• - الموافق2025/09/14م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ضربة الدوحة: هل دخلت المنطقة في حرب بلا كوابح؟

ضربة الدوحة لم تكن مجرد حدث عابر، بل كانت إعلانًا صريحًا عن دخول المنطقة مرحلة جديدة من الصراع المفتوح، حيث سقطت كل الخطوط الحمراء وتبددت أوهام الوساطات والتوازنات القديمة


ضربة الدوحة لم تكن مجرد عملية عسكرية عابرة، بل مثلت تحولًا صاعقًا في معادلة الصراع، إذ أقدمت إسرائيل على قصف قلب عاصمة خليجية تُعد مركزًا للوساطة ومقرًا للرهان على أي فرصة للتهدئة، لتعلن بوضوح أن حربها في غزة لم تعد محصورة في حدود القطاع ولا موجهة ضد حماس وحدها، بل هي رسالة متعجرفة إلى كل الإقليم بأن لا خطوط حمراء أمام مشروعها الدموي. بهذا الفعل، لم تُسقط إسرائيل وساطة قطر فحسب، بل فجّرت جسرًا هشًّا كان يمكن أن يقود إلى إطلاق الأسرى أو إلى تهدئة نسبية، لتترك المنطقة كلها في مواجهة مفتوحة بلا سقف، حيث تحولت غزة إلى بوابة لإشعال ساحات جديدة من الصراع الإقليمي. هنا يفرض السؤال نفسه: إذا كانت إسرائيل قد تجرأت على كسر حرمة الدوحة، فإلى أي مدى ستتمادى في مشروعها الدموي؟، وهل تحوّلت حرب غزة بالفعل إلى صراع بلا كوابح يبتلع المنطقة كلها؟

سقوط المحرّمات

لم يكن استهداف الدوحة حدثًا عسكريًا عابرًا، بل هو في جوهره إعلان عن سقوط واحد من المحرّمات الراسخة في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي. فقد درجت إسرائيل ـ على الرغم من سجلها الطويل في العدوان والاحتلال ـ على تجنّب استهداف العواصم الخليجية التي ظلت تُعتبر إلى حدّ كبير خارج معادلة الاشتباك المباشر. هذه المناطق، بحكم ثقلها الاقتصادي وعلاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، كانت تُصنّف ضمن دوائر الاستثناء التي لا يجرؤ الكيان الإسرائيلي على تجاوزها، لا لاعتبارات أخلاقية أو قانونية فقط، وإنما لحسابات استراتيجية دقيقة تتعلق بمصالح الحليف الأمريكي واستقرار أسواق الطاقة. لكن ضربة الدوحة كسرت هذا القيد، ونقلت الصراع من نطاق المواجهة مع المقاومة الفلسطينية أو الجبهات التقليدية في لبنان وسوريا واليمن إلى قلب المجال الحيوي العربي الأكثر حساسية، لتؤكد أن إسرائيل لم تعد تقيم وزنًا لأي تفاهمات ضمنية أو خطوط حمراء غير مكتوبة.

وما يجعل هذه الضربة أكثر خطورة أنها ليست مجرد عمل عدائي ضد مجموعة من قادة حماس، بل هي تقويض مباشر لمفهوم السيادة الوطنية الذي كان يُعامل، حتى وقت قريب، بوصفه أحد الثوابت التي يستحيل المساس بها. فالدوحة ليست عاصمة هامشية يمكن التغاضي عن استهدافها، بل هي مركز للوساطة الإقليمية، وملاذ دبلوماسي تراكمت حوله مبادرات التهدئة والحوار، ليس فقط بشأن فلسطين، بل بشأن أفغانستان وأزمات أخرى. ومن ثمَّ فإن المسّ بها يعني نسفًا لمجمل الترتيبات غير المعلنة التي سمحت باستمرار قنوات التفاوض ولو في ذروة المواجهات.

 

إن مسار الانحياز الأمريكي ليس جديدًا، لكنه بلغ في السنوات الأخيرة مستوى يتجاوز الدعم التقليدي إلى الانخراط في صناعة الفوضى ذاتها. فواشنطن هي التي وفرت لإسرائيل المظلّة السياسية في مجلس الأمن، ومنحتها الغطاء العسكر

إن استهداف عاصمة كهذه يعني أن إسرائيل قررت أن تتعامل مع المنطقة بوصفها فضاءً مفتوحًا للضربات الاستباقية، وأن لا اعتبارات لحرمة المدن أو مكانتها الرمزية والسياسية. هذه هي اللحظة التي انهار فيها جدار المحرّمات، لتدخل المنطقة إلى مرحلة جديدة قوامها الانكشاف الاستراتيجي الكامل، حيث لا استثناء ولا حصانة لأحد أمام العربدة الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا.

رسائل إسرائيل المبطنة

لم يكن اختيار الدوحة هدفًا عبثيًا في حسابات المؤسسة الإسرائيلية، بل جاء كخطوة مدروسة بعناية لتكثيف رسائل سياسية وأمنية إلى الداخل والخارج في آن معًا. فمن منظور تل أبيب، لم يعد الصراع مع غزة أو مع حماس مجرد مسألة عسكرية محلية، بل تحول إلى منصة لإعادة رسم توازنات المنطقة وتذكير الجميع بأن إسرائيل قادرة على فرض معادلاتها الخاصة، حتى على حساب حلفاء واشنطن، ويمكن قراءة الرسائل المبطنة وراء ضربة الدوحة كالتالي:

* استهتار بالوساطة: رسالة واضحة لقطر بأنها ليست محصنة مهما لعبت دور الوسيط، وأن أي قنوات تفاوض لا تمر عبر البوابة الإسرائيلية ستظل عُرضة للإفشال، كما أن الضربة بمثابة استخفاف فاضح بالجهود الدبلوماسية التي قادتها قطر منذ اندلاع الحرب.

* استخفاف بالسيادة: تحدٍ مباشر لمفهوم السيادة وإشارة إلى أن العواصم العربية ليست بمنأى عن يد إسرائيل، مهما كانت مكانتها السياسية أو الرمزية، في تحدٍ مباشر لمفهوم السيادة الذي كان يعتبر حتى وقت قريب خطًا أحمر.

* استعراض القوة: تأكيد أن الاستخبارات والقدرات العسكرية الإسرائيلية قادرة على الوصول إلى أي مكان في المنطقة دون عوائق، فحتى الغطاء الأمريكي لا يمنع تل أبيب من اختراق حرمة الدول ولا من استخدام أراضيها كساحة لتصفية حساباتها.

* التوظيف الداخلي: استغلال نتنياهو لهذه الضربة كأداة للهروب من أزماته السياسية والقضائية، عبر تصوير نفسه مدافعًا عن أمن إسرائيل في مواجهة أعداء خارجيين، وكزعيم لا يتردد في اتخاذ خطوات قصوى لتأمين هيبة الكيان المحتل.

واشنطن شريك مباشر

لم تكن واشنطن يومًا مجرد مراقب في مشهد الصراع العربي ـ الإسرائيلي وأزمات المنطقة، لكنها مع ضربة الدوحة كشفت عن وجهها الأكثر قباحةً في الشراكة مع آلة الحرب الإسرائيلية. فالتصريحات المرتبكة التي صدرت عن البيت الأبيض عقب العملية لم تكن سوى محاولة بائسة لتغطية حقيقة الانحياز المطلق، إذ لم تجرؤ الإدارة الأمريكية على إدانة القصف أو حتى اعتباره تجاوزًا للخطوط الحمراء، بل تعاملت معه كأمر واقع، وكأن استهداف عاصمة خليجية لا يختلف عن قصف موقع في غزة أو مخيم للاجئين.

هذا الصمت الموارب يفضح أن الولايات المتحدة لم تفقد فقط قدرتها على لعب دور الوسيط، بل تخلّت عمدًا عن أي ادعاء بالحياد، لتتحول إلى شريك مباشر في فرض معادلة القوة على المنطقة. واللافت أن القصف وقع على بُعد كيلومترات قليلة من قاعدة العديد، التي تُعد أضخم وجود عسكري أمريكي في الشرق الأوسط، ما جعل الغضب الشعبي الخليجي والعربي يتضاعف أمام مشهد بدا وكأنه يتم تحت أعين الحليف الأمريكي ورعايته.

إن مسار الانحياز الأمريكي ليس جديدًا، لكنه بلغ في السنوات الأخيرة مستوى يتجاوز الدعم التقليدي إلى الانخراط في صناعة الفوضى ذاتها. فواشنطن هي التي وفرت لإسرائيل المظلّة السياسية في مجلس الأمن، ومنحتها الغطاء العسكري عبر تزويدها بأحدث المقاتلات والذخائر، وفتحت لها المجال لممارسة عربدتها دون خشية من مساءلة أو عقاب. في هذا السياق، يمكن قراءة ضربة الدوحة كحلقة في مشروع أوسع يُرَاد له أن يُبقي المنطقة في حالة استنزاف دائم، حيث يتحول الأمن الخليجي إلى رهينة لابتزازات تل أبيب وواشنطن معًا. وبذلك، تسقط ورقة التوت عن كل خطاب أمريكي عن "الوساطة" أو "حل الدولتين"، ليظهر الوجه الحقيقي: شريك يصوغ مع إسرائيل خريطة الدم والفوضى، لا حكمًا ولا وسيطًا، بل طرفًا أصيلًا في الصراع.

ارتباك عربي

رغم أن بيانات الإدانة الخليجية والعربية جاءت متسارعة بعد ضربة الدوحة، إلا أنها عكست حالة من الارتباك أكثر مما عبّرت عن موقف حاسم. فالعواصم العربية وجدت نفسها أمام معضلة مركبة: من جهة هي تدرك أن ما جرى يمثل خرقًا فجًّا لسيادتها الجماعية ورسالة استعلاء إسرائيلية موجهة لها بقدر ما هي موجهة لقطر، ومن جهة أخرى لا تستطيع تجاوز حساباتها الأمنية المعقدة المرتبطة بالولايات المتحدة التي تحتفظ بآلاف الجنود والقواعد العسكرية على أراضيها. هذا التوازن الهشّ جعل المواقف الرسمية تبدو وكأنها محاولة لامتصاص الغضب أكثر من كونها إرادة فعلية لمواجهة التصعيد الإسرائيلي. ولعل بيانات الشجب والإدانة من المسؤولين العرب للتعبير عن التضامن لم تُخفِ في جوهرها حقيقة الضعف الاستراتيجي، حيث بقيت إسرائيل تملك زمام المبادرة بينما اكتفى العرب بالتعبير الخطابي عن السخط.

على الضفة الأخرى من الخليج العربي، لم تفوّت إيران الفرصة لتوظيف ضربة الدوحة في خطابها السياسي والإعلامي. فقد سعت طهران إلى تصوير ما جرى باعتباره تأكيدًا على أن جميع القوى في المنطقة، سواء كانت حليفة لواشنطن أو محايدة، ليست بمأمن من العدوان الإسرائيلي ـ الأمريكي. بهذا المنطق، حاولت أن تكرّس نفسها باعتبارها الحليف الضروري في مواجهة الخطر المشترك، مستثمرة الغضب العربي لتعزيز سرديتها عن كونها رأس حربة في مقاومة المشروع الصهيوني. لكن المفارقة أن هذه المكاسب الدعائية رافقها تصاعد هواجسها الأمنية، إذ لا يمكن لطهران أن تتجاهل أن استهداف الدوحة يفتح بابًا لاحتمالات مماثلة ضدها، ما يجعلها تسير على خيط رفيع بين استثمار اللحظة والخوف من أن تصبح هي الهدف التالي مجددًا.

السيادة المنتهكة ومأزق التطبيع العربي

لقد بُنيَت معادلات الأمن والسياسة في الخليج على افتراض أنّ العواصم محصّنة من التمدّد المباشر للحرب، وأن استقرارها محميّ بشبكات القواعد العسكرية والتحالفات مع واشنطن. لكنّ الضربة الإسرائيلية للدوحة فجّرت هذه المعادلة من أساسها، بعدما كسرت جدار ظلّ يُعتبر من المحرّمات في الصراع الإقليمي، وإذا كانت هذه الضربة قد مزّقت الستار الواقي للسيادة، فإنّها في الوقت نفسه نسفت أسس خطاب التطبيع الذي رُوّج له باعتباره طريق السلام والتنمية. فكيف يمكن لحكوماتٍ راهنت على الانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي مع إسرائيل أن تبرّر لشعوبها أنّ هذا الخيار يضمن الاستقرار، فيما الطائرات الإسرائيلية تقصف عاصمة خليجية من دون رادع؟!، لقد تحوّل خطاب "السلام مقابل الازدهار" إلى عبء سياسي وأخلاقي، بعدما عرّت الضربة هشاشته وكشفت أنّ إسرائيل لا ترى في التطبيع سوى غطاءً لاستكمال مشروعها التوسعي بالقوة.

بهذا المعنى، لم يكن الاستهداف الإسرائيلي للدوحة مجرد حادثٍ عابر، بل محطة فاصلة تُعيد خلط الأوراق: فقد أحرج كل الحكومات التي سارعت إلى تطبيعٍ مجاني، وضاعف الضغوط الشعبية الرافضة، وأعاد القضية الفلسطينية إلى قلب المعادلة كشرط لا يمكن القفز عليه في أي حديث عن استقرار أو تسويات. لقد فتحت الضربة الباب على لحظة مراجعة كبرى، حيث لا يمكن لأي عاصمة عربية أن تتجاهل أنّ صيانة السيادة الوطنية باتت رهينة لمعادلة جديدة: إمّا مواجهة عربدة إسرائيلية أمريكية مشتركة، وإمّا الارتهان لمعادلات واهية تتضاعف الأخطار.

حرب بلا كوابح

ضربة الدوحة لم تكن مجرد حدث عابر، بل هي إعلان صريح عن دخول المنطقة مرحلة جديدة من الصراع المفتوح، حيث سقطت كل الخطوط الحمراء وتبددت أوهام الوساطات والتوازنات القديمة. فإسرائيل، المسنودة بانحياز أمريكي مطلق، لم تكتف بتمزيق غزة ولا بتهديد لبنان وسوريا واليمن وإيران، بل امتدت يدها لتطال عاصمة خليجية تحتضن أكبر قاعدة أمريكية، في رسالة استخفاف بالسيادة العربية كلها. الأخطر أن واشنطن، التي تزعم دور الوسيط، ظهرت شريكًا مباشرًا في توفير الغطاء السياسي والعسكري، بما يحوّلها من ضامن للاستقرار إلى صانع للفوضى. وبذلك باتت كل عاصمة عربية معرضة للاستباحة، وكل دولة مهددة بأن تتحول ساحة رسائل دموية، فيما يزداد مأزق المطبعين إحراجًا أمام شعوبهم التي ترى بأعينها كيف تُقوَّض السيادة، لا شك أنّ ما حدث في الدوحة يفتح الباب على مستقبل غامض، لا سيما في ظل عدم وجود معادلة عربية موحدة، تضع حدًا للغطرسة الإسرائيلية.

أعلى