• - الموافق2025/10/10م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
اتفاق غزة.. الصمود أطول عمرا من البندقية؟

صمود مقاومة غزّة، المحاصرة منذ 19 عامًا، كسر وهم التفوّق الإسرائيلي–الأمريكي وأجبرهما على التفاوض تحت وطأة العجز، معلنًا ميلاد معادلة ردعٍ تُقاس بالإرادة والوعي لا بفوّهة البندقية، ومزلزلًا ركائز الهيمنة الدولية.


قبل أن تُفتح دفاتر البنود، وقبل أن تُوزَّع شهادات البراءة أو الاتهام على طاولة التحليل السياسي، يجب أن نستعيد تلك الحقيقة التي تتوارى خلف ضجيج البيانات:

أن هذه المقاومة لم تقاتل إسرائيل وحدها.

لقد واجهت منظومةً كونيةً بأكملها، اصطفت فيها القوى الكبرى والإقليمية والإعلام العالمي، حتى تحوّل الميدان الصغير المحاصر إلى مرآة تعكس إرادة الأمة بأسرها.

مقاومة في مواجهة النظام الدولي

منذ تسعة عشر عامًا، وقطاعٌ ضيّق من الأرض يُحاصَر بالأسلاك والنار. حُوصرت فيه لقمة العيش وقطرة الدواء، لكن لم تُحاصَر فيه الكرامة.

ومنذ انطلاقتها، والمقاومة تُطارَد وتُغلق في وجهها المنافذ، ويُجفَّف عنها المورد، وتُحاصر الكلمة كما تُحاصر البندقية.

ومع ذلك، حين دوّى الرصاص وحين انكشفت الأقنعة، لم تتراجع. قاتلت سنتين متواصلتين بلا إمداد، ولا حليف صادق، ولا ظهرٍ آمن.

قاتلت وحدها، لكنها لم تسقط، ولهذا بالذات جلست إسرائيل وأمريكا اليوم إلى الطاولة، لا لأنهما رغبتا في السلام، بل لأنهما عجزتا عن الحسم.

التفاوض بعد الفشل لا بعد النصر

حين تُجبَر قوةٌ طالما ادّعت تفوقها المطلق على التفاوض مع خصمٍ أرادت محوه من الوجود، فذلك ليس سلامًا، بل اعترافٌ صامتٌ بالهزيمة.

جلوس أمريكا وإسرائيل اليوم إلى الطاولة ليس مكافأة للمقاومة، بل إعلانٌ غير مكتوب بأن آلة الحرب وصلت إلى سقفها، وأن الزمن لم يعد يعمل لصالحها.

فمن كان يظن أن الحركة التي حُوصرت في شريطٍ من بحرٍ مغلق، ستجعل القوى العظمى تعيد حساباتها في الشرق الأوسط كله؟

بين البنود والمعاني

سيتسابق كثيرون لقراءة بنود الاتفاق، وسيبحثون عن الثغرات أو الانتصارات على الورق.

لكن قبل أن نحاكم البنود، لنسأل: من الذي أجبر العالم على الاعتراف بخصمه؟

الاتفاقات ليست أوراقًا تُقاس بالحروف، بل دماءً تُقاس بالصمود.

ومن يقرأ التاريخ يدرك أن كل بندٍ وُقّع تحت النار هو في جوهره ترجمة لميزان القوة، لا لموازين السياسة.

اللغة الجديدة للردع

ما فرضته المقاومة في الميدان لم يكن فقط تغييرًا في موازين القوة العسكرية، بل ولادة لغة جديدة في الردع.

لغةٌ تقول إن الإرادة المؤمنة قد تُحاصَر، لكنها لا تُهزَم، وإن السلاح قد يَصدأ، لكن العقيدة لا تُهزم أمام الحصار.

لقد أدركت القوى الكبرى أن المعادلة لم تعد كما كانت:

من يملك السماء لا يملك الأرض، ومن يملك السلاح لا يملك الإنسان.

الثبات الذي غيّر معادلة العالم

لقد وُلدت هذه المقاومة في زمنٍ عربيٍّ هشّ، وسياقٍ دوليٍّ مختلّ، لكنها حملت مشروعًا لا يُقاس بالحسابات.

منذ انطلاقتها وهي تُطارد، تُشَوَّه، تُصنَّف، لكنها ما تراجعت عن أصل القضية: أن فلسطين ليست للبيع، وأن الكرامة لا تُقايض بالسلام.

وحين استمرّت سنتين في القتال دون إمداد ولا منفذ ولا ظهير، كانت ترسم من لحمها الحي خريطةً جديدة للوعي العربي والإسلامي:

أن المقاومة ليست خيارًا طارئًا، بل فطرةُ الشعوب حين تُخنَق بالحصار.

خاتمة: ما بعد البنود

قبل أن نقرأ أي بند، علينا أن نتذكّر أن هذه البنود وُلدت على أنقاض مشروعٍ كان يُراد له أن يُمحى.

تذكّروا أن الذين يجلسون اليوم ليُفاوضوا المقاومة هم أنفسهم الذين أقسموا يومًا أن يمحوها من الخارطة السياسية والعسكرية.

تذكّروا أن التاريخ لا يُكتب بما كُتب على الورق، بل بما سُطّر على الأرض.

تذكّروا أن هذه الثلّة القليلة، المحاصرة منذ تسعة عشر عامًا، قد أجبرت العالم على التحدث بلغتها، لا بلغة الدبابات.

فما بعد هذا الصمود، لا تُقاس البنود بالأسطر، بل بالمعاني التي فُرضت على العالَم فرضًا.

وما بعد هذه الحرب، لن تكون المنطقة كما كان قبلها.

الدلالات الاستراتيجية: حين تهتز ركائز القوة العالمية

ما يجري اليوم ليس اتفاقًا عابرًا، بل اهتزازٌ في البنية العميقة للنظام الدولي.

لقد أدركت واشنطن وتل أبيب، ومعهما العواصم الغربية، أن نموذج الهيمنة العسكرية المطلقة لم يعد كافيًا لحسم المعارك.

فثمة قوى جديدة تولد من قلب الحصار، لا من رحم التحالفات، وقيم جديدة تتشكل في الوعي الجمعي للأمة.

إن هذا الاتفاق مهما كانت بنوده يرمز إلى لحظة نادرة في التاريخ الحديث: لحظةٍ تفاوض فيها القوى الكبرى تحت وطأة العجز، وتكتب فيها الشعوب معادلتها بدمائها لا بقرارات مجلس الأمن.

ولعلّ أخطر ما في المشهد ليس ما تحقق عسكريًّا، بل ما يتغيّر نفسيًّا:

فقد كُسر حاجز الخوف، وتحوّل الحصار إلى مدرسةٍ لتوليد القوة، وأصبحت المقاومة بما تمثل من فكرةٍ ومثال قوةً أخلاقيةً تهدد سردية الغرب عن نفسه.

فإذا كان ميزان القوة هو الذي فرض التفاوض، فإن ميزان الوعي هو الذي سيحكم ما بعد التفاوض.

ومن هنا تبدأ الحكاية الجديدة حكاية أمةٍ تعلمت أن الصمود أطول عمرًا من البنادق

أعلى