سافر الشرع إلى الولايات المتحدة الأمريكية بأجندة محملة بكثير من الأهداف، معروف بعضها بالاستقراء وإن كانت غير معلنة، فهل حققت تلك الزيارة الأهداف المرجوة منها، وما هي نتائجها، وما الثمن المدفوع؟ وما أسباب تأخر رفع العقوبات بشكل كامل ونهائي؟
قبل زيارة الرئيس السوري إلى واشنطن
لمقابلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اكتظت الأجواء الإعلامية، بتوقعات محللين،
وامتلأت الصحف والمواقع الإخبارية بتصريحات منسوبة لمسئولين أمريكيين، يعبرون عن
آمال ينتظرونها ويتعاملون معها كأنها حقائق مسلم بها.
بينما في الجانب آخر ونقصد بهم المعسكر
الذي كان متعاطفا أو متحالفا مع الأسد، مستاؤون من سقوط نظامه، يتحدثون عن تطبيع
مرتقب للنظام السوري الجديد، مع الكيان الصهيوني، بل يتحدثون عن موافقة الشرع على
اتفاقية يتم فيها نزع سلاح الجنوب السوري، وذهب البعض إلى أن الشرع سيوقع على تنازل
عن الجولان المحتل، مقابل الانسحاب الصهيوني من الجنوب التي سيطرت عليها قوات
الاحتلال في الجنوب السوري ومن جبل الشيخ، بالإضافة إلى نزع سلاح حزب الله في
لبنان، وأن هناك توقيعًا منتظرًا في البيت الأبيض على هذه المعاهدات والالتزامات.
ولكن بعد انتهاء الزيارة والاجتماع،
تبين أن غالب تلك التوقعات والأمنيات قد ذهبت أدراج الرياح، فلم يتم التنازل عن
الجولان المحتل، ولم يعلن عن التطبيع أو الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، ولا
حتى جرى توقيع اتفاق أمني.
كل ما حدث هو الإعلان الرسمي عن انضمام
سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة داعش، وهذا الأمر كان معروفًا من قبل الزيارة.
والسؤال الآن: هل كان لهذه الزيارة
أهداف لم يتحقق غالبها؟ وما هي الأسباب التي أفشلت تلك الأهداف التي لم تتحقق؟
ولكن في البداية سنتعرف على استراتيجية
الحكم السوري الجديد، وكيف صاغ أولويات الحكم الجديد.
استراتيجية للتعامل مع
الواقع
يمثل صعود الحكومة السورية الجديدة
بقيادة الرئيس أحمد الشرع، عقب سقوط النظام السابق في ديسمبر 2024، تحولا جيوسياسيا
عميقًا في الشرق الأوسط. فقد اضطرت الإدارة الجديدة لتبني استراتيجية كبرى تقوم على
التموضع المتوازن؛ وهي محاولة جريئة لكسر المخاطر التي تحيط بها ومن بينها، العزلة
السياسية والاقتصادية الموروثة، وتمرد الأقليات ورغبتها في الانفصال، وذلك عبر
انفتاح حذر ومُشترط على الولايات المتحدة والغرب، في موازنة بإعادة صياغة العلاقات
مع حلفاء النظام السابق، وصياغة شكل جديد للعلاقة مع روسيا، وعدم الاصطدام بإيران
وذيولها في المنطقة، بالتوازي مع العمل على إعادة فرض السيطرة المركزية وتوحيد
الجغرافية السورية داخلياً.
تعتمد استراتيجية الشرع على تقديم تنازلات أمنية وجيوسياسية للغرب مقابل الدعم
الاقتصادي، مع الالتزام في الوقت ذاته بضمان المصالح الحيوية للحلفاء القدامى
(روسيا) لمنع أي ارتداد عسكري أو أمني،
وكل هذا ينطلق من أولوية توحيد سوريا والقضاء على التمرد الطائفي في شمال غرب سوريا
وفي السويداء.
وتهدف الاستراتيجية السورية كذلك إلى
التخلص من تصنيف سوريا كتهديد أمني، وتحويلها إلى حليف جيوسياسي للقوى الإقليمية
والدولية الفاعلة.
ومن هذه المنطلقات يمكن تصور أهداف
زيارة الرئيس الشرع للبيت الأبيض ولقاءه بترامب.
أهداف زيارة الشرع للبيت
الأبيض
لا يوجد خطاب أو بيان مطبوع مباشر صادر
عن مؤسسة الرئاسة السورية، أو الدائرة القريبة منها توضح بشكل رسمي أهداف زيارة
الرئيس الشرع لأمريكا ولقائه بترامب. ولذلك سنحاول استنباط تلك الأهداف من الكلام
المتناثر، بناء على ما يجري في سوريا الآن، وتحليل الأهداف والاستراتيجيات الكبرى
التي ذكرناها في الفقرة السابقة، وأيضا بربطه ما تريده أمريكا وإدارة ترامب.
ومن خلال ما سبق جاءت الأهداف على
التحول التالي:
1-تخفيف العقوبات
فالضغط من أجل تخفيف العقوبات الدولية
المفروضة على سوريا، وضعه الشرع نصب أعينه منذ تحرير سوريا ودخوله دمشق.
وقد يسأل سائل ألم ترفع العقوبات بعد
عن النظام السوري؟ فمنذ تحرير سوريا ونسمع أنه تم رفع العقوبات عن سوريا، فماذا
يجري بالضبط؟
يجب أن نفهم في البداية عنصرين
أساسيين، أن العقوبات المفروضة على سوريا من أيام الأسد، صارت تستخدم كأداة ضغط
وورقة مساومة من قبل الولايات المتحدة، لتوجيه سلوك النظام السوري الجديد، وجعله
متوافقا مع الأهداف المرجوة منه أمريكيا، وبالذات مع دولة الكيان الصهيوني.
الأمر الثاني: أن هناك فرقًا جوهريًا
وحاسمًا بين رفع العقوبات وتعليق العقوبات، وهذا الفرق يتلخص في طبيعة الإجراء،
ومدته، وتأثيره القانوني والاقتصادي.
باختصار، الرفع هو إزالة للعقوبة بشكل
دائم، أما التعليق هو تجميد مؤقت، مع بقاء القدرة على إعادة تطبيقها فوراً.
في يناير 2025، وبعد سقوط الأسد
مباشرة، أعلنت الولايات المتحدة والأمم المتحدة عن تخفيف جزئي للعقوبات، لتسهيل
المساعدات الإنسانية والانتقال السياسي. على سبيل المثال، أصدرت وزارة الخزانة
الأمريكية إرشادات للسماح ببعض المعاملات الإنسانية، بينما بدأت الأمم المتحدة في
مراجعة قوائمها للعقوبات على الأفراد المرتبطين بالنظام السابق. هذه المرحلة ركزت
على تجنب الفوضى الاقتصادية دون رفع كامل.
في مايو 2025، بدأت أولى خطوات رفع
العقوبات، حين أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن قرار تخفيف كبير
للعقوبات، تضمنت وقف برنامج العقوبات السورية الرسمي، ورفع معظم القيود الاقتصادية
التي كانت تعيق عمليات التصدير والتعاملات المالية، مع استثناءات على صعيد قيود
محددة متعلقة بالأفراد والإجراءات الأمنية. وقد استمرت العقوبات على بعض الأشخاص
والكيانات المرتبطة ب"الإرهاب" وجرائم تجارة المخدرات وبعض القيود المتعلقة بإيران
وروسيا.
في 30 يونيو 2025، أصدر ترامب أمرًا
تنفيذيًا، يزيل العقوبات الأمريكية الشاملة اعتباراً من أول يوليو، مما سمح بتدفق
الاستثمارات والتجارة. هذا الرفع شمل معظم القطاعات الاقتصادية، لكنه حافظ على قيود
أمنية، كما تم إلغاء تصنيف هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب الأمريكية، وهي
الهيئة التي كان يرأسها الشرع سابقا، وفي نفس الوقت أكد الاتحاد الأوروبي على هذا
النهج، مع التركيز على إعادة بناء الاقتصاد.
وقبل زيارة الشرع الأخيرة، رفعت الأمم
المتحدة في 6 نوفمبر عقوباتها المتعلقة بالإرهاب على الشرع ووزير الداخلية أنس
خطاب.
ومن هنا نجيئ للهدف الثاني من الزيارة،
وهو توحيد سوريا، وإنهاء التمرد الطائفي الكردي، ووقف توغل الكيان الصهيوني في
الجنوب السوري، حيث تلك الأهداف مرتبطة ببعضها. كما ترتبط أيضا بالإزالة النهائية
للعقوبات.
لذلك ضغطت الولايات المتحدة، لجعل هذه
المطالب السورية حزمة واحدة، تتعلق بمطلبين أمريكيين، في حده الأعلى انضمام سوريا
لقطار التطبيع وعلى رأسه دخوله في اتفاقيات الاإبراهيمية، والحد الأدنى للمطالب
الأمريكية هو توقيع النظام اتفاق أمني مع الكيان الصهيوني، يتم فيه نزع سلاح الجنوب
السوري، والاحتفاظ بجبل الشيخ.
نتائج الزيارة
على ما يبدو، فإن الشرع لم يستجب لجميع
المطالب الأمريكية، وكانت هناك بعض المؤشرات التي تدل على ذلك.
أولها، أنه لم يتم استقباله في البيت
الأبيض كمراسم رئاسية تجري فيه بروتوكولات معينة، ولكن جرى استقباله بمراسم رئيس في
اجتماع عمل، من الباب الخلفي البيت الأبيض، وتم وضع له كرسي مقابل المكتب الذي يجلس
عليه ترامب.
والمؤشر الثاني، فبعد لقاء الرئيس
السوري أحمد الشرع مع ترامب في 10 نوفمبر 2025، أعلنت الولايات المتحدة عن إزالة
شاملة للعقوبات لمدة 180 يوماً، مما يحل محل الإعفاء السابق.
ولكن تم الاحتفاظ ببعض العقوبات على ما
يبدو، لاستدامة الضغط على الحكم الجديد، ومنها قانون قيصر، فلا يزال قائما جزئيا،
حيث يمنع الوصول الكامل إلى النظام المصرفي الدولي، ويحظر الاستثمارات الجديدة
بالدولار في بعض القطاعات، ويبقى عائقا رئيسياً أمام التعافي الاقتصادي.
كما لا تزال هناك عقوبات على السلع
العسكرية والكيميائية، تحتفظ بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا،
لمنع انتشار الأسلحة أو المواد الكيميائية، بما في ذلك حظر تصدير التكنولوجيا
العسكرية.
أما المؤشر الثالث، هو صرح به رئيس
وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو، في أعقاب زيارة الشرع للبيت الأبيض عندما قال: ما
يهمني هو هل سيعمل أحمد الشرع معي من أجل تحقيق منطقة منزوعة السلاح في جنوب غرب
سوريا، وأن يجعل من سوريا دولة مسالمة.
بينما يصر الرئيس أحمد الشرع على تحرير
الجنوب السوري من الوصاية الصهيونية، ففي مقابلته مع صحيفة واشنطن بوست قال: نحن
منخرطون في محادثات مباشرة مع "إسرائيل"، وقد قطعنا شوطًا جيدًا نحو اتفاق، لكن من
أجل التوصل إلى اتفاق نهائي، على "إسرائيل" أن تعود إلى حدود ما قبل 8 ديسمبر (يوم
سقوط الأسد).
كما لا تزال التوغلات الصهيونية مستمرة
في الجنوب السوري.
ولكن كيف يتصرف الشرع إزاء التعنت
الصهيوني الأمريكي؟
الشرع لا يزال يمتلك ورقتين يضغط بهما
على كل من أمريكا ودولة الاحتلال:
الأولى ورقة العلاقات مع روسيا، والتي
عرضت على الشرع تفعيل نظام دفاعها الجوي إس 400 والموجود أصلا في قاعدة الحميميم في
طرطوس، ليشمل أجواء سوريا الكامل، مقابل بقاء قواعدها العسكرية في سوريا، وبالتالي
استمرار نفوذها في شرق المتوسط.
أما الورقة الثانية، فهي غض الطرف عن
تسريب بعض شحنات السلاح الإيراني إلى حزب الله، وقد أفادت بعض الأنباء غير المؤكدة
أنه قد جرى استخدام تلك الورقة بالفعل.