تسعى إسرائيل لإعادة رسم حدود الجنوب السوري مستغلة ضعف الدولة الجديدة لفرض واقع سياسي وميداني جديد. ما أدواتها في استثمار الفوضى وهندسة الجغرافيا والسيادة؟ وما خيارات السوريين لمواجهة هذه الهيمنة؟
في خضم انهيار نظام حكم
دام خمسة عقود في دمشق، ومحاولة سوريا الهشة الانتقال إلى وضع الدولة بعدما عانت
خلال السنوات الأخيرة من كونها رقعة صراع مفتوحة على تدخلات متعددة، برزت أزمة
الجنوب السوري ـ ولا سيما منطقة الجولان وهضبة جبل الشيخ ـ كمسرح لاحتلال متجدد من
جانب الجيش الإسرائيلي.
هذه التدخلات العسكرية
المتسارعة لا تُقرأ فقط كرد فعل على فراغ أمني كما يصفها الصهاينة، بل بوصفها إعادة
هندسة ميدانية وجغرافية للحدود وفقًا لاستراتيجية الأطماع الإسرائيلية، وفي ظل
هشاشة الدولة السورية الجديدة تجد نفسها مجددًا غنيمة حرب تتقاسمها القوى المتدخلة،
تتقدّمها هذه المرة إسرائيل بوصفها الطرف الأكثر قدرة على استثمار الفوضى وتوجيه
مآلاتها.
تاريخ التفاهم
من أجل فهم طبيعة ما يجري
اليوم في جنوب سوريا، لا بدّ من العودة إلى اتفاق فض الاشتباك 1974 بين سوريا
وإسرائيل، الذي شكّل لبنة لحدود مؤقتة بعد حرب أكتوبر 1973. ينص الاتفاق على انسحاب
القوات من مناطق كان الاحتلال الإسرائيلي قد سيطر عليها، وعلى إقامة منطقة فصل
عازلة بين خطيّ "ألفا" و"برافو"، وتحت إشراف قوة حفظ سلام من الأمم المتحدة، انتشرت
رسميًا في يونيو 1974 لمراقبة الالتزام بالخطوط المرسومة وضمان عدم إقامة تحركات
عسكرية واسعة في المنطقة. ومنذ 1974 وحتى الأشهر الأخيرة من 2024، كانت هذه المنطقة
العازلة بمثابة ضمانة لاستقرار محدود بين الطرفين، وإن لم يكن سلامًا، وعلى الرغم
من تسجيل خروقات متفرقة خلال العقود اللاحقة، خصوصًا في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي
للبنان عام 1982، ظلّت المنطقة إلى حدّ كبير جبهة راكدة عسكريًا، مقارنة بسخونة
الملفات الأخرى في الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
كما أن دمشق، رغم تمسكها
السياسي المعلن بخيار "استعادة الجولان"، لم تتجاوز عمليًا سقف تلك المعادلة
الأمنية التي فرضها هذا الاتفاق الذي شكّل هدنة مؤقتة حدّدت شكلًا من العلاقات
الأمنية والفصل بين القوات. إلا أن انهيار نظام بشار الأسد في دمشق في ديسمبر 2024
أتاح لإسرائيل ـ بحسب مواقفها الرسمية ـ إعلان انهيار الاتفاق وأن الفراغ الذي خلف
سقوط النظام السوري يبرّر تمدّدها. والملاحظ هنا أن هذا
الانقلاب على مفاهيم ما بعد 1974 ليس مجرّد عودة إلى الاشتباك: بل بداية مشروع
لإعادة هندسة حدود المنطقة، وممارسة احتلال دائم لمناطق كانت تُفترض أن تبقى فاصلة
بين قوتين متناحرتين.
احتلال تدريجي
ما نراه اليوم ليس مجرّد
غارة هنا أو هناك، بل احتلال إسرائيلي تدريجي ومدروس لمساحات استراتيجية من أراضي
سوريا. فمنذ إعلان سقوط النظام، شهدنا تحرّكات إسرائيليّة منهجية شملت تثبيت مواقع
على قمم استراتيجية كجبل الشيخ وتمدّدًا متدرّجًا إلى ما وراء "الخط الأزرق" في
اتجاه عمق جنوب سوريا، مع إقامة نقاط مراقبة وحواجز ومرابض دائمة تحولت سريعًا إلى
قواعد عسكرية على أرضِ كانت تُعدّ منطقة فصل. زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو إلى مواقع السيطرة الميدانية في نوفمبر 2025 أبرزت هذا البُعد
السياسي لمشروع الاحتلال الجديد، في حين أكّد قادة إسرائيليون أن الوجود على الأرض
له أهمية بالغة وإن بقاء القوات مرتبط بترتيبات أمنية مستقبلية تُراعي مصالح تل
أبيب.
في الممارسة التنفيذية، لم
يقتصر التمدّد على نقاط مراقبة فقط، بل شمل اقتحامات ميدانية لقرى محدّدة في ريف
القنيطرة وريف درعا، مثل بيت جن وسعيدة الحانوت وبِر عَجم والحميدية، ترافقها ضربات
جوية ومدفعية وحملات تفتيش واعتقالات واستحداث حواجز مؤقتة تحوّلت سريعًا إلى نقاط
سيطرة أطول أمدًا، العملية التي نفّذتها إسرائيل في بيت جن في 28 نوفمبر 2025 وما
تبعه من قصف أظهر أن أهداف الضربات والإنزال لا تقف عند مستوى ملاحقة عناصرٍ
مُدانةٍ وفق الرواية الإسرائيلية، بل تمهّد لإرساء واقع سيطرة ميدانيّة أوسع أثّر
على حياة الأهالي وحرّك موجات نزوح محلية.
|
|
المستقبل السوري لن يُكتب بالمعارك التقليدية فقط، بل بكيفية بناء مؤسسات
قادرة على الصمود، وتحويل الهشاشة إلى قاعدة لإعادة ترتيب القوة الداخلية. |
وبينما تسوّغ تل أبيب ما
تفعله بحجج أمنية، استُخدمت قضية الطائفة الدرزية كأحد المبرّرات العلنية؛ وقد
شهدنا تجنّداً واختلاف مواقف داخل المجتمع الدرزي بين فِرقٍ ترى في إسرائيل ضامنًا
لأمنها وفرقٍ أخرى تتمايز سياسيًا عن ذلك، وبالتوازي أشار مسؤولون إسرائيليون إلى
أن حماية الدروز عنصرًا في حساباتهم الاستراتيجية لهذا التدخل الحادث في الجنوب
السوري. هذه الحيثية الطائفية تضيف بعدًا طبقيًا وسياسيًا إلى التوغلات: فالضغوط
على القرى المختلطة والدرزية وتقطيع أوصالها تُستغل لإضعاف الروابط المحلية
وتحويلها إلى مساحات نفوذ قابلة للاستثمار الأمني والسياسي.
هشاشة الدولة
غنيمة حرب
في النظرية الأمنية
الإسرائيلية منذ بن غوريون وحتى نتنياهو، لم يكن المطلوب فقط تحييد الجيش السوري،
بل كسر قدرة دمشق على العودة كفاعل مركزي يمكنه إعادة بناء جيش نظامي يتبنى عقيدة
صدامية مع إسرائيل، ولا شك أن انهيار الدولة المركزية في عهد بشار الأسد ثم
الانتقال إلى مرحلة سلطة انتقالية جديدة غير مستقرة بعد سقوطه وهروبه خارج البلاد،
قد خلق بيئة مثالية لواحدة من أكثر استراتيجيات تل أبيب رسوخًا: تحويل خصومها
إلى كيانات غير قادرة على اتخاذ القرار السيادي. فالحرب بالنسبة لإسرائيل ليست
حدثًا عسكريًا ينتهي بتوقيع اتفاق، بل ديناميكية طويلة الأمد تنتج كيانات هشّة يسهل
التحكم بمساراتها.
كان اتفاق فض الاشتباك
1974 مبنيًا على معادلة بسيطة: دولة مقابل دولة، وحدود مقابل اعتراف بميزان الردع.
لكن ما جرى بعد سقوط النظام السوري كسر هذه المعادلة؛ لأنه ـ وفق التصريحات الرسمية
الإسرائيلية ـ لم تعد هناك دولة يمكن التفاوض معها أو محاسبتها. في هذا المشهد،
تتبنى إسرائيل هنا مقاربة ليست جديدة؛ فهي امتداد لما استخدمته تل أبيب في جنوب
لبنان، ثم في غزة في عقود سابقة: خلق فضاء حدودي غير مستقر بما يكفي لعدم نشوء قوة
منظمة، أو حتى فضاءً مستقرًا بما يكفي لخدمة الأمن الإسرائيلي. إنها معادلة نزع
الشرعية عن الدولة، ثم إحلال شرعية القوة مكانها.
وفي هذا السياق، لم يُعدّ
الجنوب السوري فراغًا أمنيًا كما تسوّقه الرواية الإسرائيلية، بل فراغًا سياديًا
تستثمره تل أبيب لإعادة صياغة البيئة الحدودية، بحيث لا تعود أي سلطة قادمة ـ مهما
كانت هويتها ـ قادرة على فرض واقع يعاكس المشروع الإسرائيلي. بمعنى آخر: تريد
إسرائيل أن تهزم مستقبل سوريا قبل أن تنهزم حاضِرها، وبالتالي أصبحت التوغلات
الإسرائيلية منتجًا سياسيًا يتم استثماره على ثلاث مسارات:
* غنيمة أمنية: تفكيك
منظومة صواريخ ودفاعات وبنى لوجستية سورية، ومن ثمَّ منع تشكل قوة مركزية.
* غنيمة سياسية: تصوير
إسرائيل كقوة استقرار أمام الغرب، لا سيما في ظل معاناة دول الشرق الأوسط من مشاكل
أمنية متواترة.
* غنيمة جغرافية: فواصل
حدودية جديدة ترسمها الجرافات لا الخرائط، مع التحكم بالعقدة الجغرافية الأهم في
الجنوب السوري دون الحاجة لضم رسمي.
إن أخطر ما في المشهد ليس
السيطرة العسكرية في حد ذاتها، بل إعادة هندسة الإدراك: مستقبل الجنوب السوري يُكتب
اليوم بمنطق "مَن يسيطر يقرر"، وصياغة واقع حدودي جديد ـ ولو دون إعلان رسمي ـ يعني
أن أي دولة سورية قادمة ستبدأ مفاوضاتها مع إسرائيل من خط جديد، لا علاقة له بخريطة
1974. هذا جوهر فكرة "غنيمة الحرب"؛ ليس الاستيلاء على الأرض، بل الاستيلاء على
موقع التفاوض القادم. فإسرائيل لا تحتاج إعلان ضم رسمي؛ يكفي أن يصبح الوجود على
الأرض أمرًا طبيعيًا، وأن تتحول الاعتراضات الدولية إلى مجرد حديث بلا أدوات.
الخيارات
السوريّة
في الواقع السوري الراهن،
لا يمكن الحديث عن جيش مركزي يخوض حربًا نظامية، ولا عن مؤسسات دبلوماسية قادرة على
فرض شروط، وبالتالي فإن الخيارات الواقعية تنبع من هندسة النفوذ، وليس من استعادة
الأرض بالبيانات أو الاحتجاجات الدولية، إذن ما هي الخيارات الممكنة أمام السوريين؟
1- الردع عبر الوكلاء، لا
عبر الجيش:
إسرائيل تعرف أن التدخل
العسكري المباشر في ملعب مفتوح يخلق بالضرورة خصمًا غير مرسوم، لا يحمل شارة جيش
ولا يُوقّع اتفاقات. لذلك قد يكون المسار الواقعي لدمشق هو تحويل الجنوب السوري إلى
ساحة كلفة للمحتل، لا إلى ساحة استباحة. ليست مقاومة كلاسيكية كتجربة السبعينات
والثمانينات، بل شبكات ردع غير نظامي قادرة على عرقلة التمدد، تهديد خطوط الإمداد،
والتشويش على الاستقرار الأمني الإسرائيلي في الجولان دون رفع أعلام أو إعلان
جبهات. إسرائيل تخشى المعارك غير المحددة أكثر مما تخشى حربًا لها بداية ونهاية،
وبالتالي لن يستعيد السوريون أرضهم لأنهم يطالبون بها، بل حين تصبح كلفة احتفاظ
إسرائيل بها أثقل من كلفة مغادرتها.
2- استثمار التناقضات، لا
مواجهة الجميع:
في منطقة تتقاطع فيها
مصالح: أمريكا، روسيا، تركيا، إيران، الخليج، والأردن، يصبح الذكاء السياسي أهم من
القوة العسكرية. الخيارات الواقعية لا تقوم على استعداء الجميع بل على رصّ مساحات
مشتركة مع بعض القوى الإقليمية التي ترى ـ ولو ضمنيًا ـ أن التمدد الإسرائيلي يمسّ
نفوذها أو حدودها أو مصالحها أو أوراقها في المساومات الكبرى، أي أن دمشق لا تحتاج
إلى حلفاء عاديين، بل إلى شركاء براغماتيين ترتبط مصلحتهم بوجود حدود سورية لا
تتحول إلى قاعدة مفتوحة لإسرائيل.
3- بناء دولة لا تستعيد
الأرض فورًا، بل تجعل خسارتها مستحيلة:
قد تكون المفارقة هنا أن
أكبر تهديد لإسرائيل ليس صاروخًا من الجنوب، بل مؤسسات من دمشق. الدولة المركزية
المستقرة ولو ببطء تعني عودة قوانين، إدارة موارد، مؤسسات مالية، جيش مهني، علاقات
اقتصادية إقليمية. إسرائيل تدرك أن الدولة خطر استراتيجي دائم، أما الميليشيات فهي
خطر تكتيكي يمكن إدارته. وبالتالي، استعادة الدولة أولًا هو فعل مقاومة، حتى من غير
إطلاق رصاصة.
أفق المواجهة
مع كل هذا التدخل
الإسرائيلي، تبدو سوريا اليوم في مفترق طرق حاسم: ليس الجنوب فقط ميدانًا للصراع،
بل كل الأراضي السورية أصبحت خاضعة لتوازنات جديدة بين القوى الإقليمية والدولية،
وبين هشاشة الدولة وصعود نفوذ الاحتلال.
المستقبل السوري لن يُكتب بالمعارك التقليدية فقط، بل بكيفية بناء مؤسسات قادرة على
الصمود، وتحويل الهشاشة إلى قاعدة لإعادة ترتيب القوة الداخلية. الدولة السورية الجديدة
لا يمكن أن تنتظر استعادة أراضٍ بالقوة، بل عبر استثمار ما تبقى من نفوذ سياسي
وعسكري وإداري لإجبار أي طرف على الاعتراف بسيادتها، ولو بشكل تدريجي ومقيد، مع
تطوير قدرات الردع غير التقليدية لتجنب الانزلاق إلى استباحة مفتوحة للأراضي.
إن المشهد السوري بعد سقوط
النظام السابق يعكس معركة طويلة المدى بين منطق القوة والشرعية. إسرائيل ستظل تسعى
لإعادة رسم الخرائط، لكن ما سيحسم المشهد هو قدرة الدولة السورية على ترجمة هشاشتها
الحالية إلى قوة استراتيجية، ليس فقط من خلال استعادة السيطرة الميدانية، بل عبر
إعادة تشكيل سيادتها في عقول الناس والمجتمع الدولي والإقليمي. المستقبل لن يكون
سهلاً، لكنه قائم على مزيج من الصبر الاستراتيجي، والحكمة السياسية، والردع الذكي.