هل تنجح تركيا في حرب الظل على النفوذ الإقليمي عبر مزج القوة العسكرية والمسيرات والدبلوماسية المتوازنة والتمدد الاقتصادي، لترسيخ هيمنتها رغم الضغوط الدولية والتحالفات المضادة والأزمة الاقتصادية؟
هناك حرب تجري في الظل بعيدًا عن الأضواء الإعلامية، تتناطح فيها قوى إقليمية
وتتنافس فيها على الزعامة.
تطمح هذه الدول في ملء الفراغ الذي خلفته الحرب الإيرانية الصهيونية القصيرة، والتي
أسفرت عن خروج إيران وأذرعها من سباق التنافس على الهيمنة في المنطقة ولو حتى حين،
ليتبقى بشكل رئيسي لاعبان فقط: الكيان الصهيوني وتركيا.
إلا أن الصراع بين الأتراك والصهاينة لم يصل بعد إلى مستوى الحرب العسكرية
المباشرة، بل اتخذ أنماطا أخرى من المواجهة، حيث يتنافس الطرفان في الاستحواذ على
أدوات القوة، وعلى التمدد الجغرافي والتحكم فيه.
كما أنه يجري في الظل والخفاء بدون إعلان، ولذلك يمكن أن نطلق على هذا الصراع حرب
الظل.
فما هي أهداف كل طرف، وما هي أدوات القوة التي تتسابق الدولتان في الاستحواذ عليها،
وما هي الأوراق التي يملكها كل منهما، وأخيرا ما هو مستقبل هذا الصراع؟
وسنقتصر في هذا المقال على الطرف التركي.
الصراع الإقليمي في علم السياسة
يشير مصطلح "التنافس الإقليمي" نظريًا في علم السياسة، وتحديداً في حقل العلاقات
الدولية، إلى حالة من الصراع أو التنافس المستمر والمكثف بين دولتين أو أكثر داخل
منطقة جغرافية محددة. لا يشترط أن يصل هذا التنافس إلى مرحلة الحرب المباشرة، بل
غالبًا ما يتجسد في صراع على النفوذ والقوة.
وتركز النظرية البنائية في علم السياسة، على أن التنافس الإقليمي هو بناء اجتماعي،
يتشكل التنافس فيه بناءً على هوية الدولتين، فالعدو يتم تحديده وتشكيله عبر الخطاب
السياسي، والذاكرة التاريخية المشتركة المتضاربة، والأيديولوجيا.
أما خصائص الصراع الاقليمي، فهو نمط مستدام ومستمر من العلاقات العدائية والموجهة
نحو تحقيق الهيمنة الإقليمية أو منع الهيمنة، حيث ترى كل دولة متنافسة أن أمنها
ومصالحها العليا مهددة أو مقيدة بوجود ونجاح الدولة الأخرى.
ويرى علم العلاقات الدولية، أن التنافس الإقليمي يتمحور حول عدة أهداف، أبرزها:
١-تعظيم
القوة والنفوذ.
٢-السيطرة
على الموارد الاستراتيجية: مثل الطاقة (الغاز والنفط) وطرق التجارة والممرات
المائية الحيوية.
٣-الأمن
القومي: محاولة تطويق التهديدات المتصورة الصادرة من الطرف المنافس أو تفكيك
تحالفاته.
ولكن ما مجالات التنافس بين القوى الإقليمية؟
يتجلى التنافس الإقليمي في عدة مجالات، مما يجعله ظاهرة متعددة الأبعاد وغير محصورة
في المجال الأمني فقط.
أولا، البُعد الأمني والاستراتيجي هو الأكثر وضوحا، ويتضمن آليات مثل سباق التسلح
بين الدول المتنافسة، والتوغلات العسكرية المباشرة أو نشر القواعد، وأيضا دعم
الوكلاء (الجهات الفاعلة غير الحكومية) في صراعات الدول الأخرى.
ثانيا، يُعدّ البعد الجغرافي السياسي مهما جدا، حيث يسعى المتنافسون للسيطرة على
مناطق النفوذ الحيوية، وحسم قضايا مثل ترسيم الحدود البحرية المتصلة بموارد الطاقة،
وبناء التحالفات العسكرية والدبلوماسية لمواجهة تحالفات الطرف الآخر.
ثالثا، لا يمكن إغفال بعد الاقتصاد والطاقة، المنافسة على الأسواق التجارية ومشاريع
خطوط أنابيب الطاقة تشكل أداة للتأثير الإقليمي، حيث يسعى كل طرف لكي يكون مركزا
إقليميا للطاقة على حساب المنافس.
وأخيرا، يبرز بعد الأيديولوجيا والقوة الناعمة، حيث يتم التنافس عبر النماذج
السياسية المختلفة، واستخدام الدعاية الإعلامية والدعم المالي والفكري لتيارات
سياسية معينة في دول المنطقة، لكسب ولاء ونفوذ غير مباشر.
والآن نحاول تطبيق تلك المحاور على الجانب التركي في هذا الصراع.
هدف تركيا
منذ مجيء أردوغان وحزبه لسدة الحكم التركي، فإن نظرتهم لدولة المستقبل عبارة عن
مزيج من الطموح الإمبراطوري الأيديولوجي، المُشار إليه بالعثمانية الجديدة، وبين
البراجماتية لترسيخ مكانة تركيا كقوة إقليمية كبرى ذات نفوذ عالمي. هذا المزيج يطلق
عليه بعض المحللين (الطريق التركي الخاص).
يقول أردوغان: "من يظنون أننا محونا من قلوبنا الأراضي التي انسحبنا منها باكين قبل
مئة عام مخطئون. نقول لهم في كل فرصة تتاح لنا سواء في سوريا أو العراق أو الأماكن
الجغرافية الأخرى، فكل ذلك موجودة في قلوبنا، ونعتبرها لا تختلف عن وطننا."
ولكن ماذا فعلت تركيا لتحقيق هذا الهدف؟
تعتمد استراتيجية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحقيق أهدافه الطموحة سواء
اعتبرناها العثمانية الجديدة، أو ترسيخ تركيا كقوة إقليمية ذات تأثير عالمي، على
مزيج من أدوات ثلاثة: العسكرية، والاقتصادية، والدبلوماسية. وتطلق مراكز الأبحاث
عليها استراتيجية التنقل الاستراتيجي، أو تعدد المحاور.
بالنسبة للأدوات العسكرية، يشير تحليل صادر عن مركز أبحاث مجلس العلاقات الخارجية
الأوروبي في أكتوبر 2020، إلى أن تركيا، تحت قيادة أردوغان، استخدمت القوة كوسيلة
دبلوماسية أولى، فقد استخدمت الطائرات المسيرة، والتدخلات المباشرة في سوريا وليبيا
كدليل على القوة.
ويصف التقرير هذه التدخلات بأنها تهدف إلى إيجاد حقائق جديدة على الأرض، لتعزيز
النفوذ التركي في مناطق تعتبرها أنقرة جزءًا من أمنها القومي أو عمقها الاستراتيجي.
كما أن تركيز تركيا على التصنيع العسكري لم يعد مقتصرًا على الطائرات المسيرة، بل
اتجه نحو بناء قدرات استراتيجية متقدمة، وفي مقدمتها الطائرات المقاتلة من الجيل
الخامس (الشبحية).
ويشير معهد هيرتيدج الأمريكي في تقرير له صدر في 2024، أن هذا التركيز على
المقاتلات المتقدمة يهدف إلى ضمان استقلالية تركيا الاستراتيجية المطلقة في المجال
الجوي، خصوصاً بعد استبعادها من برنامج الطائرة الأمريكية
F-35، مما
يجعل تركيا قوة لا يمكن تجاهلها في أي ترتيبات أمنية مستقبلية بالمنطقة، وفق المركز
الأمريكي.
أما الأداة الثانية في تعزيز الدور التركي في المنطقة، فهي ما يطلق عليها
الدبلوماسية متعددة المحاور وإدارة التناقضات.
فتركيا تعتمد على استراتيجية لا ترتهن لتحالف واحد، بل تعمل على الموازنة بين القوى
العظمى والمنافسين الإقليميين.
فمثلا في الموازنة بين الشرق والغرب، يرى تقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي للسلام
الدولي في يناير 2023 أن استراتيجية أردوغان تقوم على تجنب الانحياز الأعمى لأي
كتلة، واستغلال موقع تركيا الجيوسياسي بين الغرب وروسيا وشرق آسيا.
ويشير التقرير إلى أن شراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية
S-400 عام
2019 رغم اعتراضات الناتو، وفي الوقت نفسه تزويد أوكرانيا بطائرات بيرقدار، هو مثال
صارخ على هذه الاستراتيجية التي تهدف إلى تعظيم الاستقلالية الاستراتيجية للأتراك.
أما بالنسبة للإقليم، فقد اعتمدت تركيا على سياسة تصفير المشاكل مع المنافسين
الإقليميين، ومنذ عام 2021، اتجهت تركيا نحو المصالحة مع دول المنطقة. ويشير تقرير
صادر عن معهد الشرق الأوسط في واشنطن في 2022 إلى أن هدف هذه الخطوة هو تخفيف
الضغوط الاقتصادية، والعزلة الإقليمية التي تراكمت بسبب السياسات السابقة، ما يضمن
بيئة إقليمية أكثر استقراراً لمصالح تركيا الاقتصادية.
وأخيرا نجيء للأداة الثالثة التركية في التمدد الاستراتيجي وهو الاقتصاد
والاستثمار.
فقد دأب الأتراك على
استخدام
الاقتصاد كأداة ناعمة في استراتيجيتها.
ومن
أمثلة ذلك، ما يجري في شرق البحر المتوسط وتكثيف عمليات البحث عن الغاز الطبيعي،
وتوقيع الاتفاقيات البحرية، مثل اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا في 2019.
ويمكن اعتبار أن تركيا تريد تحويل نفسها إلى مركز إقليمي للطاقة.
ويشير تحليل المركز الدولي للطاقة والمناخ الصادر عام 2020، إلى أن هذه الخطوات
تهدف إلى تحدي التحالفات الإقليمية المنافسة، مثل منتدى غاز شرق المتوسط، وتعزيز
القوة التفاوضية لأنقرة.
كما تعمل تركيا على التوسع الاستثماري في أفريقيا والبلقان:
وقد
صرح الرئيس أردوغان في إحدى القمم التركية الأفريقية عام 2021 بأن الهدف هو رفع حجم
التبادل التجاري مع القارة الأفريقية إلى 50 مليار دولار.
ووفق مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في
تقرير له صدر عام 2022، أن تركيا تستخدم التعاون الاقتصادي كشكل من أشكال القوة
الناعمة، والتي تفتح أسواقا جديدة للمنتجات والخدمات التركية، وفي نفس الوقت تبني
شبكة من الاعتماد المتبادل، تعزز النفوذ التركي بعيدا عن التدخل العسكري المباشر.
تحديات التمدد الاستراتيجي التركي
يواجه تمدد تركيا ثلاث تحديات قد تُجبر على إعادة ترتيب الأولويات:
الأول هو الضغوط المالية لتمويل العمليات الخارجية، وهشاشة الاقتصاد بالتضخم
المرتفع وتدهور قيمة الليرة التركية.
أما التحدي الثاني، فيتمثل في التحالفات الإقليمية المضادة، مثل التحالف بين
اليونان، والكيان الصهيوني، وقبرص، الذي يهدف إلى عزل تركيا وتحدي مطالباتها
بالحدود البحرية وموارد الطاقة.
وأخيرا، تحدي القيود الدولية والقوى العظمى، والتي تحاول كبح جماح الأتراك وتحجيم
نفوذهم الاقليمي، مثل
الخلاف
مع الناتو والولايات المتحدة: خاصة بعد شراء منظومة الدفاع الروسية
S-400، فتم
فرض عقوبات على تركيا، وقيود على مبيعات الأسلحة، مثل استبعادها من برنامج
F-35، مما يُعيق قدرتها على
التحديث العسكري.
ولكن بعد ملاحظة الخط البياني لتركيا، منذ استلام أردوغان لحكم في 2002، وحتى 2025،
نجد أن تركيا تحولت بالفعل من دولة منغلقة على نفسها إلى لاعب إقليمي كبير، تحسب له
القوى الدولية والإقليمي ألف حساب.