكو. فكانت هذه النهاية للتدخل الروسي المباشر الذي استمر منذ 2015.

بعدها سحب الروس قواتهم من الخطوط الأمامية والمناطق الداخلية، مع الحفاظ على قواعدهم الرئيسية في طرطوس (البحرية)ـ، وحميميم (الجوية).

وأفادت وسائل إعلامية وقتها نقلا عن مسؤولين سوريين وغربيين، بأن روسيا سحبت حوالي 30% من إجمالي قواتها، لكنها حافظت على 11 طائرة سوخوي في حميميم فقط من أصل 70 طائرة كانت متواجدة قبل تحرير سوريا.

ولكن بعد شهور من استقرار النظام الجديد في دمشق، بدأت العلاقات بين البلدين تتحسن تدريجيا، حتى وصلنا الى زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو، ليخرج بتصريح يقول فيه: نعتقد أن العلاقة مع روسيا ستتطور إلى شراكة استراتيجية متميزة في القريب العاجل.

فمن عداء وقتال، إلى شراكة استراتيجية مأمولة، تثار عدة أسئلة أهمها: كيف طرأ هذا التحسن في العلاقات، وما دوافعه بالنسبة لكل من الطرفين؟ وما أثره على التحديات التي تواجهها الحكومة الجديدة في سوريا؟

الدوافع والأسباب

بالنسبة للحكومة السورية بزعامة أحمد الشرع، فإن همها الأول في مسعاها نحو بناء سوريا الجديدة، هو بسط نفوذها على كل أنحاء الدولة، واحتواء التمرد الكردي والدرزي، وهذا لن يتحقق إلا بإيقاف دعم تلك الأقليات من القوى الخارجية، والعمل على إسقاط أجندات الغرب والكيان الصهيوني وبعض الأطراف الإقليمية، وذلك بإحداث توازن جيوسياسي، بين الغرب والشرق.

 

فالتقارب بين الروس وحكومة أحمد الشرع يرسل رسالة للغرب: إذا لم تضغطوا على الكيان الصهيوني كي لا يتدخل في الشئون السورية، قد تفقد واشنطن نفوذها لصالح موسكو.

ففي سياق الضغوط الصهيونية سواء كانت غارات جوية مستمرة، وتوغلات ودعم الدروز، أو تمرد قسد والتي تضع يدها على ٢٨٪ من مساحة سوريا، بالإضافة إلى سيطرتها على أغنى حقول النفط، ومع عجز الوساطات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا أو عدم رغبتهم في الضغط على كل من قسد والدولة الصهيونية، تحاول حكومة الشرع اللعب بورقة روسيا كعامل للتوازن.

وعلى الرغم من أن روسيا كانت أحد أسباب معاناة السوريين إثر تدخلها العسكري الداعم لنظام الأسد، والذي قلب الواقع العسكري لصالحه، وتسببت بمعظم عمليات التهجير القسري، وارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ودمرت مدناً على رؤوس ساكنيها، وعلى الرغم من ذلك كله إلا أن رغبة الشرع في الخروج من عنق الزجاجة والأزمات التي تحاصر النظام الجديد، دفعته في هذا الاتجاه.

وكشف أحمد الشرع في مقابلة مع CNN منذ أيام قليلة أن قوات ردع العدوان التي قادها، أجرت مفاوضات مع روسيا أثناء التقدم نحو حماة وحمص في 2024، مما أدى إلى انسحاب روسي تدريجي دون مقاومة كبيرة. كما أكد الشرع في مقابلة مع قناة الإخبارية السورية أن الروابط مع روسيا ولدت منذ عام 1946، وينبغي الحفاظ عليها وإدارتها بطريقة هادئة ورزينة.

فالتقارب بين الروس وحكومة أحمد الشرع يرسل رسالة للغرب: إذا لم تضغطوا على الكيان الصهيوني كي لا يتدخل في الشئون السورية، قد تفقد واشنطن نفوذها لصالح موسكو.

ولكن ما فائدة الروس في هذا المجال؟ وهل يستطيعون حقيقة إحداث ما ترغب به حكومة الشرع؟

لا شك أن هناك وجودًا روسيًا عسكريًا في سوريا (مثل قواعد حميميم وطرطوس) منذ عشرات السنين، فضلا عن أنها تمتلك قدرات تفاوضية وأوراق للضغط سواء مع الكيان الصهيوني، أو حتى مع الأكراد، مما يساعد في ردع العدوان الصهيوني، وتعزيز السيادة على كل الأراضي السورية.

ولنضرب مثالا بالعلاقة بين قسد (المنظمة العسكرية الكردية والتي تقود التمرد ضد حكومة الشرع في شمال شرق سوريا) وروسيا.

ففي البداية ومنذ تدخل روسيا عسكريا في 2015، كانت قسد حليفا رئيسيا للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، مما جعلها هدفا للقوات السورية المدعومة من روسيا، وهذا أدى إلى اشتباكات غير مباشرة، فكانت غارات روسية قرب مناطق سيطرة قسد.

ولكن في عام ٢٠١٩، فتحت روسيا قنوات اتصال مع قسد، خاصة بعد انسحاب جزئي أمريكي، حينها أسست روسيا قاعدة عسكرية في شمال شرق سوريا، وهي قاعدة القامشلي الجوية لموازنة الوجود الأمريكي، وناقشت مع قسد إمكانية التعاون ضد داعش، لكنها لم تقدم دعمًا مباشرا بسبب الضغط التركي.

وفي أعقاب إزاحة الشعب السوري لنظام الاسد، فتحت قسد قنوات مع روسيا للبحث عن حماية بديلة أمام الضغوط التركية والحكومة السورية الجديدة، خاصة مع بدء الحديث عن انسحاب أمريكي كلي من سوريا في بداية عهد ترامب. وفي نفس الوقت وبعد انسحاب روسي جزئي من سوريا بسبب أوكرانيا وخلع الاسد، وسط محاولات روسية لإعادة تموضع نفسها كشريك إقليمي وحليف موثوق لسوريا.

وفي البداية مع التقارب الغربي مع الحكومة الجديدة في دمشق، رأت روسيا في قسد شريكا محتملا للحفاظ على نفوذها في سوريا، خاصة في حقول النفط، ولكن سرعان ما دفعت باتجاه الحكومة السورية الجديدة والتي بدا مستقبلها أكثر رسوخا في التربة السورية.

والمثال الآخر في جنوب سوريا، حيث التدخل الصهيوني السافر، فالروس تواجدوا في هذه المنطقة في عهد بشار، خاصة في محافظة درعا، بعد اتفاقيات التسوية التي رعتها روسيا في عام 2018. وكان الهدف من هذا الوجود هو تثبيت الأمن ومنع التصعيد العسكري، وضمان سيطرة الحكومة السورية على المنطقة.

 

ذلك الأمر يحتم على النظام الجديد تقوية تحالفاته الخارجية سواء مع قوى إقليمية مثل تركيا والسعودية، أو قوى دولية تستطيع التعامل مع الكيان الصهيوني وإيقاف توغله وتغوله في سوريا.

أما بالنسبة للكيان الصهيوني، فقد حافظت روسيا على علاقات دبلوماسية مستقرة مع الدولة الصهيونية، وهناك تاريخ طويل في التنسيق الأمني بينهما في سوريا منذ عام 2015، وقد سمحت روسيا للكيان بإجراء مئات الغارات الجوية على أهداف إيرانية في سوريا دون تدخل، مقابل ضمانات أمنية.

فالروس مارسوا لعبة مزدوجة في سوريا زمن بشار، ونجحوا في إيجاد التوازن بين أهدافهم في سوريا والأهداف الصهيونية.

ففي حين أدانت روسيا زمن بشار الضربات الصهيونية على دمشق كانتهاك للسيادة السورية، لكنها لم تتخذ إجراءات عملية، كما أن روسيا لعبت دورا في اتفاقيات سابقة مثل المناطق الآمنة في الجنوب السوري (2018)، بالتنسيق مع الكيان والأردن، لمنع التصعيد الحدودي.

وعلى هذا المسار الذي سلكته من قبل، يقدم الروس أنفسهم بأنهم في استطاعتهم تقديم معادلة قد تكون مفيدة للحكومة السورية. تقوم تلك المعادلة على أن الوجود العسكري الروسي في المناطق التي يخشى منها الكيان على أمنه، قد فإنه سيكون بنفسه ضامنًا له، وهذا الأمر يشجع على الانسحاب العسكري الصهيوني من الجنوب السوري.

فالوجود العسكري الروسي، قد يكون هو البديل المفضل صهيونيا عن الوجود العسكري التركي في تلك المنطقة، والذي يسبب قلقا وصداعا للساسة في حكومة الكيان.

وهذه المصلحة التي يقدمها الروس إلى السوريين، تأتي في مقابل الاحتفاظ بقواعدهم، ووجودهم في شرق المتوسط.

النظام السوري واللعبة الدولية

ولكن لماذا يندفع نظام سوريا الجديد في اتجاه الشرق أو الغرب للتعامل مع أزماته؟ لماذا لا يعتمد على ذاته في النهوض؟

المتأمل لواقع الحكومة في سوريا بقيادة الرئيس أحمد الشرع، يجد أن أولى مهامها هي بناء الدولة السورية من جديد.

ففي حين استطاعت الجماعات المقاتلة إزالة النظام البائد بمؤسساته العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية، فهي الآن بصدد بناء دولة جديدة تقريبا من العدم، ولا تملك إمكانيات المواجهة العسكرية مع دولة جامحة مثل الكيان الصهيوني، في الوقت الذي تمر به الدولة العبرية في حالة عدم توازن وصدمة أحدثها طوفان الأقصى، فتحاول استعادة الردع والظهور بمظهر القوة الكبرى في الإقليم والمنطقة، وتقوم بقصف ٧ دول في المحيط، لتثبت أنها القوة المهيمنة، في حين عاجزة عن حسم معركتها مع حماس في القطاع.

وذلك الأمر يحتم على النظام الجديد تقوية تحالفاته الخارجية سواء مع قوى إقليمية مثل تركيا والسعودية، أو قوى دولية تستطيع التعامل مع الكيان الصهيوني وإيقاف توغله وتغوله في سوريا.

في البداية، نجحت وساطات الدول الإقليمية، في استعادة سوريا لعلاقاتها مع كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، واستعانت بهم لكي يقوموا بالضغط على الصهاينة كي يوقفوا توغلاتهم وقصفهم ومساندتهم لتمرد الأقليات، ولكن الاستجابة الغربية كانت أقرب للضغط على النظام لقبول واقع أشبه بالتقسيم، مما دفعها إلى الاتجاه شرقا.

والتقطت روسيا الإشارة المنتظرة، وبالفعل عرضت على سوريا المساعدة جويًا في استعادة مناطق شرق الفرات والسويداء، مع تأمين ورقة الفيتو داخل مجلس الأمن، مقابل علاقات استراتيجية مع دمشق، ومن بينها تسيير الدوريات الروسية في الجنوب، والضغط على الكيان للانسحاب، وقالت سوريا إنها ستدرس الملف وسترد لاحقا.

ولقى هذا التجاوب السوري مع روسيا صداه في العاصمة الأمريكية واشنطن، وتغيرت لغة التعامل.

فأرسلت أمريكا في البداية الأدميرال تشارلز برادلي كوبر، قائد القيادة المركزية الأمريكية، والتي أصدرت في أعقاب تلك الزيارة بيانا عبر منصة X قالت فيه، إن دمشق هي شريك حقيقي في محاربة تنظيم الدولة.

ووجه الوفد الأمريكي خلال الاجتماع شكره لرئيس الشرع على دعمه في مواجهة تنظيم الدولة في سوريا، كما أعلنت القيادة المركزية دعمها لدمج مختلف الفصائل المسلحة السورية في الجيش السوري.

ثم جاء بعدها المبعوث الأمريكي توم باراك منذ أيام مهرولا، ومعه في هذه المرة خارطة الطريق لحل أزمة محافظة السويداء، ولم يذكر موضوع الكونفدرالية أو الحكم الذاتي، ويبدو أنه جاء بعرض صهيوني جديد للحكومة السورية بدا أن بنوده ليست كما في العروض السابقة والتي كانت تركز على نزع سلاح الجنوب السوري، بل بنود عملية وقابلة للتفاوض، ولا تتضمن فرض استقلال الدروز أو حكم ذاتي، بل بعض المناصب في إدارة السويداء.

بمرور الوقت، تزداد خبرة الحكومة السورية وتعاطيها مع ألاعيب السياسة وتوازناتها سواء داخل سوريا، أو إقليميا، أو دوليا، وهذا ينعكس على أدائها ويثبت شعبيتها ورسوخها لتكون قوة إقليمية في القريب العاجل.

أعلى