من الناحية الجغرافية، أفغانستان تقع في موقع محوري بين آسيا الوسطى، باكستان، إيران، والصين، مما يجعل القاعدة مفيدة أيضاً كموقع استشعاري لمتابعة تطورات أمنية في هذه المناطق.
في الحادي والعشرين من سبتمبر 2025، فجّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جدلاً
واسعاً حين لوّح بوقوع "أمور سيئة" إذا لم تُعد طالبان قاعدة باجرام الجوية إلى
السيطرة الأمريكية. هذه القاعدة التي كانت لسنوات مركز العمليات العسكرية
والاستخباراتية في أفغانستان، قبل أن تُسحب منها القوات الأمريكية في 2021 ضمن
الانسحاب الذي قاده جو بايدن.
لكن السؤال الجوهري: هل تقتصر رغبة ترامب في استعادة القاعدة على محاربة الإرهاب
كما يصرّح، أم أن الأمر يتجاوز ذلك ليصل إلى موازين القوى الإقليمية والدولية، حيث
تتحول باجرام إلى حجر في رقعة شطرنج أوسع؟
باجرام.. موقع صغير في قلب لعبة كبرى
باجرام ليست مجرد مدرجات للطائرات أو مخازن عتاد عسكري، بل موقع استراتيجي يمنح
واشنطن قدرة على الإطلالة المباشرة على الصين وإيران وباكستان. ومن هناك، تستطيع
الولايات المتحدة ممارسة ضغط عسكري واستخباراتي على جيران أفغانستان، ورسم حدود
النفوذ في آسيا الوسطى.
قاعدة باجرام ظلت لسنوات مركز العمليات الأمريكية في أفغانستان، واستُخدمت كمقر
لوجستي وإجراءات استخباراتية واسعة وعمليات مكافحة إرهاب. وفي 2021، سحبت الولايات
المتحدة قواتها من باجرام ضمن الانسحاب الكامل، وتولت طالبان السيطرة على القاعدة
بعد ذلك.
حينما يتحدث ترامب عن إعادة السيطرة على باجرام، يبدو الأمر في الوهلة الأولى
تكراراً لخطاب "محاربة الإرهاب"، خاصة مع إشارته إلى تهديدات مثل "داعش-خراسان".
لكن السياسة الدولية لا تقرأ من ظاهر الكلام وحده، بل من خرائط المصالح وموازين
القوى. باجرام ليست مجرد قاعدة جوية، بل موقع استراتيجي يمنح الولايات المتحدة
إطلالة مباشرة على باكستان وإيران والصين.
ومن هناك، يمكن للقوات الأمريكية الضغط على جيران أفغانستان الكبار، ومراقبة
تحركاتهم العسكرية والاقتصادية.
ثمة جملة من الأهداف والدوافع المحتملة وراء رغبة ترامب في استعادة "باجرام"
1. الصين تحت المجهر
من التصريحات التي أدلى بها ترامب أن موقع باجرام قريب نسبياً من بعض المواقع
الاستراتيجية الصينية، بما في ذلك ما وصفه بأنها مواقع تصنيع الأسلحة النووية في
شينجيانغ.
وجود القاعدة يمكن أن يمنح الولايات المتحدة قدرات أكبر في جمع المعلومات
الاستخباراتية والمراقبة على نشاطات بكين، خصوصاً في المناطق التي تمثلها كمراكز
تطوير عسكري أو نووي. إذ تقع على بعد ساعة جوية واحدة فقط من مواقع إنتاج الأسلحة
النووية والصواريخ الصينية في إقليم شينجيانغ. يرى ترامب في ذلك فرصة لتعزيز الرصد
والمراقبة على النشاط النووي الصيني، مما يعزز القدرات الأمريكية في مواجهة المنافس
الرئيسي.
|
تمتلك باكستان ترسانة نووية عسكرية، مما يجعلها محور اهتمام أمريكي
وإسرائيلي مشترك. الغرب يخشى انفلات هذه الترسانة في حال اضطراب داخلي،
بينما ترى إسرائيل فيها تهديداً وجودياً، رغم البعد الجغرافي |
تدخل الصين في الصورة من خلال محورها الاقتصادي مع باكستان، عبر الممر الاقتصادي
الصيني-الباكستاني، الذي يشكل جزءاً من مشروع "الحزام والطريق". العودة الأمريكية
إلى باجرام ستمنح واشنطن ورقة ضغط استراتيجية على هذا الممر الحيوي، مما يعيق
الطموحات الصينية في المنطقة. هكذا، يصبح باجرام جزءاً من لعبة التوازن بين القوى
العظمى، حيث يسعى ترامب إلى ردع بكين من خلال هذا الوجود العسكري.
كما يأتي الطلب الأمريكي أيضا في سياق محاولة كبح النفوذ الصيني المتزايد في
أفغانستان، حيث سعت الصين لمد جسور من التعاون مع حكومة طالبان في الفترة الأخيرة
وهذا ما لا ترغب به الولايات المتحدة.
2. استعادة الرمزية والهيبة الأمريكية
فقدان القاعدة في 2021 يُنظر إليه من قبل ترامب وداعميه كخطأ استراتيجي ومهني،
ورغبتهم في استعادتها جزء من محاولة لإبراز أن الولايات المتحدة
“لا
تتراجع”
وأنها مستعدة لاستعادة مواقع تخلى عنها سابقاً.
أيضاً، استعادة القاعدة يمكن أن تُستخدم كإشارة للخصوم (وللحلفاء) على أن هناك
تغيّراً في السياسة الأمريكية يقود إلى مزيد من التدخّل والنفوذ في آسيا الوسطى
وجنوب آسيا.
انتقاد إرث بايدن: يستخدم ترامب هذا الطلب لمهاجمة الانسحاب "الفوضوي" الذي قاده
الرئيس جو بايدن في 2021، واصفاً إياه بـ"كارثة كاملة" و"غباء فظيع"، حيث تركت
الولايات المتحدة القاعدة "لشيء لا شيء". يهدف ذلك إلى تعزيز صورته كقائد قوي يعيد
"الكرامة والقوة" لأمريكا.
باجرام توفر بنية تحتية ضخمة: مدارج طويلة، مرافق لوجستية متقدمة، القدرة على
استيعاب طائرات نقل كبيرة وطائرات عسكرية ثقيلة. ذلك يسمح بتشغيل سريع وفعّال لمهام
مكافحة الإرهاب، خاصة ضد جماعات مثل تنظيم الدولة أو تنظيمات إرهابية تنشط في
أفغانستان أو المناطق المجاورة.
يمكن أن تُستخدم القاعدة كنقطة انطلاق لعمليات استخباراتية أو تدخلية سريعة إذا
تطلّبت الحاجة ذلك.
3. الضغط الدبلوماسي والمفاوضات مع طالبان
في التصريحات ورد أن ترامب يرى أن طالبان قد
“تحتاج
أشياء من الولايات المتحدة”
مما يشير إلى أن واشنطن على استعداد لإجراء صفقة مع طالبان في مقابل العودة إلى
باجرام أو حقوق أو تسهيلات دبلوماسية إذا قبلت طالبان.
فالقاعدة يمكن أن تُستخدم كورقة تفاوض إذا تم ربطها بإعطاء مساعدات اقتصادية أو
اعتراف دبلوماسي أو الإفراج عن أصول أو غيرها من الحوافز التي تحتاجها الحكومة
الأفغانية أو طالبان.
يشير ترامب إلى أن الطالبان تواجه أزمات اقتصادية حادة، وأنها "تحتاج أشياء منا"،
مما يجعلها عرضة للتفاوض. يهدف إلى استخدام المساعدات الاقتصادية أو الضغوط
الدبلوماسية لفرض الشروط، مع التلميح إلى أن الطالبان قد تكون مستعدة للتنازل مقابل
دعم أمريكي.
كما أن استعادة القاعدة بساعد في الوصول إلى موارد نادرة مثل المعادن الأرضية
النادرة في أفغانستان، التي تهم الصناعات العسكرية الأمريكية.
4. باكستان حاضرة في المشهد
من الناحية الجغرافية، أفغانستان تقع في موقع محوري بين آسيا الوسطى، باكستان،
إيران، والصين، مما يجعل القاعدة مفيدة أيضاً كموقع استشعاري لمتابعة تطورات أمنية
في هذه المناطق.
قد تُستخدم القاعدة لضمان بقاء الولايات المتحدة قادرة على التأثير في التوازنات
الإقليمية وإظهار القدرة على التدخّل أو الرد في حال ظهور تهديدات محتملة من جماعات
مسلحة، أو من دول منافسة.
ويبرز النووي الباكستاني كعنصر رئيسي في هذا السياق.
تمتلك باكستان ترسانة نووية عسكرية، مما يجعلها محور اهتمام أمريكي وإسرائيلي
مشترك. الغرب يخشى انفلات هذه الترسانة في حال اضطراب داخلي، بينما ترى إسرائيل
فيها تهديداً وجودياً، رغم البعد الجغرافي.
كما أن باكستان لم تعترف بإسرائيل، وتدعم تيارات شعبية دينية معادية لتل أبيب.
العودة إلى باجرام ستسمح للولايات المتحدة بمراقبة أقرب لهذه الترسانة، مما يعزز
الضغط على إسلام آباد. في هذا الصدد، يرى مراقبون أن ترامب يستخدم القاعدة كأداة
للردع، خاصة مع تصعيد التوترات الإقليمية.
وقد يبدو الربط بين باجرام وإسرائيل بعيداً، لكنه حاضر في العقل الاستراتيجي
الغربي. أي وجود أمريكي قرب باكستان يمنح تل أبيب شعوراً بالاطمئنان، أو على الأقل
مساحة للمراقبة غير المباشرة. هذا التقاطع يعكس كيف تتشابك مصالح القوى الكبرى في
منطقة واحدة، حيث يمكن لباجرام أن تكون أداة لتحويل ملف النووي الباكستاني إلى قضية
أمنية دولية، مع الاعتماد على واشنطن للمراقبة والردع.
الخلاصة في المجمل، يجمع طلب ترامب بين أهداف عسكرية فورية لمواجهة الصين وأهداف
سياسية طويلة الأمد لتصحيح "الأخطاء" السابقة، مع الاستفادة من ضعف الطالبان والضغط
عليها، احتواء باكستان ومراقبة ترسانتها النووية، وضمان أن تظل أمريكا قادرة على
التحرك بسرعة إن تطلّب الأمر ذلك في جنوب ووسط آسيا.