• - الموافق2025/12/17م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الشيطنة كأداة استخباراتية من سيدني إلى تدمر: من المستفيد؟

لا تبدأ الحروب بالقنابل، بل بالعناوين، ولا تُفرض العقوبات بالقرارات فقط، بل بتجفيف التعاطف الإنساني. الشيطنة هنا تؤدي وظيفة مزدوجة: إسكات الأسئلة الأخلاقية، وتحويل الجريمة من فعل مدان إلى “ضرورة أمنية”. وحين تنجح هذه العملية، يصبح الرأي العام شريكًا صامتً


ليست المصادفة وحدها ما يجمع بين حادثتي سيدني وتدمر، رغم التباعد الجغرافي واختلاف السياقات الظاهرية. في الحالتين، يظهر خيط خفي يربط بين العنف، وتوقيته، وطريقة توظيفه إعلاميًا وسياسيًا. هذا الخيط هو الشيطنة: تحويل جماعات بشرية أو جغرافيا كاملة إلى خطر وجودي يبرر كل إجراء لاحق، من قمع وتشديد أمني، إلى عقوبات وحروب غير معلنة. حين نضع الحادثتين في إطار واحد، يتضح أن الدم لم يكن نهاية القصة، بل بدايتها.

في سيدني بأستراليا، شهدت المدينة حادثة إطلاق نار مروعة استهدفت تجمعًا دينيًا يهوديًا، جريمة صدمت أثارت الرعب في قلوب السكان. وسط الفوضى، برز شجاعة فردية غير متوقعة، حين تصدى أحد المسلمين، تاجر فاكهة بسيط، لأحد المعتدين وأوقفه. هذا الموقف كشف أيضًا عن واقع أكثر تعقيدًا، حيث يتم أحيانًا تصوير الأحداث الفردية في إطار جماعي مشوه، يُلصق المسؤولية بمجتمع بأكمله دون النظر للحقائق الواقعية.

على بعد آلاف الكيلومترات، في تدمر السورية، أعادت العمليات الإرهابية، بقيادة عناصر داعش، توجيه الأنظار إلى هشاشة الأمن واستقرار البلاد، خصوصًا بعد انتهاء مهلة دمج قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في الدولة السورية. جاء ذلك في توقيت حساس قبل التصويت على إلغاء قانون قيصر الذي قيّد سوريا لسنوات، مما جعل الهجوم أداة لإبطاء استعادة السيادة الكاملة والعافية الوطنية. الهدف كان واضحًا: تعطيل أي مسار سياسي أو اقتصادي يُعيد التوازن للبلاد، ويؤكد أن الفوضى تبقى وسيلة ضغط على الدولة والشعب، حتى يتم الاحتفاظ بالسيطرة الإقليمية والدولية على المشهد.

الشيطنة كأداة لإدارة الرأي العام:

الشيطنة ليست رد فعل عاطفيًا على حدث صادم، بل عملية منظمة تبدأ قبل وقوع الحدث، وتُستثمر بعده. لغويًا، يتم تجريد الضحية أو المتهم من فرديته، وتحويله إلى رمز جمعي: “المسلم = إرهابي”. ومع التكرار، تصبح هذه اللغة مألوفة، ثم مقبولة، ثم مبررًا نفسيًا لتقبل العنف ضده.

تقول الصحفية والروائية الأمريكية-الفلسطينية سمر دهمش جراح، المتخصصة في العلاقات السياسية الدولية "صهاينةُ أمريكا، سواء كانوا يهودًا أم غير يهود، يقيمون حملةً هستيرية مستغلّين حادثة أستراليا، ويتسابقون فيما بينهم لإثبات أن الدين الإسلامي برمّته يشكّل خطرًا على الحضارة الغربية. بل وصل بهم الأمر إلى التنافس على الادعاء بأن أحمد الأحمد ليس مسلمًا أصلاً.

 

تبدو ‎قسد كأداة وظيفية بيد ‎إسرائيل داخل سوريا، تُستخدم لإرباك المشهد، وتعطيل مسارات الاستقرار، وإعادة إنتاج الفوضى بما يخدم مصالح إقليمية معروفة، بعيدًا عن أي حديث حقيقي عن محاربة الإرهاب أو حماية المدنيين.

ويأتي كلّ ذلك بعد أن نصحت شركةُ استطلاع رأي أمريكية الكيانَ بالبحث عن عدوّ جديد يُرهب العالم، بعدما تلاشت أيّ آمال في إنقاذ سمعة الكيان، خصوصًا في الولايات المتحدة وأوروبا، عقب حرب الإبادة".

التاريخ الحديث مليء بأمثلة على هذا النمط: لا تبدأ الحروب بالقنابل، بل بالعناوين، ولا تُفرض العقوبات بالقرارات فقط، بل بتجفيف التعاطف الإنساني. الشيطنة هنا تؤدي وظيفة مزدوجة: إسكات الأسئلة الأخلاقية، وتحويل الجريمة من فعل مدان إلى ضرورة أمنية. وحين تنجح هذه العملية، يصبح الرأي العام شريكًا صامتًا في ما سيأتي لاحقًا.

ما حدث في غزة لم يكن مجرد جولة عسكرية، بل هزيمة أخلاقية وإعلامية غير مسبوقة لإسرائيل. للمرة الأولى، تشكل رأي عام عالمي واسع يرى إسرائيل بوصفها قوة احتلال تمارس عنفًا ممنهجًا ضد المدنيين. هذه الخسارة في الوعي أخطر من أي خسارة ميدانية، لأنها تهدد شرعية المشروع كله.

هنا تتحرك أجهزة الاستخبارات، وعلى رأسها الموساد، ليس بالسلاح بل بالسردية. الهدف: نقل مركز الاهتمام من الجرائم الإسرائيلية إلى خطر آخر أكثر رعبًا للغرب، وهو التطرف الإسلامي. في هذا السياق، لا يكون الربط بين الإسلام والعنف خطأً إعلاميًا، بل خيارًا استراتيجيًا. كل حادث يمكن استثماره لإعادة إنتاج الخوف، وإعادة تموضع إسرائيل كـحليف حضاري في مواجهة تهديد مشترك.

القوى الإقليمية المتضررة من أي هزيمة إسرائيلية تشارك في هذا المسار، لأن انهيار صورة إسرائيل يعني اهتزاز منظومة كاملة من التحالفات والمصالح الأمنية والاقتصادية.

حادث سيدني واستثمار الجريمة سياسيًا:

الهجوم على تجمع ديني يهودي في سيدني جريمة مدانة أخلاقيًا وقانونيًا، لكن الخطير لم يكن في الحدث ذاته، بل في الزمن القياسي الذي استُخدم فيه لتوجيه اتهام جمعي للمسلمين. تم تجاهل تفاصيل أساسية، أبرزها أن مسلمًا كان من أوائل من تصدوا للمهاجم، لأن هذه التفاصيل تُربك السردية المطلوبة.

الإعلام هنا لم يطرح أسئلة، بل قدّم إجابات جاهزة. لم يكن الهدف حماية المجتمع، بل زرع حالة خوف داخلي، وإعادة توجيه التعاطف العالمي الذي كان يتدفق نحو غزة. بهذه الطريقة، تتحول الجريمة الفردية إلى أداة سياسية عابرة للقارات، تخدم أجهزة استخباراتية وتحالفات دولية أكثر مما تخدم العدالة.

حادث تدمر وورقة داعش لتعطيل استقرار سوريا:

في تدمر، لا يمكن فصل عودة داعش عن السياق السياسي المحيط بها. التوقيت حساس: حديث عن محاولات كسر العزلة الاقتصادية، نقاشات حول تخفيف أو إلغاء قانون قيصر. فجأة، يعود التنظيم الذي قيل إنه هُزم، ليؤكد أن سوريا غير آمنة.

وزير الحرب الإسرائيلي إسرائيل كاتس يتبنّى رواية قسد بحذافيرها، وكأنه العقل المُدبّر لكل ما يجري على الساحة السورية، رغم أن حليفهم الأول دونالد ترامب أدلى في أكثر من مناسبة بتصريحات تناقض هذا الخطاب وتذهب في اتجاه مغاير تمامًا. يطرح ذلك تساؤلًا مشروعًا: كيف لوزير حرب أن يخالف علنًا مواقف وتصريحات حليفه الاستراتيجي الأبرز، ويصرّ على تبنّي سردية تخدم أجندة مختلفة؟

في المحصلة، تبدو ‎قسد كأداة وظيفية بيد ‎إسرائيل داخل سوريا، تُستخدم لإرباك المشهد، وتعطيل مسارات الاستقرار، وإعادة إنتاج الفوضى بما يخدم مصالح إقليمية معروفة، بعيدًا عن أي حديث حقيقي عن محاربة الإرهاب أو حماية المدنيين.

في الوقت الذي تعود فيه الهجمات المشبوهة لتنظيم داعش إلى الواجهة مع اقتراب انتهاء المهلة النهائية لتنفيذ اتفاق آذار، وكأنها تخرج مجدداً من عباءة سجون قسد لتخلط الأوراق وتعرقل أي مسار للاستقرار. هذا التزامن يثير كثيراً من علامات الاستفهام حول دور ميليشيات قسد في إدارة ملف معتقلي التنظيم واستثماره سياسياً وأمنياً في اللحظات الحساسة.

الإرهاب هنا لا يعمل كتنظيم مستقل فقط، بل كورقة جاهزة للاستخدام. كل عملية تعني: لا استقرار، لا استثمار، لا إعادة إعمار. وهذا يخدم قوى إقليمية ودولية ترى في استقرار سوريا تهديدًا مباشرًا لمصالحها. داعش لا يحتاج إلى السيطرة على الأرض بقدر ما يحتاج إلى الحضور الرمزي، كفزاعة دائمة تبرر العقوبات والتدخلات.

في سيدني كما في تدمر، الدم ليس الهدف النهائي، بل وسيلة لإعادة ضبط المشهد. في الغرب، يُستخدم الخوف لإعادة تعريف العدو بعد غزة. وفي الشرق، تُستخدم الفوضى لتعطيل أي مسار استقرار. الشيطنة هي الجسر الذي يربط الحالتين: شيطنة المسلم في الغرب، وشيطنة الجغرافيا السورية في الشرق.

إذ إن قسد لم تقف يومًا إلى جانب المعارضة السورية في مواجهة نظام الأسد، ويؤكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إن قوات سوريا الديمقراطية تستمد جرأتها من إسرائيل.

فيما يقال أن "نتانياهو وعددا من وزراء حكومته المتطرفة سارعوا إلى استثمار الحادث لتخويف استراليا والدول الغربية من توجيه أي انتقاد لإسرائيل أو السماح بالاحتجاجات الشعبية ضدها، بدعوى أن انتقاد جرائم إسرائيل يخدم الإرهاب، وأن ما حدث في استراليا هو الدليل، فما تفسير ذلك؟".

فهل من قاموا بهذه العملية كانوا حمقى وجهلة لا يفهمون ألف باء النتائج السياسية لجريمتهم، أم أنهم كانوا موجهين من جهة استخباراتية مجهولة لها مصلحة في ذلك؟!".

النتيجة واحدة: عالم يُدار بالخوف، تُختصر فيه القضايا المعقدة إلى شعارات أمنية، ويُستبعد فيه أي نقاش عقلاني حول الجذور الحقيقية للعنف. من يربح؟ من يملك القدرة على إدارة السردية، وتحريك المشاعر، وضبط توقيت الدم.

في النهاية، السؤال ليس: من ارتكب الجريمة.. بل: من استفاد منها؟، لأن الإجابة غالبًا ما تكشف ما لا تقوله البيانات الرسمية، ولا تجرؤ العناوين الكبرى على طرحه.

أعلى